المولد والنشأة :
ولد جمال عبد الناصر في 15 يناير/كانون الثاني 1918 في 18 شارع قنوات في حي باكوس الشعبي بالإسكندرية، وكان الابن الأكبر لعبد الناصر حسين الذي ولد عام 1888 في قرية "بني مر" بمركز الفتح - تبعد عن مدينة أسيوط بحوالي 10 كيلو مترات - في محافظة أسيوط في صعيد مصر في أسرة من الفلاحين، ولكنه حصل على قدر من التعليم سمح له بأن يلتحق بوظيفة في مصلحة البريد بالإسكندرية، وكان مرتبه يكفى بصعوبة لسداد ضرورات الحياة .
عبد الناصر فى المرحلة الابتدائية :
التحق جمال عبد الناصر بروضة الأطفال بمحرم بك بالإسكندرية، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية بالخطاطبة في عامي 1923، 1924، ثم التحق فى عام 1925 بمدرسة النحاسين الابتدائية بالجمالية بالقاهرة، وأقام عند عمه خليل حسين في حي شعبي لمدة ثلاث سنوات، وكان جمال يُسافر لزيارة أسرته بالخطاطبة في العطلات المدرسية، وحينما عاد في الإجازة الصيفية خلال عام 1926علم أن والدته قد توفيت قبل ذلك بأسابيع لعدم وجود الشجاعة عند أحد لإبلاغه بوفاتها، ولكنه اكتشف ذلك بنفسه بطريقة هزت كيانه - كما ذكر لـ "دافيد مورجان" مندوب صحيفة "الصنداى تايمز" - وحينها قال له: "لقد كان فقد أمي في حد ذاته أمرًا مُحزنًا للغاية، أما فقدها بهذه الطريقة فقد كان صدمة تركت فيَّ شعورًا لا يمحوه الزمن .. وقد جعلتني آلامي وأحزاني الخاصة في تلك الفترة أجد مضضًا بالغًا في إنزال الآلام والأحزان بالغير في مُستقبل السنين"، وبعد أن أتم جمال السنة الثالثة في مدرسة النحاسين بالقاهرة، أرسله والده في صيف 1928 عند جده لوالدته فقضى السنة الرابعة الابتدائية في مدرسة العطارين بالإسكندرية.
الثانوية .. مرحلة تكوين وجدان:
( عبد الناصر اثناء دراسته فى مدرسة حلوان الثانوية )
التحق جمال عبد الناصر في عام ١٩٢٩ بالقسم الداخلي في مدرسة حلوان الثانوية وقضى بها عاماً واحداً، ثم نقل في العام التالي – ١٩٣٠ – إلى مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية بعد أن انتقل والده إلى العمل بمصلحة البوسطة هناك .
وفى تلك المدرسة تكون وجدان جمال عبد الناصر القومي؛ ففي عام ١٩٣٠ استصدرت وزارة إسماعيل صدقي مرسوماً ملكياً بإلغاء دستور ١٩٢٣ فثارت مظاهرات الطلبة تهتف بسقوط الاستعمار وبعودة الدستور.
ويحكى جمال عبد الناصر عن أول مظاهرة اشترك فيها: "كنت أعبر ميدان المنشية في الإسكندرية حين وجدت اشتباكاً بين مظاهرة لبعض التلاميذ وبين قوات من البوليس، ولم أتردد في تقرير موقفي؛ فلقد انضممت على الفور إلى المتظاهرين، دون أن أعرف أي شئ عن السبب الذي كانوا يتظاهرون من أجله، ولقد شعرت أنني في غير حاجة إلى سؤال؛ لقد رأيت أفراداً من الجماهير في صدام مع السلطة، واتخذت موقفي دون تردد في الجانب المعادى للسلطة.
ومرت لحظات سيطرت فيها المظاهرة على الموقف، لكن سرعان ما جاءت إلى المكان الإمدادات؛ حمولة لوريين من رجال البوليس لتعزيز القوة، وهجمت علينا جماعتهم، وإني لأذكر أنى – في محاولة يائسة – ألقيت حجراً، لكنهم أدركونا في لمح البصر، وحاولت أن أهرب، لكنى حين التفت هوت على رأسي عصا من عصى البوليس، تلتها ضربة ثانية حين سقطت، ثم شحنت إلى الحجز والدم يسيل من رأسي مع عدد من الطلبة الذين لم يستطيعوا الإفلات بالسرعة الكافية.
