الصحافة

edit

مقدمة

 

تعد قضية بناء الدساتير من أهم مقومات الدول القومية ونظم الحكم في العالم، لاسيما في المراحل الانتقالية من عمر الأمم والشعوب، وهي تلك الفترات التي تعقب الإطاحة بنظم الحكم القائمة: ثورة شعبية أو انقلاباً عسكرياً أو هزيمة عسكرية ساحقة، إذ تعتبر الدساتير بمثابة الأطر المؤسسة لشكل الدولة ونظامها السياسي الجديد المزمع بناؤه، سواء للتخلص من عيوب الدساتير السابقة المشرعنة لديكتاتورية الفرد وفساد النخبة، أو لإضافة مواد جديدة تؤسس لمرحلة سيادة القانون وإقرار الحريات وترسيخ الديمقراطية والحكم الرشيد.

ويعرض هذا التقرير لثلاثة مشروعات بحثية حول عملية بناء الدساتير تتمثل في: مشروع المنظمة الدولية لدراسة السلام "عملية بناء وتعديل الدستور: خيارات لإنجاز المهام" (1) ، ومشروع جامعة برينستون "كتابة الدستور وحل النزاعات" (2) ، ودراسة المعهد الأمريكي للسلام "ديمقراطية صنع الدستور" (3).

مشروع منظمة إنتربيس: خيارات بناء وتعديل الدساتير

 

أجرت المنظمة الدولية لبناء السلام "إنتربيس" Interpeace وعدد من المنظمات العالمية الأخرى, أهمها معهد السلام الأمريكي USIP، ومركز بوبست للسلام والعدالة ببرينسون Princeton's Bobst center for Peace and Justice . هذه الدراسة المشتركة التي اشتملت على 120 حالة حول العالم، وتم من خلالها إجراء عدد من الحوارات والنقاشات بشأن مجمل القضايا التى تخص عملية بناء الدساتير، مع عدد من الخبراء والأكاديميين الذين اضطلعوا بأدوار فاعلة في صياغة الدساتير ببلدانهم مقدمين تجاربهم في تلك المهمة وما اكتنفها من أزمات ومعضلات.

وجاءت الدراسة فى أربعة أجزاء تفصيلية تناولت كل ما يتعلق بالدستور وعملية بنائه: اشتمل  الجزء الأول على إطلالة أو رؤية عامة موجزة تعرف بعملية بناء الدستور، ودور الدستور كوثيقة تحدد مصائر الشعوب، ونظم حكمها، والمهام والمسؤوليات التى تتضمنها تلك العملية، وأثر كل واحدة منها على الأخرى. وتضمن الجزء الثانى شرحًا تفصيليًا لطبيعة كل مهمة من المهام التي تشتمل عليها عملية بناء الدستور. في حين اشتمل الجزء الثالث من الدراسة على توصيف دقيق للأطراف التي تسهم بمقترحاتها فى صياغة وثيقة الدستور، والدور الذى يمكن أن تضطلع به كل جهة أو طرف من هذه الأطراف. وأخيرًا تضمن الجزء الرابع أثر الفاعلين الخارجيين فى عملية بناء الدستور، والدور الذى قد يسهم به كل فاعل من هؤلاء الفاعلين في تلك العملية. 

مهام بناء الدساتير

 

ترى دراسة منظمة "انتربيس" أن بناء الدستور عملية معقدة بما تشتمل عليه من مهام ومراحل مختلفة، واختيار للفاعلين الأساسيين، من جهات، وأفراد، ومؤسسات، ومن ثم فإنه من الأهمية بمكان أن يتم استعراض ومراجعة المهام المختلفة لتلك العملية، والتي تتضمن بناء الموارد اللازمة للدستور، وكذلك الخيارات التى يمكن اللجوء إليها فى تحديد تسلسل أو ترتيب المهام، ومن ثم كتابة المسودة الأولية، والتداول بشأنها، قبل إقرارها في صورتها النهائية.

بناء الموارد:

تذهب الدراسة إلى أن العديد من الدول التى قامت ببناء دستور جديد عقب فترات طويلة من الصراع الداخلي الذى أنضب موارد الدولة، وقلص اقتصادها، واجهت مشكلات مالية عصية، ومن ثم فإن أى دولة يتعين عليها الالتفات إلى مسألة التمويل، وسبل جمع التبرعات والمنح المناسبة. فكل فرد داخل الدولة من حقه المشاركة فى انتخابات عادلة ونزيهة وفعالة، بيد أنه ليس كل دولة بمقدروها توفير التمويل اللازم لإنجاز عملية بناء دستور على النحو الذى يحقق آمال شعبها، ومن ثم فإنه من الممكن أن تحصل الدولة على مساعدات خارجية، فى صورة نقد، أو أجهزة، أو موارد بشرية لتسهم فى إنجاز عملية بناء الدستور الجديد.

التسلسل وتحديد المهام:

وفيما يتعلق بتسلسل المهام أو ترتيبها، وتحديد ما إذا كانت ثمة حدود لابد أن تفصل بين المهام المختلفة، فإن هناك العديد من المسائل والمعضلات التى يتعين حسمها قبل الشروع فى إنجاز المراحل المختلفة لبناء الدستور الجديد. وتتمثل إحدى أهم القضايا ذات الخصوصية التى ينبغي حسمها في تحديد الأسبقية بين بناء الدستور وإجراء الانتخابات، وتذهب الدراسة إلى أن الأفضل أن يأتي الدستور أولاً، وفى ذلك ميزة كبيرة، ذلك أنه حين يتم وضع الدستور أولاً، فإن المخول إليهم وضع الدستور وإقراره، والذين لا يعلمون بما ستؤول إليه الأوضاع في منافسات الانتخابات، أو اختيار أفراد الحكومة، سيضطرون إلى تنحية مصالحهم الشخصية جانبًا والسعي نحو إرساء قيم أوسع، ومصالح أكبر تخدم الجميع.

