اولا- فتح الإسكندر لمصر :
امتدت الحقبة اليونانية فى تاريخ مصر لنحو ثلاثة قرون , فبعد أن نجح الإسكندر المقدونى فى هزيمة الفرس فى آسيا الصغرى فتح مصر عام 332 ق.م وطرد منها الفرس ،حيث أصبح الطريق مفتوحاً الي مصر بعد سقوط غزة فى يد الإسكندر ، وقد تمكن من فتح مصر بسهولة كبيرة ، وأضحت مصر بعد استيلائه على منف فى قبضته تماماً.
ولا ترجع السرعه التي اتم بها الاسكندر فتح مصر الي تفوقه العسكري على الفرس فحسب .. بل ترجع ايضاً الي مساعدة مصر له ، فقد كانوا فى ثورة مستمرة ضد المحتلين الفرس وكان الإغريق فى نظرهم اصدقاء وحلفاء طالما عاونوهم على استراداد حريتهم المسلوبة كما رأوا فى الاسكندر منقذاً ومنجداً لهم من الاستعمار البغيض .
وقد بهرت حضارة مصر العريقة الاسكندر الذي بدأ سياسة التقرب من المصريين محاولاً ارضاء شعورهم القومي والديني ، فاحترم المعبودات المصرية وقدم لها القرابين ولم يكتف بذلك ، فقام برحلة الي واحة سيوة حيث زار معبد الإله آمون ،وهناك منحه الكهنة لقب " ابن آمون " كما أمر خلال رحلته بإنشاء مدينة الإسكندرية.
وبعد ان امن الإسكندر ملكه فى مصر ونظم شئونها الإدارية اتجه الي قلب آسيا ليكمل خطته للقضاء على الامبراطورية الفارسية . وتوغل فى القاره الآسيوية حتي وصل الي الهند ولكنه توفي فى عام 323 قبل الميلاد وكان فى الثالثة والثلاثين من عمره فى مدينه بابل وهو فى طريق عودته الي بلاده.
سعي الإســكندر لمزج الحضارات الإغريقية بالحضارات الشرقيه :
كان استيلاء الإسكندر على سوريا ومصر والعراق وغيرها من بلاد الشرق القديم اكثر من مجرد سيطرة حربية وتوسع عسكري ، اذ ان هذه الأقاليم كانت صاحبة حضارات عريقه نمت وازدهرت علي مر العصور وأفاد منها الإغريق هذا بالاضافة الي ان الإسكندر نفسه اظهر اعجابه بها واحترامه لها ، وبدأ ذلك واضحاً فى مصر على وجه الخصوص .
وقد فكر الإسكندر فى تكوين حضارة جديدة تجمع بين مزايا الحضارات الشرقية العريقه والحضارة الإغريقية الناشئه ، ولتحقيق ذلك عمل على فتح ابواب الشرق على مصراعيها امام الاغريق للإقامة بها , كما اقام بعض المدن الجديدة كالإسكندرية فى مصر وغيرها لتصبح مراكز لنمو تلك الحضارة الجديدة ولتعمل علي نشرها فى كل مكان , وقد سميت تلك الحضارة الجديدة بإسم الهلينستية .
وقد ازدهرت الحضارة الهلينستية فى مصر اذ وجدت فيها تربة خصبة للنمو على نحو لم تشهده فى بلاد الاغريق نفسها وذلك لأنها افادت من حضارات بلادنا العريقه كما وجدت فيها انظمة راسخة وثروة بشرية ومادية عظيمة ، فضلا عن موقعها الفريد وسط العالم المتمدن فى ذلك الوقت ، فكانت مصر بذلك بمثابة المصنع الذي صنعت فيه الحضارة الجديدة واصبحت مدينة الاسكندرية النموذج الأمثل لها ، ومنها اشعت تلك الحضارة على باقي اجزاء العالم ، وفيها احتفظ اجدادنا بعناصرها من مئات السنين .
ولم يعش الإسكندر طويلاً ليحقق آماله فى بناء تلك الحضارة وترك لخلفائه فى مصر تحقيق الأمل .