ولما كنت في قسم البوليس، وأخذوا يعالجون جراح رأسي؛ سألت عن سبب المظاهرة، فعرفت أنها مظاهرة نظمتها جماعة مصر الفتاة في ذلك الوقت للاحتجاج على سياسة الحكومة , وقد دخلت السجن تلميذاً متحمساً، وخرجت منه مشحوناً بطاقة من الغضب". (حديث عبد الناصر مع "دافيد مورجان" مندوب "صحيفة الصنداى تايمز" ١٨/٦/١٩٦٢) .
ويعود جمال عبد الناصر إلى هذه الفترة من حياته في خطاب له بميدان المنشية بالإسكندرية في ٢٦/١٠/١٩٥٤ ليصف أحاسيسه في تلك المظاهرة وما تركته من آثار في نفسه: "حينما بدأت في الكلام اليوم في ميدان المنشية. سرح بي الخاطر إلى الماضي البعيد ... وتذكرت كفاح الإسكندرية وأنا شاب صغير وتذكرت في هذا الوقت وأنا اشترك مع أبناء الإسكندرية، وأنا أهتف لأول مرة في حياتي باسم الحرية وباسم الكرامة، وباسم مصر... أطلقت علينا طلقات الاستعمار وأعوان الاستعمار فمات من مات وجرح من جرح، ولكن خرج من بين هؤلاء الناس شاب صغير شعر بالحرية وأحس بطعم الحرية، وآلي على نفسه أن يجاهد وأن يكافح وأن يقاتل في سبيل الحرية التي كان يهتف بها ولا يعلم معناها؛ لأنه كان يشعر بها في نفسه، وكان يشعر بها في روحه وكان يشعر بها في دمه". لقد كانت تلك الفترة بالإسكندرية مرحلة تحول في حياة الطالب جمال من متظاهر إلى ثائر تأثر بحالة الغليان التي كانت تعانى منها مصر بسبب مقال كتبه جمال عبد الناصر بعنوان "فولتير رجل الحرية" تحكم الاستعمار وإلغاء الدستور. وقد ضاق المسئولون بالمدرسة بنشاطه ونبهوا والده فأرسله إلى القاهرة.
وقد التحق جمال عبد الناصر في عام ١٩٣٣ بمدرسة النهضة الثانوية بحي الظاهر بالقاهرة، واستمر في نشاطه السياسي فأصبح رئيس اتحاد مدارس النهضة الثانوية.
وفى تلك الفترة ظهر شغفه بالقراءة في التاريخ والموضوعات الوطنية فقرأ عن الثورة الفرنسية وعن "روسو" و"فولتير" وكتب مقالة بعنوان "فولتير رجل الحرية" نشرها بمجلة المدرسة. كما قرأ عن "نابليون" و"الإسكندر" و"يوليوس قيصر" و"غاندى" وقرأ رواية البؤساء لـ "فيكتور هيوجو" وقصة مدينتين لـ "شارلز ديكنز".(الكتب التي كان يقرأها عبد الناصر في المرحلة الثانوية). (الكتب التي كان يقرأها عبد الناصر في المرحلة الثانوية).
كذلك اهتم بالإنتاج الأدبي العربي فكان معجباً بأشعار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وقرأ عن سيرة النبي محمد وعن أبطال الإسلام وكذلك عن مصطفى كامل، كما قرأ مسرحيات وروايات توفيق الحكيم خصوصاً رواية عودة الروح التي تتحدث عن ضرورة ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم ودفعهم نحو النضال في سبيل الحرية والبعث الوطني.
الحفلة التمثيلية لمدارس النهضة المصرية تعرض مسرحية يوليوس قيصر ..
وفى ١٩٣٥ في حفل مدرسة النهضة الثانوية لعب الطالب جمال عبد الناصر دور "يوليوس قيصر" بطل تحرير الجماهير في مسرحية "شكسبير" في حضور وزير المعارف في ذلك الوقت.