وثمة إشكالية أخرى تكمن فى تحديد ما إذا كان سيتم تحكيم أفراد الشعب واستطلاع رأيهم بخصوص وثيقة الدستور وبنودها قبل أم بعد إعدادها. وترى الدراسة أن استطلاع رأى الشعب بعد إعداد الوثيقة هو الأفضل، ففى تلك الحالة يصبح بين يدى أفراد الشعب وثيقة ملموسة يتسنى لهم فى وجودها بلورة رأى شامل بخصوصها، والتعليق على كل ما جاء بها من مواد وبنود. أما الميزة فى استفتاء الشعب قبل وضع الدستور، فتتمثل فى اتساع مساحة التعبير والمشاركة التى تفرد للشعب لكى يدلي كل فرد برأيه ويصوغ رؤيته ويرسم تصوره لشكل الدستور الجديد. ولأن كلا الخيارين ينطوى على منفعة، فإن ثمة خياراً ثالثاً هو الأنجع فى تلك الحالة، وهو أن يتم استفتاء الشعب قبل وبعد إعداد الوثيقة الأولية، وهو الخيار الذى بات شائعًا لدى العديد من الدول فى الآونة الأخيرة، وأبرزها كينيا وبوليفيا. 

كما تجدر الإشارة إلى أنه يتعين تحديد الدور المخول إلى جميع العناصر الفاعلة فى صياغة الدستور قبل البدء فى العملية. وتذهب الدراسة إلى أن أنجع عمليات بناء الدستور هى تلك التي تتحقق فيها حالة من التوازن، والتوافق بين مصالح فصائل وفئات الشعب المختلفة، ومن ثم فإنه يجب تضمين كل من الأحزاب السياسية، والجماعات الدينية، والطوائف العرقية، والمهنيين، ومنظمات الأعمال، والنقابات، والنساء، والمعاقين، والمواطنين المقيمين في الخارج، وبعض أطراف المجتمع الدولي.

المشاركة الشعبية: 

ثمة أشكالاً متعددة لهذه المشاركة أشارت إليها الدراسة، منها تضمين أفراد عاديين من الشعب داخل اللجنة التأسيسية، أو جمع ترشيحاتهم بخصوص ممثلي الجمعية التأسيسية، والتعليق على مسودة للدستور، أو المشاركة فى اقتراع عام على الوثيقة الأولية والأخيرة لضمان القبول الشعبي للدستور.

كتابة المسودة الأولية: 

وفقًا للدراسة، فإنه يتعين أولاً الفصل بين المرحلة التى يتم فيها اتخاذ القرارات بشأن محتوى وثيقة الدستور، وبين مرحلة الكتابة نفسها. وفيما يتعلق بالمرحلة الأولى، فهناك العديد من الخيارات المتاحة لإنجازها، فقد كان المتعارف عليه والشائع قديمًا أن يقوم أى من المجلس التشريعي أو الجمعية التأسيسية، عادة من خلال لجنة منبثقة عن أي منهما بإعداد المسودة، وتقوم اللجنة التأسيسية أيضًا بمداولة المسودة، ومناقشتها وإدخال التعديلات عليها، بيد أنه فى الآونة الأخيرة نحت الدول منحى آخر، فأضحت هناك جهة تقوم هى بإعداد الوثيقة، وتكون بعيدة كل البعد ومنفصلة تمامًا عن تلك التى تقوم بمداولتها ومناقشتها واعتمادها، وعادة ما يطلق على تلك الجهة اسم لجنة صياغة الدستور، والمفترض أن تتألف جميعها من خبراء متخصصين فى القانون والعلوم السياسية، والاقتصاد، والإدارة العامة.

وحين تقوم تلك اللجنة بكتابة الوثيقة، فإنها تفعل ذلك ملتزمة بنسق من الأهداف، المحددة بشكل مسبق، والعناصر الإجرائية الرئيسة المتفق عليها. ولما كانت الجمعية التأسيسية هي هيئة تمثيلية، فإنها تتمتع بقدر كبير من الاستقلالية يمكنها من تحديد مجموعة القيم والإجراءات الأساسية التى يتم اتباعها فى صياغة وثيقة الدستور. ذلك أن ثمة توازناً لابد أن يتواجد بين رؤى الفقهاء الدستوريين، ورؤى متخصصي العلوم السياسية الذين تقترب رؤاهم من رؤى الشعب ورغباته، ومن هنا فإن تقسيم المهام والمسؤوليات على هذا النحو هو الذى يحدد وجود هذا التوازن من غيابه. 

وتؤكد الدراسة أن ثمة فوائد عظيمة ينطوي عليها قيام لجنة من المتخصصين (فقهاء دستوريين، خبراء علوم سياسية... إلخ) بهذا الدور داخل عملية بناء الدستور، تتمثل فى إنتاج مسودة دستور بمنأى عن الفرقاء السياسيين ومصالحهم وأهوائهم، كما أن ذلك يعزز فرص المشاركة الشعبية فى تلك العملية. 

الطبيعى والشائع، وفقًا للدراسة، أن يضطلع بكتابة نص الدستور خبراء قانونيون متخصصون، وتترك لهم مهمة تحديد الهيكل البنائي للوثيقة، واللغة المستخدمة. وترى الدراسة أن كتابة نص الدستور ليس بالمهمة المناسب تخويلها لتجمع كبير من الأفراد، بل لابد من تخويلها لجهة تتألف من عدد محدود من الأفراد يكون لهم باع فى صياغة هذا النوع من الوثائق، وهو ما يعد أحد المتطلبات التي لن نجدها متوفرة لدى أعضاء البرلمان العاديين.

مداولة مسودة الدستور: 

تؤكد الدراسة على إنه أضحى من الشائع تخصيص مساحة زمنية، لاستقبال ردود أفعال الرأي العام وتعليقاته على وثيقة الدستور قبل التصديق عليها وإقرارها. ومن الممكن اعتبار فترة استفتاء الشعب على الدستور هذه فرصة للتفحص والتعرف على مواطن الضعف والقوة فى الوثيقة الدستورية. ومحاولة تعديلها، وتصحيح أي أخطاء اشتملت عليها الوثيقة. وهناك دول وصل بها الأمر إلى الاستعانة بخبراء آخرين، خارج اللجنة التى صاغت النص، لمراجعة المسودة. وإذا ما حدث انقسام بين ما أيدته الأحزاب السياسية وبين ما أيده عامة الشعب، فمن الممكن استغلال تلك الفترة فى رأب الصدع بين الرؤى المتضاربة، ومحاولة الوصول إلى إجماع على صيغة توافقية واحدة، وإن تخللت تلك الفترة اختلافات وخلافات كبيرة بين أصحاب الرؤى المختلفة.