ثانيا- تأسيس دولة البطالمة :
قسمت امبراطورية الاسكندر بعد وفاته اثر إصابته بالحمي بمدينه بابل بين قواده الثلاثة ، فكانت مصر من نصيب القائد بطلميوس ، وسورية والعراق من نصيب القائد سليوقس ، اما مقدونيا فكانت من نصيب القائد انتيجونس وقد نجح بطلميوس وسليوقس فى تأسيس دولتين مستقلتين هما دولة البطالمة فى مصر والدولة السليوقية فى سوريا ، حكمتهما سلالاتهما من بعدهما قربة ثلاثة قرون , وقد اتخذت اسرة البطالمة مدينة الاسكندرية عاصمة ومقر لحكمهم , كما اتخذت دولة السليوقية مدينة انطاكية فى شمال سوريا عاصمة لها .
كان بطلميوس قائداً فى جيش الاسكندر ، فقد نشأ معه فى قصر ابيه فيليب المقدوني وتربي معه منذ الصغر واضحي صديقا حميماً له , وقد تميز بطلميوس بنشاطة وقدرته وشجاعته , وقد امتلأ تاريخ البطالمة والسليوقيين بالحروب بينهما فالبطالمه يحاولون السيطره علي سوريه والسليوقيون بدورهم يعارضون اطماع البطالمة ويردون على ذلك بالرغبة فى استيلاء على مصر , وقد اضعفت تلك الحروب كلا البلدين مما ساعد دولة الرومان الناشئه فى القضاء على الدولة السليوقية اولاً ثم القضاء على دولة البطالمة والاستيلاء على مصر عام 31 ق.م فى نهاية حكم الملكة كليوبترا السابعة آخر حكام البطالمة .
1- إنشـاء مدينة الإســـكندريـة وإزدهارها :
اسس الاسكندر الاكبر مدينة جديدة اسمها مدينة الاسكندرية قبل مغادرته من مصر لتكون المركز الرئيسي للحضارة الهلينستية فى العالم القديم وقد اختار لها مكاناً على شريط اليابس الذي يفصل البحر المتوسط عن بحيرة مريوط , ويبدو انه اختار تلك البقعة لجفافها وبعدها عن رواسب نهر النيل ( فرع رشيد ) وسهولة توصيل مياة الشرب اليها وكذا لإرتفاعها النسبي عن مستوي اراضي الدلتا الشمالية بجسر جزيرة تقع فى مواجهتها على مسافة قريبة من الشاطىء تدعي جزيرة فاروس ، ومن ثم فقد اصبح للمدينة الجديدة نتيجة لذلك مرسيان للسفن .. إحداهما شرقي والآخر غربي ( ويوجد بمدينة الاسكندرية الآن ميناءان : الميناء الشرقي والميناء الغربي المستخدم فى وقتنا الحالي لرسو السفن ) وقد عهد الاسكندر الي احد المهندسين الاغريق بتخطيط المدينة فأتمه فى شكل شوارع مستقيمة متقاطعه كما قسمت المدينة الي عدة احياء وكان بينها الحي الملكي وحى راكوتيس(الحى الوطنى) وحي الميناء قد اتم بطلميوس الاول بناء مدينة الاسكندرية وفقاً لتخطيط الاسكندر , كما اهتم ملوك البطالمة التاليين بهذه المدينة واتخذوها عاصمة لبلادهم فبنوا بها القصور والمنشآت وغرسوا الحدائق و اوصلوا اليها مياه النيل العذبة عن طريق ترعة شيديا التي كانت تتفرع الي قنوات عديدة داخل المدينة وتتجمع مياهها فى خزانات خاصة فى احياء مختلفة , ولقد اصبحت مدينة الاسكندرية منذ عهد بطلميوس الثاني اعظم مدن العالم القديم مثلما كانت طيبة فى عهد الدولة الحديثة الفرعونية ولا تزال آثار الاسكندرية الباقية تنطق بما بلغته تلك المدينة من تقدم وازدهار حينا ذاك, وقامت مدينة الإسكندرية بوظائف متعددة اذ كانت عاصمة للبلاد ومركزاً للحكم والادارة طوال العصر البطلمي الذي استمر قرابة ثلاثمائة عام . كما كانت لها وظيفة اقتصادية اذ ازدهرت فيها العديد من الصناعات حتي اصبحت اهم مدن مصر الصناعية . كما اصبحت ملتقي التجارة الوافدة من العالم القديم واكبر مركز للتبادل التجاري الخارجي وكان على رأس مهام المدينة مهمة ثقافية اذ نشأت بها الجامعة والمكتبة والمسرح وغيرها من المنشآت الثقافية التي لعبت دوراً كبيراً فى الاشعاع الثقافي فى العالم القديم وخاصة فى مجالات الآداب والعلوم والفنون واخيراً فقد كانت لها اهمية عسكرية دفاعية واقاموا بها الابراج والبوابات المنيعة . كما رسي بها اسطول قوي للزود عنها وعن مصر كلها..