وقد شهد عام ١٩٣٥ نشاطاً كبيراً للحركة الوطنية المصرية التي لعب فيها الطلبة الدور الأساسي مطالبين بعودة الدستور والاستقلال، ويكشف خطاب من جمال عبد الناصر إلى صديقه حسن النشار في ٤ سبتمبر ١٩٣٥ مكنون نفسه في هذه الفترة، فيقول: "لقد انتقلنا من نور الأمل إلى ظلمة اليأس ونفضنا بشائر الحياة واستقبلنا غبار الموت، فأين من يقلب كل ذلك رأساً على عقب، ويعيد مصر إلى سيرتها الأولى يوم أن كانت مالكة العالم. أين من يخلق خلفاً جديداً لكي يصبح المصري الخافت الصوت الضعيف الأمل الذي يطرق برأسه ساكناً صابراً على اهتضام حقه ساهياً عن التلاعب بوطنه يقظاً عالي الصوت عظيم الرجاء رافعاً رأسه يجاهد بشجاعة وجرأه في طلب الاستقلال والحرية... قال مصطفى كامل ' لو نقل قلبي من اليسار إلى اليمين أو تحرك الأهرام من مكانه المكين أو تغير مجرى [النيل] فلن أتغير عن المبدأ ' ... كل ذلك مقدمة طويلة لعمل أطول وأعظم فقد تكلمنا مرات عده في عمل يوقظ الأمة من غفوتها ويضرب على الأوتار الحساسة من القلوب ويستثير ما كمن في الصدور. ولكن كل ذلك لم يدخل في حيز العمل إلى الآن".(خطاب عبد الناصر لحسن النشار... ٤/٩/١٩٣٥).
خطاب عبد الناصر لحسن النشار عن الحركة الوطنية بين الطلبة لعودة الدستور والاستقلال ووبعد ذلك بشهرين وفور صدور تصريح "صمويل هور" – وزير الخارجية البريطانية – في ٩ نوفمبر١٩٣٥ معلناً رفض بريطانيا لعودة الحياة الدستورية في مصر، اندلعت مظاهرات الطلبة والعمال في البلاد، وقاد جمال عبد الناصر في ١٣ نوفمبر مظاهرة من تلاميذ المدارس الثانوية واجهتها قوة من البوليس الإنجليزي فأصيب جمال بجرح في جبينه سببته رصاصة مزقت الجلد ولكنها لم تنفذ إلى الرأس، وأسرع به زملاؤه إلى دار جريدة الجهاد التي تصادف وقوع الحادث بجوارها ونشر اسمه في العدد الذي صدر صباح اليوم التالي بين أسماء الجرحى. (مجلة الجهاد ١٩٣٥).
وعن آثار أحداث تلك الفترة في نفسية جمال عبد الناصر قال في كلمة له في جامعة القاهرة في ١٥ نوفمبر ١٩٥٢: "وقد تركت إصابتي أثراً عزيزاً لا يزال يعلو وجهي فيذكرني كل يوم بالواجب الوطني الملقى على كاهلي كفرد من أبناء هذا الوطن العزيز. وفى هذا اليوم وقع صريع الظلم والاحتلال المرحوم عبد المجيد مرسى فأنساني ما أنا مصاب به، ورسخ في نفسي أن على واجباً أفنى في سبيله أو أكون أحد العاملين في تحقيقه حتى يتحقق؛ وهذا الواجب هو تحرير الوطن من الاستعمار، وتحقيق سيادة الشعب. وتوالى بعد ذلك سقوط الشهداء صرعى؛ فازداد إيماني بالعمل على تحقيق حرية مصر".
وتحت الضغط الشعبي وخاصة من جانب الطلبة والعمال صدر مرسوم ملكي في ١٢ ديسمبر ١٩٣٥ بعودة دستور ١٩٢٣ , وقد انضم جمال عبد الناصر في هذا الوقت إلى وفود الطلبة التي كانت تسعى إلى بيوت الزعماء تطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر، وقد تألفت الجبهة الوطنية سنة ١٩٣٦ بالفعل على أثر هذه الجهود.
وقد كتب جمال في فترة الفوران هذه خطاباً إلى حسن النشار في ٢ سبتمبر ١٩٣٥ قال فيه: "يقول الله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، فأين تلك القوة التي نستعد بها لهم؛ إن الموقف اليوم دقيق ومصر في موقف أدق...".