ومن الأهمية بمكان، وفقًا للدراسة، أن يسبق هذه الخطوة إطلاق حملات توعية شاملة, ليصبح كل فرد من أفراد الشعب على وعي ودراية بمحتوى الوثيقة، وما تعنيه بنودها، بما يمكنهم من الاضطلاع بدور مهم في عملية التصويت، وهذا هو دور منظمات المجتمع المدني، والأكاديميين المتخصصين فى هذا المجال.

مشروع جامعة برينستون.. كتابة الدستور وحل النزاعات

 

تأتي الدراسة كجزء من مبادرة أكبر اضطلع بها مركز دراسات السلام بالولايات المتحدة الأمريكية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائى، وتهدف إلى اكتشاف العلاقة التى تربط بين صياغة الدستور وحل الصراع أو النزاعات في الدول المختلفة، ومن ثم فهي لا تعني الاختيار أو المفاضلة بين طرق وضع الدساتير في الدول بقدر ما تقدم الأنماط المختلفة التي اتبعتها الدول في كتابة دساتيرها في الفترات الانتقالية للتحول نحو الديمقراطية.

وتشدد الدراسة على أن عملية كتابة الدستور الجديد عادة ما تأتي عقب فترات من العنف، وفى مثل تلك الحالات يواجه السياسيون معضلة حقيقية عند التأسيس لدستور جديد، تتمثل في أنه في الوقت التي ترغب فيه جموع الشعب بمعاقبة الفاسدين ورموز الحقبة الآفلة، يظل النظام  القديم على قدر كاف من القوة لعرقلة تقدم عملية إنشاء دستور جديد وسحب البلاد للعنف مرة أخرى، ومن هنا يبرز مفهوم العدالة الانتقالية التي تسمح بدرجة من المرونة لحل هذه المعضلة.

مراحل كتابة الدساتير

 

حددت دراسة جامعة "برنستون" خمس مراحل تمر بها عملية كتابة الدساتير حول العالم، تبدأ بالاتفاق حول القواعد الأساسية المتبعة فى كتابته، والأشكال الإجرائية المصاحبة لتلك العملية، وتتنتهى بإقرار الدستور والتصديق عليه، وهي المراحل التي عرضتها الدراسة باعتبارها خطوات متتابعة ومتكاملة. ويمكن استعراض المراحل الخمس المتبعة في كتابة الدساتير بدول العالم المختلفة، والتي تناولتها الدراسة على النحو التالي:

المرحلة الأولى: فى فترات الأزمات والتغيير الجذري، وعندما يكون الدستور القائم غير قادر على وضع الخطوط الإرشادية التى يمكن اتباعها فى كتابة الدستور الجديد، فإن العملية تبدأ بمداولات حول الشكل المناسب لعقد النقاشات التالية. ويختلف حجم المشاركة بين الأطراف السياسية فى هذه المرحلة والقضايا محل النظر من مكان إلى آخر.

وعادة ما تتم هذه المداولات فى شكل مباحثات تدور بين كبار رجال الحكومة القائمة، وأهم قوى المعارضة، وفى بعض الأحيان، فإن الأطراف المشاركة فى هذه المناقشات، تقبل الأخذ بأى تعديلات تطرح على الترتيبات التي أقروها، وفق معايير معينة يحددونها، ويكون على الجميع احترام جميع القرارات التى اتخذت فى هذه المرحلة بشأن ما اتفق عليه من إجراءات لبناء الدستور الجديد.

المرحلة الثانية: فى حوالي 33% من الدساتير التي تمت كتابتها خلال الفترة من 1973 -2003، كان تحضير دستور مؤقت أو وضع مجموعة من المبادئ الثابتة غير القابلة للتعديل، هو الخطوة الثانية فى عملية كتابة الدستور الجديد. وفى بعض الأحيان، فإن الوثيقة المؤقتة تستعين بدستور سابق يكون معدلاً بدقة حتى يستخدم كأساس للتنسيق بين الأطراف المختلفة فى المرحلة الانتقالية.

وتشير المبادئ الثابتة هذه، غير القابلة للتعديل، إلى مجموعة الشروط الأساسية التى لابد من توافرها فى الوثيقة النهائية للدستور الجديد المزمع وضعه حتى يتم التصديق عليه. وفى هذه المرحلة، تكون الأطراف المشاركة في هذه العملية هم كبار المسؤولين داخل الكيانات والقوى السياسية البارزة في الدولة.

المرحلة الثالثة: تتمثل في صياغة المسودة الأولية للدستور، التي تمهد لمرحلة إعداد الشكل النهائي للوثيقة الدستورية. ويختلف تناول هذه المرحلة على نحو واسع بين الدول المختلفة، ويمكن أن تسبق هذه الخطوة فترة من النقاش العام.

ففى ما يزيد على 50% من مجموع النماذج محل الدراسة تتم خطوة إعداد مسودة أولى من الدستور عن طريق لجنة معينة، يتم اختيار أعضائها بواسطة السلطة التنفيذية، أو الأفراد المشاركين فى مفاوضات "المائدة المستديرة"، أو السلطة التشريعية، أو بواسطة السلطة التشريعية الانتقالية إلى جانب المؤتمر الوطني. 

وفى نحو 25% من النماذج التي شملتها الدراسة، فإن ثمة جمعية تنبثق عن الهيئة المعنية بالمداولات deliberative body تعد المسودة الأولى للدستور. وفى 8% من البلدان محل الدراسة، يتم انتخاب غرفة لإعداد مسودة أولى للدستور، تقوم بكتاباتها في مجموعات عمل، ثم تعرض بعد الانتهاء منها في جلسة عامة. وهناك أيضًا بعض الحالات التى تقوم فيها الأحزاب السياسية بتقديم اقتراحات لمسودة الدستور، وعادة ما تكون المجموعة المنوطة بإعداد المسودة الأولى للدستور صغيرة الحجم، ونادرًا ما تكون مداولاتها بخصوص الوثيقة النهائية معلنة أمام الرأى العام, ولكنها يمكن أن تقدم تقارير دورية للصحف القومية، وكذلك للجنة التأسيسية.

المرحلة الرابعة: فى معظم الدول يتم عرض مسودة الدستور على مجلس منتخب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يكون هو المسؤول عن مناقشة المسودة وتعديلها وإقرارها. وتتراوح فترة المباحثات ما بين ساعات وعدة أشهر، وقد يكون لبعض الوسطاء من غير ذوي الصفة الرسمية دور مهم فى تحقيق التسوية داخل اللجنة، وقد يسبق المرحلة النهائية من المداولات بعض حلقات الاستماع العامة، أو فترة لإبداء التعليقات. 