ثالثا- سياسة البطالمة فى مصـر :
اتبع البطالمة سياسة الاسكندر وساروا عن نهج خطواته . وقد رغبوا فى توسيع نطاق مملكتهم كما عملوا على نشر الحضارة الاغريقية ومزجها بحارة مصر القديمه . ومن ثم فقد حاولوا الحصول على كل ما يمكن الحصول عليه من ثروة البلاد ومواردها مما مكنهم من تكوين جيش واسطول قويين نجحا فى ضم النوبة وليبيا وفلسطين الي مصر ، وفرض سيطرتهم على كثير من جزر حوض البحر المتوسط الشرقي ، كذلك عمل البطالمة على ارساء قواعد بعض مظاهر الحضارة الاغريقية والنهوض بالحضارة الهلينستية الجديده .
لقد كان البطالمة أغريق فى معيشتهم وعادتهم وتقاليدهم ، فكانت معظم مبانيهم على الطراز الاغريقي ولكنهم حاولوا تقليد الطراز المصري القديم والمزج بين الطرازين كما كانت تماثيلهم خليطاً من الفن الاغريقي والفن المصري القديم . ويعرض المتحف اليوناني الروماني بالاسكندرية نماذج رائعة من فن ذلك العصر .. تتمثل فى منحوتات فى مقدمتها تماثيل تعرف بتماثيل تنجاره وآيات من النقش والرسم والفنون وعرفت مصر فى عصر البطالمة اللغة الاغريقية التي اعتبرت لغة رسمية وتحدثت بها الجاليات الاغريقية وكانت لغة الدواوين والمنشآت العلمية والثقافية بمدينة الاسكندرية ولكن المصريين استمروا طوال ذلك العهد يتكلمون ويكتبون باللغة المصرية القديمه وكان من الطبيعي ان يحدث تأثير متبادل بين اللغتين فى استعارة بعض الالفاظ من إحداها وشيوع استخدامها فى الأخري .
وعمل البطالمة على التقرب من المصريين فاحتفظوا بمعظم نواحي التنظيم الاداري التي خلفها لهم الفراعنة مع إدخال تعديلات طفيفه اقتضتها الظروف . ولم يحاولوا التدخل فى شئون المصريين المدنية او عادتهم او تقاليدهم او طرق حياتهم حرصاً منهم على كسب مودتهم وقد احتفظ المصريون كعادتهم بما ورثوه عن آبئهم وأجدادهم من مظاهر الحضارة المصرية القديمه ولم تكن للحضارة الاغريقية من سبيل اليهم الا فيما ندر .
وقد عثر احد رجال الحملة الفرنسية على مصر فى اواخر القرن الثامنعشر على حجر دون علية نص من عهد البطالمة بثلاث خطوط : الخط الهيروغليفي والخط اليوناني ، والخط الديموطيقي . وقد ساعد هذا الحجر المعروف بإسم حجر رشيد والمعروض حاليا بالمتحف البريطاني بلندن على حل رموز الكتابه الهيروغليفية .
ولقد وعي الاسكندر والبطالمة من بعده الدرس الذي لقنه المصريون للفرس عندما اهانوا آلهتهم ، فقد برهن المصريون على قوة عقيدتهم الدينية بثورتهم عليهم وعلى كل من تحدثه نفسه بالمساس بتلك المعتقدات ولذا فقد اتبعوا سياسة تجاه الحضارة المصرية بوجه عام والديانه المصري بوجه خاص تنطوي على الاحترام الكامل فتسابقوا فى حمل الالقاب الملكية القديمه ومثلوا انفسهم فى المناسبات الرسمية مرتدين زي الفراعنة ، وقدموا القرابين للمعبودات المصرية ومنحوها الهبات وانشأوا المعابد والهياكل على الطراز الفرعوني كما اصلحوا منها وعملوا على زخرفتها واضافة بعض الملحقات اليها ، وصوروا انفسهم على جدرانها وفقاً للتقاليد الفرعونية كما عملوا على التوفيق بين الديانتين وحاولا على سبيل المثال التوحيد بين زيوس كبير معبوداتهم وآمون كبير الالهة المصرية .