ووصف جمال عبد الناصر شعوره في كتاب "فلسفة الثورة" فقال: "وفى تلك الأيام قدت مظاهرة في مدرسة النهضة، وصرخت من أعماقي بطلب الاستقلال التام، وصرخ ورائي كثيرون، ولكن صراخنا ضاع هباء وبددته الرياح أصداء واهية لا تحرك الجبال ولا تحطم الصخور".
إلا أن اتحاد الزعماء السياسيين على كلمة واحدة كان فجيعة لإيمان جمال عبد الناصر، على حد تعبيره في كتاب "فلسفة الثورة"، فإن الكلمة الواحدة التي اجتمعوا عليها كانت معاهدة ١٩٣٦ التي قننت الاحتلال، فنصت على أن تبقى في مصر قواعد عسكرية لحماية وادي النيل وقناة السويس من أي اعتداء، وفى حال وقوع حرب تكون الأراضي المصرية بموانيها ومطاراتها وطرق مواصلاتها تحت تصرف بريطانيا، كما نصت المعاهدة على بقاء الحكم الثنائي في السودان.
فصله من المدرسة :
وكان من نتيجة النشاط السياسي المكثف لجمال عبد الناصر في هذه الفترة الذي رصدته تقارير البوليس أن قررت مدرسة النهضة فصله بتهمة تحريضه الطلبة على الثورة، إلا أن زملائه ثاروا وأعلنوا الإضراب العام وهددوا بحرق المدرسة فتراجع ناظر المدرسة في قراره.
ومنذ المظاهرة الأولى التي اشترك فيها جمال عبد الناصر بالإسكندرية شغلت السياسة كل وقته، وتجول بين التيارات السياسية التي كانت موجودة في هذا الوقت فانضم إلى "مصر الفتاة" على مدى عامين، ثم انصرف عنها بعد أن اكتشف أنها لا تحقق شيئاً، كما كانت له اتصالات مُتعددة بالإخوان المسلمين إلا أنه قد عزف عن الانضمام لأي من الجماعات أو الأحزاب القائمة لأنه لم يقتنع بجدوى أياً منها، "فلم يكن هناك حزب مثالي يضم جميع العناصر لتحقيق الأهداف الوطنية" .. كذلك فإنه وهو طالب في المرحلة الثانوية بدأ الوعي العربي يتسلل إلى تفكيره، فكان يخرج مع زملائه كل عام في الثاني من شهر نوفمبر احتجاجًا على وعد "بلفور" الذي منحت به بريطانيا لليهود وطنًا في فلسطين على حساب أصحابه الشرعيين.
الحياة العسكرية لناصر:
بعدما أتم جمال عبد الناصر دراسته الثانوية وحصل على البكالوريا في القسم الأدبي قرر الالتحاق بالجيش، ولقد أيقن بعد التجربة التي مر بها في العمل السياسي واتصالاته برجال السياسة والأحزاب التي أثارت اشمئزازه منهم أن تحرير مصر لن يتم بالخطب بل يجب أن تقابل القوة بالقوة والاحتلال العسكري بجيش وطني، فتقدم جمال عبد الناصر إلى الكلية الحربية ونجح في الكشف الطبي ولكنه سقط في كشف الهيئة لأنه حفيد فلاح من "بني مر" وابن موظف بسيط لا يملك شيئًا، ولأنه اشترك في مظاهرات 1935، ولأنه لا يملك وساطة، ولما رفضت الكلية الحربية قبول جمال، تقدم في أكتوبر 1936 إلى كلية الحقوق في جامعة القاهرة ومكث فيها ستة أشهر إلى أن عقدت معاهدة 1936، واتجهت النية إلى زيادة عدد ضباط الجيش المصري من الشباب بصرف النظر عن طبقتهم الاجتماعية أو ثروتهم، فقبلت الكلية الحربية دفعة في خريف 1936 وأعلنت وزارة الحربية عن حاجتها لدفعة ثانية، فتقدم جمال مرة ثانية للكلية الحربية ولكنه توصل إلى مُقابلة وكيل وزارة الحربية "اللواء إبراهيم خيري" الذي أعجب بصراحته ووطنيته وإصراره على أن يُصبح ضابطًا فوافق على دخوله في الدورة التالية؛ أي في مارس 1937.