أما عن نسب تمثيل الجهات التسع لهيئة المداولة deliberative body المعنية بكتابة الدستور فى الدول المختلفة وفقًا لما رصدته الدراسة، فكانت: 17% جمعية تأسيسية، 3% مؤتمر وطني، 2% مائدة مستديرة، 42% السلطة التشريعية، 9% لجنة معينة بواسطة السلطة التشريعية، 10% السلطة التنفيذية أو لجنة معينة من قبلها، 6% مفاوضات سلام أو إنهاء استعمار، 6% مجلس تشريعي انتقالي معين، 5% اللجنة المركزية للحزب.

المرحلة الخامسة: تتمثل في إقرار الدستور الجديد والتصديق عليه، وهى المرحلة الأخيرة في عملية صياغة الدستور، وفي حوالي 50% من الدول محل الدراسة، تم إجراء استفتاء شعبي لإقرار الدستور. وكان هذا الخيار الأكثر شيوعًا, لاسيما في حالة كون الهيئة الخاصة بعملية معينة أو منتخبة بطريق غير مباشر.

وتختلف المدة المخصصة للحملات التوعوية civic education and campaigns قبل الاستفتاء من دولة إلى أخرى، وفي أغلب الدول التي خضعت للدراسة، وقعت مسؤولية التصديق على الدستور على عاتق  اللجنة المنوط بها إعداد المسودة النهائية للدستور.

المشاركة الشعبية في بناء الدستور

 

على غرار مشروع منظمة انتربيس، أشار مشروع جامعة برنستون إلى مشاركة المواطنين العاديين فى عملية إنشاء الدستور. وهى المشاركة التى قد تأتي بطرق عدة، أشارت إليها الدراسة كالتالي:

  • التمثيل Representation:

تتمثل إحدى طرق تضمين المواطنين العاديين فى عملية إنشاء الدستور فى اختيار مجموعة من الأفراد يمثلون الشعب، ينضمون إلى الجهات المنوط بها إنشاء الدستور. ويعد الانتخاب العام المباشر هو الآلية المثلى لاختيار هؤلاء الممثلين، مع الأخذ في الاعتبار: القواعد التى تحكم العملية الانتخابية، وإمكانية الدخول إلى أماكن الاقتراع، ومستوى التوعية والمعلومات المتوافرة، والحالة الأمنية، وهو ما يؤثر جميعًا في مستوى تمثيل رؤى الشعب وتوجهاته في المداولات التالية. 

وفى بعض البلدان يخول للمنظمات الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع تفويض مجموعة الممثلين لخوض المداولات الخاصة ببحث مواد الدستور. وعلى الجانب الآخر هناك بعض الدول التى تقوم فيها الحكومة باختيار من يقوم بصياغة الدستور، ومن يجرى المداولات والمباحثات التالية لعملية الصياغة، دون الالتفات إلى أى وجهات نظر أخرى مغايرة، ودون تضمين أصحاب المصالح المختلفة داخل المجتمع.  

التحكم في عملية التصديق Control Over Ratification:

تطرح الدراسة مجموعة من الخيارات لضمان وجود نوع من التأثير الشعبي على عملية التصديق، سواء بانتخاب لجنة من المفوضين يكون من حقها التصويت على الدستور قبل التصديق عليه، أو أن يكون من حق الشعب أن يرفض الوثيقة الدستورية فى اقتراع وطنى بعد حملة من التوعية الشاملة بخصوصها، تتم  خلال فترة محددة.

وتشير الدراسة إلى أن الاقتراعات الشعبية لا تعد هى الوسيلة القاطعة لحماية حق الشعب فى المشاركة، والسبب فى ذلك يرجع فى جزء منه إلى حقيقة أنه من الصعب التوقع أن معظم أفراد المجتمع سيقومون بإعلام بعضهم البعض بما اشتملت عليه الوثيقة الدستورية التى قد تأتى على قدر من التعقيد يصعب معه تبادل الأحاديث عنها، ومن ناحية أخرى فإن معدل المشاركة فى تلك الاقتراعات قد يكون متدنيًا.  

المشاورات Consultation:

تشير الدراسة إلى أنه من الشائع عند كتابة الدساتير أن تتم مشاورة أفراد من الشعب فى المراحل المختلفة لكتابة الدستور، وهو ما قد يكون من خلال التقاء فريق صياغة مسودة الدستور الأولية بقادة شعبيين، واقتصاديين، وغيرهم من المدنيين، بمن فيهم القاطنون خارج العاصمة، أو أن تكون هناك لجان استماع تتم فيها مباحثة القلاقل وردود الأفعال المتباينة إزاء الوثيقة، أو أن يكون للجهات المدنية أو المواطنين العاديين حق إبداء تعليقاتهم، هذا إلى جانب إمكانية السماح للإعلام بتغطية المراحل الأساسية من عملية إنشاء الدستور، وأن يفسح المجال للنقاش العام بشأنها من خلال افتتاحيات الصحف، واللقاءات الحوارية، وبريد القراء.

وتشير الدراسة إلى أن هناك 40 دولة من إجمالى 194 شملتها الدراسة، خضعت لديها عملية إنشاء الدستور لنوع من هذه المشاورات, وفى أكثر من 30% من الحالات كان القائمون على صياغة الدستور يوظفون أكثر من أسلوب لاستطلاع الرأى العام، وفى 25% منها كانت جهودهم تمتد إلى أماكن نائية شملت الريف والحضر. 

دراسة المعهد الأمريكي للسلام: ديمقراطية صنع الدستور

 

تضطلع دراسة المعهد الأمريكي للسلام ببحث نماذج تطبيقية لكتابة الدساتير في بلدان مختلفة كجزء من عملية السلام, خاصة فى المجتمعات التى تشوبها الانقسامات، كما تقدم تحليلاً للممارسات الحديثة في وضع الدساتير في جميع أنحاء العالم، وتوثق المعايير الدولية لحقوق الإنسان التي أيدت حق الشعوب في بناء دساتيرها.