ولقد بلغ من تأثر الاغريق فى ذلك العصر بالديانه المصرية .. ان اصبحت عقيدة الاله ايزيس عبادة شائعة في بلاد الاغريق نفسها ، كما مزجوا الديانه المصرية بالديانة الاغريقية من خلال معبود جديد اسموه سرابيس اقاموا له معبد السرابيوم فى مدينة الاسكندرية
2- الاهتمام بالمعابد المصرية القديمة :
أما المعابد ذات الطراز المصري القديم التي اهتم البطالمه بإقامتها او بتجديدها وتوسيعها فقد امتازت جميعها بضخامتها وجمال نقوشها وروعه اعمدتها وتماثيلها .ومن اشهر هذه المعابد معبد إدفو وهو مبني فخم رائع خصص لعباده الاله حورس . ويعد اكمل ما حفظ من معابد العصر البطلمي بل من معابد مصر اجمعها .
كما اقاموا معبد دندرة الضخم تجاه مدينة قنا الحالية والذي خصص لعبادة الاله حاتور ربة الامومة والحب والجمال لدي المصرين القدماء .. ولا يزال قائماً يشمخ بأعمدته الضخمة ونقوشه الرائعه وبملحقاته المتكاملة . وتعد معبد جزيرة فيلة اشهر المباني الدينية التي ترجع الي عصر البطالمة . وقد احتلت عبادة عبادة ايزيس مكان الصدارة هناك ومن حولها طائفه من المعبودات المصرية القديمة الأخري وظل تقديس ايزيس قائما فى تلك البقعه الي وقت غير قصير بعد دخول المسيحية الي مصير كما تميزت معابد فيلة بجمال الطبيعة حولها .. حتي لقد سميت بلؤلؤة مصر .
وقد نتج عن بناء السد العالي ان اصبحت جزيرة فيلة محصورة بين خزان اسوان القديم في الشمال والسد العالي فى الجنوب ، ونظراً لتذبذب منسوب المياه حول الجزيرة صعوداً ونزولاً نتيجة لعملية توليد الكهرباء مما يؤثر على سلامة مباني الجزيرة .. فقد استقر الرأي علي نقل مبانيها الاثرية الي جزيرة اخري مجاورة لا تتأثر بذبذبات المياه تقع على مستوي اعلي من جزيرة فيلة . وقد تم بنجاح كبير انقاذ آثار فيلة وتعد عمليه انقاذ معابد النوبة التي هددتها مياه السد العالي وفى مقدمتها معبدا ابوسمبل وفيلة اكبر واضخم عمليه ثقافية شهدها العالم .
كما يعد انقاذ اثار النوبة التي احرزت نجاحاً نتيجة لحرص مصر على المحافظة على تراثها التااريخي وبفضل تعاون العالم كله – اعظم مثل فى تاريخ البشرية للتعاون الدولي الثقافي- ويحق لكل مصري انا يعتز ويفخر بما تركه لنا اجدادنا من تراث اثار اعجاب العالم بعظمته واصالته وروعتة وعراقته منذ اقدم العصور ولا يزال مثيراً للدهشه والاعجاب باعثاُ التقدير والإكبار حتي اليوم .
3- انشاء المدن الجديده :
اتبع البطالمة ساسية الاسكندر الاكبر فى بناء مدن جديده للأعداد الكبيرة من الاغريق اللذين هاجروا الي مصر وعاشوا فيها وقد اصطبغت تلك المدن بالصبغة الاغريقية .. فكانت لغه الكلام بها اغريقية كما انها اتخذت اسماء اغريقيه ، وانتشرت بين ربوعها الميادين والمسارح والملاعب والحمامات وغير ذلك من المنشآت التي توفر للسكان انواعاً من الشناط الاجتماعي والثقافي .