لقد وضع جمال عبد الناصر أمامه هدفًا واضحًا في الكلية الحربية وهو "أن يُصبح ضابطاً ذا كفاية، وأن يكتسب المعرفة والصفات التي تسمح له بأن يُصبح قائدًا"، وفعلاً أصبح "رئيس فريق"، وأسندت إليه منذ أوائل 1938 مهمة تأهيل الطلبة المُستجدين الذين كان من بينهم عبد الحكيم عامر، وطوال فترة الكلية لم يوقع على جمال أي جزاء، كما رُقى إلى رتبة "أومباشى طالب".
تخرج جمال عبد الناصر من الكلية الحربية بعد مرور 17 شهرًا، أي في يوليه/تموز 1938، فقد جرى استعجال تخريج دفعات الضباط في ذلك الوقت لتوفير عدد كافي من الضباط المصريين لسد الفراغ الذي تركه انتقال القوات البريطانية إلى منطقة قناة السويس.
التحق جمال عبد الناصر فور تخرجه بسلاح المشاة ونقل إلى منقباد في الصعيد، وقد أتاحت له إقامته هناك أن ينظر بمنظار جديد إلى أوضاع الفلاحين وبؤسهم، وقد التقى في منقباد بكل من زكريا محيى الدين وأنور السادات، وفى عام 1939 طلب عبد الناصر نقله إلى السودان، فخدم في الخرطوم وفى جبل الأولياء، وهناك قابل زكريا محيى الدين وعبد الحكيم عامر، وفى مايو/آيار 1940 رقى إلى رتبة الملازم أول.
وواصل عبد الناصر تقدمه في الحياة العسكرية إلى أن رُقى إلى رتبة اليوزباشى (نقيب) في 9 سبتمبر/أيلول 1942. وفى 7 فبراير/شباط 1943 عُين مدرسًا بالكلية الحربية. ومن قائمة مُطالعاته في هذه الفترة يتضح أنه قرأ لكبار المؤلفين العسكريين من أمثال "ليدل هارت" و"كلاوزفيتز"، كما قرأ مؤلفات الساسة والكتاب السياسيين مثل "كرومويل" و"تشرشل". وفى هذه الفترة كان جمال عبد الناصر يعد العدة للالتحاق بمدرسة أركان حرب.
وفى 29 يونيه 1944 تزوج جمال عبد الناصر من تحية محمد كاظم - ابنة تاجر من رعايا إيران - كان قد تعرف على عائلتها عن طريق عمه خليل حسين، وقد أنجب ابنتيه هدى ومنى وثلاثة أبناء هم خالد وعبد الحميد وعبد الحكيم. لعبت تحية دورًا هامًا في حياته خاصة في مرحلة الإعداد للثورة واستكمال خلايا تنظيم الضباط الأحرار، فقد تحملت أعباء أسرته الصغيرة - هدى ومنى - عندما كان في حرب فلسطين، كما ساعدته في إخفاء السلاح حين كان يدرب الفدائيين المصريين للعمل ضد القاعدة البريطانية في قناة السويس في 1951، 1952.
تنظيم الضباط الأحرار:
شهد عام 1945 انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية حركة الضباط الأحرار، ويقول جمال عبد الناصر في حديثة إلى "دافيد مورجان": "وقد ركزت حتى 1948 على تأليف نواة من الناس الذين بلغ استياؤهم من مجرى الأمور في مصر مبلغ استيائي، والذين توفرت لديهم الشجاعة الكافية والتصميم الكافي للإقدام على التغيير اللازم. وكنا يومئذ جماعة صغيرة من الأصدقاء المخلصين نحاول أن نخرج مثلنا العُليا العامة في هدف مُشترك وفى خطة مشتركة".
وعقب صدور قرار تقسيم فلسطين في سبتمبر 1947 عقد الضباط الأحرار اجتماعًا واعتبروا أن اللحظة جاءت للدفاع عن حقوق العرب ضد هذا الانتهاك للكرامة الإنسانية والعدالة الدولية، واستقر رأيهم على مُساعدة المقاومة في فلسطين.