ولعل النقطة الأبرز في هذه الدراسة، ما خصصته للجانب التطبيقي بشأن المشاركة الشعبية في صياغة الدساتير بين الدول المختلفة. وفي هذا الإطار، ترى الدراسة أن الشائع عن مفهوم مشاركة العامة فى عملية صنع الدستور كان ينحصر فقط فى عملية التصويت, سواء كان على وثيقة دستورية أو للتصديق على نص دستوري من خلال استفتاء شعبي. بيد أن كندا ودولاً أفريقية أخرى قدمت نموذجًا مختلفًا عن هذا المفهوم، حيث فضلت هذه الدول أن تبدأ بسجل نظيف بدلاً من العمل في إطار إجراءات سابقة قد تبدو غير مقبولة باعتبارها من ميراث الحقب والمراحل غير الديمقراطية التي سادت العديد من دول العالم في السابق.

ففي كندا، التي تشوبها منذ القرن الثامن عشر الخلافات والنزاعات اللغوية، بسبب التضارب فى المصالح بين العرقيات الفرانكوفونية والأنجلوسكسونية، لجأت الحكومة الكندية منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى توسيع وتعميق المحادثات الدستورية بين الأطياف المختلفة قبل أن تقوم المحكمة العليا بإقرار النقاش المفتوح كمبدأ أساسي لكتابة الدستور، وهو المبدأ الذي مكن كندا من وضع ميثاق جديد للحقوق والحريات تم التصديق عليه عام 1982، يكفل الحريات العامة ويقضي على أي مظهر من مظاهر التمييز بين المواطنين أيًا كانت خلفياتهم الثقافية.

وتعد تجربة نيكاراجوا نموذجًا متميزًا فى هذا الشأن، وفقًا للدراسة، حيث قام مجلس الشعب هناك عام 1986 بتوجيه دعوة عامة للشعب للمشاركة في وضع تعليقاتهم وآرائهم على مسودة الدستور الجديد. وبالفعل شارك أكثر من 100.000 مواطن في لقاءات ومناقشات مفتوحة فى أنحاء البلاد، وقاموا بتقديم أكثر من 4300 اقتراح للدستور الجديد وضعتها السلطات في اعتبارها حين إصدار الدستور الجديد للبلاد.

وفى عام 1988 طالب صانعو الدستور في كل من أوغندا والبرازيل بتلقي المقترحات والتعليقات المقدمة من الشعب حول الدستور قبل أن يبدأوا في كتابة الوثيقة الدستورية بالفعل، بعد الانتهاء من إعداد المسودة النهائية للدستور، وقد لاقت هذه الخطوة بالفعل مستويات مثيرة للإعجاب من الاستجابة الشعبية في البلدين.

ويعتبر دستور جنوب أفريقيا لعام 1996، وفقًا للدراسة، من أكثر الدساتير نجاحًا وديمقراطية حيث أعطت جنوب أفريقيا مثالاً رائدًا في تجسيد المشاركة الشعبية فى عملية وضع الدستور، فالطريقة التي أديرت بها عملية بناء الدستور الجديد مكنت المجتمع من الانتقال من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية الحقيقية. وقد استغرق وضع الدستور حوالي سبع سنوات من النقاش المجتمعي العام من 1990 حتى 1996  للوصول للشكل النهائي الذي ارتضاه الشعب.

وفى خلال هذه المدة تم إصدار دستور مؤقت، يحمل المبادئ الأساسية للتوافق، وفي عام 1994 قامت اللجنة الدستورية بتشجيع الشعب، الذي كان يصوت لأول مرة فى تاريخه، على المشاركة فى عملية صنع الدستور تحت شعار "لقد قمت بعملك، والآن قل كلمتك". وفى خلال هذه المدة حمل مجلس الشعب فى جنوب أفريقيا على عاتقه مهمة تثقيف الشعب وتوعيته بأمور الدساتير والديمقراطية عن طريق حملات التوعية في وسائل الإعلام من صحف وإذاعة وتليفزيون وأيضًا في وسائل المواصلات العامة, وقاموا بإصدار صحيفة خاصة لهذا الشأن.

وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن لجنة الدستور نجحت في الوصول إلى نحو 73% من المواطنين فى جنوب أفريقيا، حيث قدم المواطنون للجنة الدستورية حوالي 2 مليون مقترح، ومن ثم فقد أقرت النسخة النهائية للدستور فى 1996 بنسبة تصويت بلغت 86%، وشارك فيه جميع طوائف المجتمع من نساء وأقليات.

وفي تجربة أخرى ذات أهمية رصدتها الدراسة، قام البرلمان الرواندي عام 2002 بانتخاب لجنة لوضع الدستور، وألزم البرلمان هذه اللجنة بأن تكون عملية توعية وتثقيف المواطنين بعملية صنع الدستور على رأس مهامها، على أن يتم ذلك الأمر قبل البدء في كتابة الدستور، لذلك فقد قام أعضاء من لجنة وضع الدستور بالتعاون مع الآلاف من المدربين الذين انتشروا بين المواطنين ليقضوا ستة أشهر فى جميع المحافظات، لتتحول بعد ذلك عمليات التثقيف والمناقشات الدستورية إلى جزء لا يتجزأ من حياة المجتمع، ومن ثم فقد وصلت نسبة إقبال الناخبين على التصويت على الدستور الجديد إلى ما يزيد على 90% ممن لهم حق التصويت.

وعلى صعيد أفريقي آخر، رصدت الدراسة تجربة زيمبابوي الناجحة في المشاركة الشعبية في عملية صياغة الدستور، حين ضغطت قوى المجتمع المدني وقوى المعارضة الرئيسة في البلاد على النظام الحاكم عام 1997، لإعداد دستور جديد للبلاد، وأصرت على المشاركة الشعبية فى هذه العملية. وبالفعل أصدر الرئيس الزيمبابوي عام 1999 قرارًا بتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد بالتشاور مع القوى الشعبية. وقدمت اللجنة خطة مثالية لصنع الدستور تتضمن عقد مؤتمرات شعبية وحلقات نقاش, وطرح الدستور للنقاش المجتمعي، وتلقت اللجنة ما يقرب من 7000 اقتراح مكتوب، وعقدت أكثر من 400 اجتماع فى كل أنحاء البلاد، وتفاعلت مباشرة مع أكثر من نصف مليون مواطن. ولكن ما عاب هذه اللجنة، وفقًا للدراسة، أنها كانت معينة من قبل الرئيس, وبالتالي كانت تدين له بالولاء بما جعله يتحكم فى عملها، ما تسبب في حدوث نزاعات حزبية عنيفة وصراعات مجتمعية، وبعد أن انتهت اللجنة من وضع النسخة النهائية للدستور عرضه الرئيس مباشرة للاستفتاء دون أى نقاش مجتمعي، ومن ثم فقد صوت الناخبون عام 2000 ضد هذه النسخة التي لم يرتضها الشعب. 