وقد جُرح جمال عبد الناصر مرتين أثناء حرب فلسطين ونقل إلى المستشفى. ونظرًا للدور المُتميز الذي قام به خلال المعركة فإنه مُنح نيشان "النجمة العسكرية" في عام 1949.
وبعد عودته من فلسطين عين جمال عبد الناصر مدرسًا في كلية أركان حرب التي كان قد نجح في امتحانها بتفوق في 12 مايو/آيار 1948. وبدأ من جديد نشاط الضباط الأحرار وتألفت لجنة تنفيذية بقيادة جمال عبد الناصر، وتضم [كمال الدين حسين/عبد الحكيم عامر/حسين إبراهيم/صلاح سالم/عبد اللطيف البغدادي/خالد محيى الدين/أنور السادات/حسين الشافعي/زكريا محيى الدين/جمال سالم] وهى اللجنة التي أصبحت مجلس الثورة فيما بعد عام 1950، 1951.
وفى 8 مايو 1951 رُقى جمال عبد الناصر إلى رتبة البكباشى (مُقدم) وفى نفس العام اشترك مع رفاقه من الضباط الأحرار سرًا في حرب الفدائيين ضد القوات البريطانية في منطقة القناة التي استمرت حتى بداية 1952، وذلك بتدريب المتطوعين وتوريد السلاح الذي كان يتم في إطار الدعوى للكفاح المُسلح من جانب الشباب من كافة الاتجاهات السياسية والذي كان يتم خارج الإطار الحكومي.
ناصر وثورة يوليه 1952:
ومع بداية مرحلة التعبئة الثورية، صدرت منشورات الضباط الأحرار التي كانت تطبع وتوزع سرًا، والتي دعت إلى إعادة تنظيم الجيش وتسليحه وتدريبه بجدية بدلاً من اقتصاره على الحفلات والاستعراضات، كما دعت الحُكام إلى الكف عن تبذير ثروات البلاد ورفع مستوى معيشة الطبقات الفقيرة، وانتقدت الاتجار في الرُتب والنياشين. وفى تلك الفترة اتسعت فضيحة الأسلحة الفاسدة إلى جانب فضائح اقتصادية تورطت فيها حكومة الوفد.
ثم حدث حريق القاهرة في 26 يناير/كانون الثاني 1952 بعد اندلاع المظاهرات في القاهرة احتجاجًا على مذبحة رجال البوليس بالإسماعيلية التي ارتكبتها القوات العسكرية البريطانية في اليوم السابق، والتي قتل فيها 46 شرطيًا وجُرح 72 آخرين. لقد أشعلت الحرائق في القاهرة ولم تتخذ السلطات أي إجراء ولم تصدر الأوامر للجيش بالنزول إلى العاصمة إلا في العصر بعد أن دمرت النار 400 مبنى، وتركت 12 ألف شخص بلا مأوى، وقد بلغت الخسائر 22 مليون جنيهًا.
وفى ذلك الوقت كان يجرى صراعًا سافرًا بين الضباط الأحرار وبين الملك فاروق فيما عُرف بأزمة انتخابات نادي ضباط الجيش. حيث رشح الملك اللواء حسين سرى عامر المكروه من ضباط الجيش ليرأس اللجنة التنفيذية للنادي، وقرر الضباط الأحرار أن يقدموا قائمة مُرشحيهم وعلى رأسهم اللواء محمد نجيب للرئاسة، وقد تم انتخابه بأغلبية كبرى وبرغم إلغاء الانتخاب بتعليمات من الملك شخصيًا، إلا أنه كان قد ثبت للضباط الأحرار أن الجيش معهم يؤيدهم ضد الملك، فقرر جمال عبد الناصر - رئيس الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار - تقديم موعد الثورة التي كان مُحددًا لها قبل ذلك عام 1955، وتحرك الجيش ليلة 23 يوليو/تموز 1952 وتم احتلال مبنى قيادة الجيش بكوبري القبة وإلقاء القبض على قادة الجيش الذين كانوا مُجتمعين لبحث مواجهة حركة الضباط الأحرار بعد أن تسرب خبر عنها .