nahda2011

هيثم البشلاوى(باحث فى الأدارة الأستراتيجية)

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 154 مشاهدة
نشرت فى 3 يوليو 2012 بواسطة nahda2011

مقدمة

 

 

في الأدبيات المعاصرة، ثمة علاقة جدلية دائمًا ما تصم العلاقة بين المال والسياسة في النظم السياسية سواء الديمقراطية أو غير الديمقراطية، فعلى الرغم من حالة الارتباط العضوي بين كل منهما وأهمية كل منهما للآخر، إلا إنه وفقًا لـ"جيمس ك. بولوك" صاحب الدراسة الرائدة عام 1926 حول ممارسات التمويل السياسي في النصف الأول من القرن الفائت، فإن "العلاقة بين المال والسياسة تظل إحدى أكبر المشكلات للحكومات الديمقراطية، بل إن الحياة السياسية الصحية –وفقًا لبولوك- لن تكون ممكنة طالمًا كان استخدام النقود غير مقيد"(1).

وكلاسيكيًا، عمد حكماء الإغريق القدماء إلى فصل المال عن السلطة، تلافيًا للفساد والإفساد(2)، كما إن غالب النظريات التي تدرس ظاهرة الثورات ترى أن المال دائمًا ما يلعب دورًا أساسيًا في اشتعال الثورات على مدى العصور، فعلى صعيد الثورة الفرنسية رفضت طبقة النبلاء أن تتقاسم السلطة مع البرجوازية الناشئة من أصحاب الأموال، فاستعملت تلك البرجوازية الشعب للقيام بالثورة على نظام الحكم القائم، في حين تفادى النبلاء الإنجليز ذات المصير، لأنهم تنازلوا عن جزء من سلطتهم لصالح البرجوازية الإنجليزية صاحبة المال(3).

وإذا كان من المسلم به أن الأحزاب السياسية لها دورها المهم في بناء الديمقراطية، خصوصًا في الديمقراطيات الناشئة، باعتبارها مرتكزًا من مرتكزات تداول السلطة والتنشئة السياسية والتجنيد السياسي في النظم المعاصرة، فإن فاعلية تلك الأحزاب وبقاءها وقدرتها التنافسية على أداء وظاتئفها الديمقراطية مرهون بمدى ما تحوزه من قدرات مالية وتمويلية، بيد أن السواد الأعظم من المواطنين حول العالم يرون أن المال السياسي ومانحيه يثيرون من الإشكاليات ما يرونه مقوضًا للديمقراطية ذاتها لا خطرًا عليها فحسب(4).

ويعرف المال السياسي؛ بأنه "كافة الجوانب المتعلقة بتمويل الأحزاب السياسية ومرشحيها وإنفاقها للموارد في إطار الحملات الانتخابية والأوقات الأخرى غير أوقات الانتخابات"(5)، وعلى الرغم من أهمية التمويل السياسي بالنسبة لبناء الديمقراطية وترسيخها، إلا أن هذا الموضوع يعد أحد الإشكاليات البحثية التي لم تحظ بمناقشات أكاديمية جادة تؤطر لهذه الظاهرة العالمية وتضع لها القواعد والنظريات المفسرة، بل إن معظم النظم السياسية حول العالم، حتى الديمقراطية منها، تعاني من ندرة المعلومات المتعلقة بالتمويل السياسي للأحزاب والمترشحين في الحملات الانتخابية.

ومن ثم فقد استتبع فقدان الشفافية فيما يتعلق بالتمويل السياسي حالة من الجدل العام تطفو بين الحين والآخر، لاسيما مع بروز فضائح التمويل لبعض السياسيين والأحزاب في دول عدة، الأمر الذي أفضى إلى ظهور منهاجيات متطرفة تنظر لأي تمويل سياسي بعين الريبة وتضعه في بداية تفسير أي ظاهرة سياسية حتى ولو كان ذلك بأسلوب سطحي وملتوٍ(6).
وتسعى هذه الورقة إلى بحث ظاهرة المال السياسي واستخداماته في الأنشطة الحزبية والحملات الانتخابية، والأطر القانونية المنظمة لقضية التمويل السياسي حول العالم في إطار مقارن، ومقتضيات الشفافية والمحاسبية المتعلقة بهذا الأمر، ثم تعرض الورقة للحالة المصرية من حيث القوانين المنظمة للتمويل السياسي، قبل أن تقدم حزمة من التوصيات التي يمكن اتباعها في مصر لمجابهة سلبيات ظاهرة التمويل السياسي وفقًا للتجارب الدولية المتعلقة بهذا الشأن.

واقع التمويل السياسي في مصر

 

في الحالة المصرية، تعد قضية التمويل السياسي من القضايا المثيرة للجدل، لاسيما في المواسم الانتخابية، وقد شهدت مصر في الفترة الأخيرة تراشقًا إعلاميًا بتلقي أحزابًا بعينها أو مرشحين رئاسيين محددين تمويلاً أجنبيًا لصالح حملاتهم الانتخابية، وهو ما لم يؤكده أو ينفيه أية وثائق قانونية يمكن الاستناد إليها، لكن ذلك لم يتف في الوقت ذاته سيادة حالة من القلق العام إزاء قضية المال السياسي إبان أحد أهم الاستحقاقات الانتخابية بعد الثورة، وهي الانتخابات الرئاسية مصر 2012.

ودرءًا لتلك المخاوف، عمدت اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية إلى إصدار قرارات ولوائح لتنظيم تمويل الدعاية الانتخابية، على غرار ما قررته سلفًا اللجنة العليا لانتخابات مجلسي الشعب والشورى، حيث حظرت تلقي أو استخدام التمويل الأجنبي في الدعاية الانتخابية بأي شكل من الأشكال سواء كان من أفراد أو منظمات أو دول أجنبية.

وبالمقابل، أبقت اللجنة على مبدأ التمويل العام غير المباشر للمترشحين للانتخابات الرئاسية ـ على غرار الأحزاب السياسية في انتخابات مجلسي الشعب والشورى ـ ، من خلال السماح باستخدام وسائل الإعلام العامة المملوكة للدولة، وخاصة الإذاعة والتليفزيون الرسميين، في الدعاية الانتخابية شريطة أن يكون ذلك بشكل محايد، يكفل للجميع الحصول على مساحات إعلانية زمنية وتوقيتية موحدة دون تمييز أو انحياز لأي طرف كان(27).

وعلى الصعيد القانوني، حدد القانون رقم 174 لسنة 2005 بتنظيم الانتخابات الرئاسية المعدل بالمرسوم بقانون رقم 12 لسنة 2012، مبلغ 10 ملايين جنيه كحد أقصى لما ينفقه كل مرشح في حملته الانتخابية في الجولة الأولى التي يتم الاقتراع بها يومي 23 و24 مايو 2012، على أن يكون الحد الأقصى المسموح به في جولة الإعادة 2 مليون جنيه (مادة 24).

وشدد القانون كذلك على حظر تلقي أي شكل من أشكال التمويل من أشخاص أجانب أو جهات اعتبارية أجنبية أو منظمات دولية (مادة 27)، في حين يسمح بتلقي المرشح الرئاسي تمويلاً من أشخاص طبيعيين مصريين بشرط ألا يزيد عن 2% من الحد الأقصى المسموح به للفرد الواحد (مادة 26)(28). 

وعلى الرغم من ذلك فإن ثمة ثغرات قانونية قد تشوب نزاهة العملية الانتخابية، إذ إن الجهة المنوط بها الاضطلاع بتسيير العملية الانتخابية، وهي اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، غير مخولة بشطب أو معاقبة أو استبعاد أي مرشح قد يخرق تلك الشروط بشكل أو بآخر.

ففي حالة ضبط مرشح مخالف لتلك الشروط المتعلقة بتمويل الحملة الانتخابية، تقوم اللجنة بإحالة مخالفته إلى النيابة العامة للتحقيق معه واتخاذ اللازم، بما قد تصل عقوبته إلى الحبس، ولكن في الوقت نفسه فإن لجنة انتخابات الرئاسة لا تملك شطب هذا المرشح الذي يتم التحقيق معه بتهم تتعلق بمخالفة شروط الدعاية أو تلقي تمويل محظور، وقد يدان المرشح المخالف من قبل النيابة العامة ويحكم عليه من قبل القضاء بالحبس، ومع هذا وفي الوقت نفسه، فإن ذلك المرشح يظل مستمرًا في مارثون الانتخابات الرئاسية، بل إنه في حالة فوزه، فإن اللجنة ملتزمة بإعلان فوزه كرئيس دون النظر إلى حكم القضاء بإدانته في هذه الشأن(29). 

وإذا كان هذا هو حال التأطير القانوني لتمويل المرشحين الرئاسيين، فإن ثمة ثغرات أيضًا تشوب قضية تمويل الأحزاب السياسية. ففي دستور 1971 السابق وتعديلاته كان نظام التمويل السياسي للأحزاب مختلطًا يجمع بين نمطي التمويل العام والتمويل الخاص، ولكن بقيود (حيث يقتصر التمويل الخاص للأحزاب وفقًا للدستور القديم على اشتراكات وتبرعات الأعضاء)، ويحظر الدستور التمويل الأجنبي بكافة صوره وأشكاله، وكذا التمويل الخاص الذي مصدره شخصيات اعتبارية حتى ولو كانت مصرية.

وفي ظل ذلك، نصت المادة 11 من نظام الأحزاب السياسية وفقًا لدستور 1971 السابق، والمعنية بتنظيم الموارد المالية للأحزاب، على إنه "تتكون موارد الحزب من اشتراكات أعضائه، وما يتلقاه من دعم مالي من الدولة، ومن تبرعات الأشخاص الطبيعيين المصريين، وكذلك من حصيلة استثمار أمواله في الأوجه غير التجارية التي يحددها نظامه الداخلي. ولا يعتبر من الأوجه التجارية فى حكم هذه المادة استثمار أموال الحزب فى إصدار صحف أو استغلال دور للنشر أو الطباعة إذا كان هدفها الأساسي خدمة أغراض الحزب. ولا يجوز للحزب قبول أى تبرع أو ميزة أو منفعة من أجنبي أو من جهة أجنبية أو دولية أو من شخص اعتباري ولو كان متمتعا بالجنسية المصرية. ويلتزم الحزب بأن يخطر الجهاز المركزى للمحاسبات بما تلقاه من تبرعات وبالبيانات الخاصة بالمتبرعين وذلك فى نهاية كل عام. ولاتخصم قيمة التبرعات التى تقدم للأحزاب من وعاء أي ضريبة"(30).

ومع إيقاف العمل بدستور 1971 بعد ثورة 25 يناير، ومع إصدار الإعلان الدستوري في مارس 2011 وما تبعه من قوانين مكملة ومراسيم بقوانين، توقف العمل بهذه النصوص، وأصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة مرسومًا بقانون رقم 12 لسنة 2011 بتعديل بعض أحكام القانون رقم 40 لسنة 1977 الخاص بنظام الأحزاب السياسية، ألغى بموجبه الدعم المالي الذي كانت تتلقاه الأحزاب من الدولة، ولكنه احتفظ بباقي ما تضمنته المادة 11 من الدستور القديم(31)، وبالتالي لم تعد الأحزاب في مصر تتلقى تمويلاً عامًا من الدولة بشكل مباشر.

بيد إن أي من هذه الأطر القانونية والدستورية الجديدة لم ينص على عقوبات محددة بشأن التجاوزات المتعقلة بالتمويل السياسي سواء تلقي أموال من جهات أجنبية أو أشخاص اعتباريين مصريين، وهي العقوبات التي نص عليها في دستور مصر السابق الموقوف العمل به والذي تضمن ضوابط عدة للحد من ممارسات الفساد التي قد تشوب عمليات التمويل السياسي للأحزاب السياسية، لعل أهمها(32):

- يعاقب بالحبس كل مسئول في حزب سياسي أو أي من أعضائه أو من العاملين به، قبل أو تسلم مباشرة أو بالواسطة، مالاً أو حصل على ميزة أو منفعة بغير وجه حق، من شخص اعتباري مصري، لممارسة أي نشاط يتعلق بالحزب.

- يعاقب بالحبس كل مسئول في حزب سياسي أو أي من أعضائه أو من العاملين به، قبل أو تسلم مباشرة أو بالواسطة، مالاً أو حصل على ميزة أو منفعة من أي جهة أجنبية.

- يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن خمس سنوات، كل مسئول في حزب سياسي، إذا ثبت قيام الحزب كفرع لحزب أو تنظيم سياسي أجنبي.

فأمام إلغاء الدعم العام المباشر (الحكومي) للأحزاب السياسية، ومع حظر تلقي الدعم المالي من أشخاص اعتبارية مصرية أو جهات أجنبية، وكذلك عدم النص على عقوبات بشأن تلقي مثل هذه الأنواع من التمويل، تبدو خيارات الأحزاب السياسية محصورة بين أمرين لتمويل نشاطاتها الحزبية، إما تفعيل دورها الاجتماعي وقاعدتها الشعبية بما يزيد من أموال الاشتراكات أو تبرعات الأشخاص الطبيعين (الأفراد)، والعمل على ابتكار حلول لخلق موارد مالية لأنشطتها بما لا يخالف القانون، أو التلاعب والتحايل للحصول على تمويلات محظورة في ظل قانون لا يتضمن آليات واضحة لمنع ذلك أو عقوبات رادعة له.

نحو رؤية للخروج من إشكاليات التمويل السياسي

 

استنادًا لما سبق بيانه بشأن جدلية التمويل السياسي حول العالم، وفقًا لخبرات مدارس وأطر قانونية وسياسية مختلفة، واتساقًا مع الواقع الدستوري والقانوني المنظم لإشكالية التمويل السياسي للأحزاب في مصر، فإنه يمكن الوصول إلى مسلمة قد لا يختلف عليها، مفادها أن مسألة المال السياسي قد تكون بمثابة كعب أخيل الديمقراطية(33)، بما قد يفضي إلى تقويض مسار التحول الديمقراطي في مصر، والذي من المفترض أن تكون قاطرته الأحزاب السياسية المتنافسة على مفاصل الدولة التشريعية والتنفيذية.

ومع التسليم بتلك الحقيقة، فإن ثمة مسلمة أخرى توازيها وتسير معها جنبًا إلى جنب، تتلخص في إنه لا سياسة بدول تمويل ولا أحزاب بدون مال، من ثم فإنه من الضروري خلق أدوات مشروعة للتمويل السياسي، وكذا خلق أدوات رقابية للتحقق من مصادر الأموال الحزبية وأوجه إنفاقها، لاكتمال العملية الديمقراطية في مصر.

ثمة مساران مهمان للاضطلاع بمهمة بهذا الوزن من الخطورة والدينامية للدولة المصرية حاضرًا ومستقبلاً، لتحقيق اضطلاع الأحزاب السياسية بدورها المنوط بها في التحول الديمقراطي بشكل نزيه وشفاف ودونما محاذير أو عراقيل، أحدهما قانوني تنظيمي، والآخر عملي ممارساتي(34).

ففيما يتعلق بالمسار القانوني، فيمكن إعادة النظر بشأن التمويل المباشر للأحزاب السياسية، وفقًا لما كان مقررًا في إطار دستور 1971، مع وضع الضوابط والمعايير اللازمة للقضاء على سلبيات التمويل السياسي العام في ذوء ما سبق بيانه من تجارب الدول الأخرى. فمن الممكن مثلاً؛ منح الأحزاب مبالغ مالية موحدة تزيد نسبتها بشكل دوري شريطة أن تكون مرتبطة بدور الحزب في المجال العام والذي يعبر عنه بمؤشرات عملية من قبيل التمثيل في المجالس البرلمانية والمحلية.

وفي هذا الإطار يقترح أن يعهد بمهمة التمويل المباشر للأحزاب السياسية وما يتعلق بها من إجراءات تنظيمية ورقابية، إلى هيئة مستقلة، ليست معينة من قبل الحكومة، لضمان النزاهة والشفافية وعدم التوجيه، والتأكيد على حيادية الدولة، وعدم تأثرها أو تأثيرها على الحياة الحزبية والفعاليات السياسية في مصر.

ومن ناحية أخرى، يمكن إعفاء الأحزاب السياسية من جميع الضرائب والرسوم المستحقة والمتعلقة بأنشطتها الصحفية والإعلامية. ويقترح أيضًا أن يفتح المجال أمام الأحزاب السياسية لممارسة بعض الأنشطة الاقتصادية الربحية لتمويل أنشطتها السياسية مع إمكانية تأمين آلية للحد من أي ممارسات للفساد قد تتعلق بذلك عبر خضوع مثل هذه الأنشطة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات كجهة ضبط رقابية فعالة.

وعلى صعيد المسار العملي، يمكن ابتكار بعض المشروعات الخدمية ذات البعد الربحي والتي لا تتعارض بالضرورة مع قانون الأحزاب، مثل تقديم الخدمات الصحية والتعليمية بملحقات لمقار الأحزاب في المراكز والمحافظات والأحياء، من قبيل العيادات الطبية، والمراكز التعليمية وغيرها(35).

وفي هذا الإطار يمكن السماح للأحزاب السياسية إنشاء دور نشر خاصة بما لا يخالف قانون مباشرة الأحزاب السياسية، كمشروعات ربحية تستخدم عوائدها في تمويل نشاطات الأحزاب. كما يمكن للأحزاب السياسية أن تصدر صحفًا إعلانية متخصصة تتضمن بعض صفحاتها تعريفًا ببرامج وأنشطة الحزب وأهدافه، فتصبح كما لو كانت صحيفة تخدم أغراض الحزب السياسية بما لا يتعارض ونصوص قانون الأحزاب.

وتحقيقًا لأداة التمويل الذاتي عبر اشتراكات الأعضاء الحزبيين، يمكن تجنيد فرق عمل تطوعية من شباب الأحزاب، للاضطلاع بجمع الاشتراكات من المواطنين المنضوين تحت لواء أي حزب سياسي كل في منزله أو جهة عمله أو عنوانه الاعتباري، وذلك لعلاج ثغرة التهرب من دفع الاشتراكات، والتي تؤكد تجربة الدولة الفرنسية أهميتها كأداة فاعلة للتمويل السياسي، وفقًا لما سبق بيانه في هذه الدراسة.

nahda2011

هيثم البشلاوى(باحث فى الأدارة الأستراتيجية)

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 173 مشاهدة
نشرت فى 3 يوليو 2012 بواسطة nahda2011

هيثم عادل البشلاوى

nahda2011
سنحيا طالما مصر تحيا لذا لن نموت »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

8,796