وبعد نجاح حركة الجيش قدم محمد نجيب على أنه قائد الثورة - وكان الضباط الأحرار قد فاتحوه قبلها بشهرين في احتمال انضمامه إليهم إذا ما نجحت المحاولة - إلا أن السلطة الفعلية كانت في يد مجلس قيادة الثورة الذي كان يرأسه جمال عبد الناصر حتى 25 أغسطس/آب 1952 عندما صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بضم محمد نجيب إلى عضوية المجلس وأسندت إليه رئاسته بعد أن تنازل له عنها جمال عبد الناصر.
وتضمن قرار مجلس قيادة الثورة تعيين جمال عبد الناصر رئيسًا لمجلس قيادة الثورة: وفي فبراير/شباط 1954 استقال محمد نجيب بعد أن اتسعت الخلافات بينه وبين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وعُين جمال عبد الناصر رئيسًا لمجلس قيادة الثورة ورئيسًا لمجلس الوزراء.
وفى 24 يونيه/حزيران 1956 انتخب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية بالاستفتاء الشعبي وفقاً لدستور 16 يناير 1956 ـ أول دستور للثورة.
وفى 22 فبراير/شباط 1958 أصبح جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، وذلك حتى مؤامرة الانفصال التي قام بها أفراد من الجيش السوري في 28 سبتمبر/أيلول 1961، وظل جمال عبد الناصر رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة حتى رحل في 28 سبتمبر/أيلول 1970.
أهم إنجازات عبد الناصر:
حفل تاريخ عبد الناصر بالعديد من الإنجازات، بدأت بجلاء القوات البريطانية مصر في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1954، وقام بتأميم قناة السويس وإنشاء السد العالي على نهر النيل، وقام بإنشاء بحيرة ناصر وهي أكبر بحيرة صناعية في العالم، وتأميم البنوك الخاصة والأجنبية العاملة في مصر، وسن قوانين الإصلاح الزراعي وتحديد الملكية الزراعية، والتي بموجبها صار فلاحو مصر يمتلكون للمرة الأولى الأرض التي يفلحونها ويعملون عليها وتم تحديد ملكيات الاقطاعيين بـ 200 فدان فقط، وتم استصلاح 920 ألف فدان، وتحويل نصف مليون فدان من ري الحياض إلى الري الدائم" لتصل إلى مساحة مليون و 400 ألف فدان.
في عهده تم إنشاء التليفزيون المصري عام 1960، وسن قوانين يوليه الاشتراكية عام 1961، وتم إبرام اتفاقية الجلاء مع بريطانيا عام 1954، والتي بموجبها تم جلاء آخر جندي بريطاني عن قناة السويس ومصر كلها في الثامن عشر من يونيو/حزيران 1956، وتم بناء استاد القاهرة الرياضي بمدينة نصر"ستاد ناصر سابقًا"، وكذلك إنشاء كورنيش النيل وإنشاء برج القاهرة، وتأسيس جريدة الجمهورية المصرية عام 1954، وإنشاء معرض القاهرة الدولي للكتاب، وفي عهده تم التوسع في التعليم المجاني على كل المراحل، وكذلك التوسع المُطرد في مجال الصناعات التحويلية، حيث أنشأ أكثر من 3600 مصنعًا.
أما فيما يتعلق بقضايا التصنيع، فقد شهدت مصر في الفترة من مطلع الستينيات إلى ما قبل النكسة نهضة اقتصادية وصناعية كبيرة، بعد أن بدأت الدولة اتجاهًا جديدًا نحو السيطرة على مصادر الإنتاج ووسائله، من خلال التوسع في تأميم البنوك والشركات والمصانع الكبرى، وإنشاء عدد من المشروعات الصناعية الضخمة، وقد اهتم عبد الناصر بإنشاء المدارس والمستشفيات، وتوفير فرص العمل لأبناء الشعب، وتوَّج ذلك كله ببناء السد العالي الذي يُعد أهم وأعظم إنجازاته على الإطلاق؛ حيث حمى مصر من أخطار الفيضانات، بالإضافة إلى ما تميز به باعتباره المصدر الأول لتوليد الكهرباء في مصر، وهو ما يوفر الطاقة اللازمة للمصانع والمشروعات الصناعية الكبرى.
مُساندتة للحركات الثورية في الوطن العربي:
ساهم عبد الناصر في تدعيم القضية الفلسطينية، وفي حرب سنة 1948 وجُرح فيها. وعند توليه الرئاسة اعتبر القضية الفلسطينية من أولوياته لأسباب عديدة منها مبدئية ومنها إستراتيجية.
لقد اعتبر الرئيس جمال عبد الناصر من أبرز الزعماء المُنادين بالوحدة العربية وهذا هو الشعور السائد أنذاك بين معظم الشعوب العربية، حيث كان "مؤتمر باندونج" عام 1955 نقطة انطلاق عبدالناصر إلى العالم الخارجي.
استجاب عبد الناصر لدعوة العراق لتحقيق أضخم إنجاز وحدوي مع العراق وسوريا بعد تولي الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف رئاسة الجمهورية العراقية بما يُسمى باتفاق 16 أبريل 1964، ومن أهم انجازاته تأسيس منظمة عدم الانحياز مع الرئيس اليوغوسلافي تيتو والإندونيسي سوكارنو والهندي نهرو، والمُساهمة في تأسيس منظمة التعاون الإسلامي عام 1969، وكان لعبد الناصر دور بارز في مُساندة ثورة الجزائر وتبني قضية تحرير الشعب الجزائري في المحافل الدولية، وسعى كذلك إلى تحقيق الوحدة العربية؛ فكانت تجربة الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير/شباط 1958 تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، وقد تولى هو رئاستها بعد أن تنازل الرئيس السوري شكري القوتلي له عن الحكم، إلا أنها لم تستمر أكثر من ثلاث سنوات.
كما ساند عبد الناصر الثورة العسكرية التي قام بها ثوار الجيش بزعامة المشير عبد الله السلال في اليمن بسنة 1962 ضد الحكم الإمامي الملكي حيث أرسل عبد الناصر نحو 70 ألف جندي مصري إلى اليمن لمقاومة النظام الملكي الذي لقي دعما من المملكة العربية السعودية، كما أيد حركة يوليه/تموز 1958 الثورية في العراق التي قادها الجيش العراقي بمؤازرة القوى السياسية لجبهة الاتحاد الوطني للاطاحة بالحُكم الملكي في 14 تموز 1958.
أقوال مأثورة لعبد الناصر:
** الوحدة موجودة فعلا بين أبناء الشعب العربي .. إن الخلافات قائمة بين النظم والحكومات .. إن النصر حركة، والحركة عمل، والعمل فكر، والفكر فهم وإيمان، وهكذا كل شيء يبدأ بالإنسان.
** إننى أؤمن إيمانًا قاطعًا أنه سيخرج من صفوف هذا الشعب أبطال مجهولون يشعرون بالحرية ويقدسون العزة ويؤمنون بالكرامة.
** إن الجامعات ليست أبراجًا عاجية، ولكنها الطليعة التي تقود الشعب نحو مُستقبل أفضل.
** اللهم أعطنا القوة لندرك أن الخائفين لا يصنعون الحرية، والضعفاء لا يخلقون الكرامة، والمُترددين لن تقوى أيديهم المُرتعشة على البناء.
** إن الإيمان بالله والأديان السماوية لاينبغي أن يكون مجرد قشرة خارجية أو مظهرية، لأن الدين فوق أنه عقيدة فهو سلوك في الحياة ومبادئ للأخلاق والعلاقات مع الناس.
** إن وجود مصر ضعيفة ضعف للنضال العربى كله، ووجود مصر مشلولة شلل للنضال العربى كله، وليست هذه حقيقة جديدة وإنما هي استقراء للتاريخ والطبيعة.
** إنّ حرية الرأي هي المُقدمة الأولى للديمقراطية.
وفاته :
آخر مهام عبد الناصر كان الوساطة لإيقاف أحداث أيلول الأسود بالأردن بين الحكومة الأردنية والمنظمات الفلسطينية في قمة القاهرة في 26 - 28 سبتمبر 1970. حيث عاد من مطار القاهرة بعد أن ودع أمير الكويت. عندما داهمته نوبة قلبية عن عمر 52 عاما وأعلن عن وفاته في 28 سبتمبر 1970م بعد 18 عاماً قضاها في السلطة ليتولى الحكم من بعده نائبه محمد أنور السادات .