وقد سبق ان ذكرت ان مدينة الاسكندرية اصبحت عاصمة العالم المتمدين حينذاك . وكان القصر الملكي بالاسكندرية اعظم ما رأت الدنيا فى ذلك الزمن. اما مدينه نقراطيس اقدم المدن الاغريقية والتي تأسست ايام الاسرة السادسة والعشرين الفرعونية ( القرن السابع قبل الميلاد ) فقد تضاءلت اهميتها التجارية بعد تأسيس مدينة الاسكندرية ولكنتها فى نفس الوقت ازدهرت صناعياً ، كما انها احتفظت بثقافتها الاغريقيه وانجبت عددا من كبار رجال الآداب والعلوم .
وقد انشأ بطلميوس الاول مدينه بطلميس بالصعيد بالقرب من مدينة سوهاج الحالية لتكون مركزاً للحضارة الاغريقية . وقد خططها المهندسون على نمط الاسكندرية ولكن لم يبق من معالمها القديمة شىء يذكر الآن .
4- الحالة الاقتصادية :
أهتم البطالمة اهتماماً كبيرا بالنواحي الاقتصادية وسعوا الي تنمية موارد الدولة لتحقيق اطماعهم الخارجية واهتماماتهم الداخلية . وقد انعكس عذا الاهتامام على كافة المرافق الانتاجية وخاصة فيما يتعلق بالزراعه والصناعه والتجارة .
ا- الزراعــــــة :
عندما جاء الاغريق الي مصر وجدوها بلداً زراعياً بالدرجة الاول وتتميز بتربة خصبة غنية ، وونيل تتجدد حيويته كل عام خلال فصل الفيضان ، وبشعب اعتمد على الزراعه فى خياته الاقتصادية فاكتسب خبرة كانت تزداد على مر السنين ، وبأرض مستوية واسعه وخاصة فى الدلتا فعملوا على النهوض بالزراعه فأقاموا الجسور وحفروا القنوات وادخلوا استعمال الساقية والطنبور فسارع المصريون الي الافادة منهما الي جانب الشادوف الذي استخدمه المصريون القدماء وكانت اهم محصولاتهم الزرعية هي القمح والشعير والعدس والفول والكتان والفواكه والخضروات الا ان ذلك الازدهار لم يدم طويلاً .. فمنذ اوخار عصر بطلميوس الثالث ظهر نقص فى مساحة الارض المنزرعة ، وكذلك فى الثروة الحيوانية وفى عدد سكان القري وذلك ان النظام المالي الذي اتبعه البطالمة بما يتطلبه من ضرائب باهظة قد اثقل كاهن المزارعين مما دفعهم الي ترك مزارعهم واهمالها والتراخي فى اداء عملهم بل واحياناً الي الثروة ضد الحكام ، وقد بذل البطالمة جهداً كبيراً لإصلاح الأحوال ولكنهم لم يتمكنوا من وقف تيار التهدور الذي هو باقتصاديات البلاد بما فيهم الزراعة الي الحضيض .
ب- الصــناعه :
كفلت الطبيعة لمصر وفرة فى المواد الخام الزراعية والمعدنيه والحجرية وكثرة عدد السكان الذي امتاز الكثيرون منهم بالمارة فى الصناعات اليدوية منذ اقدم العصور وقد ادي هذا الي ازدهار كثير من الصناعات فى العصر البطلمي مثل صناعة ورق البردي والمنسوجات الكتانية والتيلية والزيوت والنبيذ والفخار والزجاج والصناعات الخشبية والجلدية وغيرها مما كانت مصر تصدره الي مختلف بلاد العالم القديم .
وقد انشأ البطالمة الكثير من المصانع لتوفير سبل العيش للوافدين من بلاد الاغريق وعملوا على زيادة الإنتاج وتحسين النوعية حتي تتفق وذوق المستهلكين سواء داخل البلاد او خارجها . وهكذا نجح البطالمة فى استغلال مهارة المصريين ومواهب الاغريق فى الارتقاء بمستوي الصناعه كما ان ما قام به العلماء من ابحاث واختراعات بدار البحث العلمي ( الجامعه) بالاسكندرية قد زاد من تقدم الصناعه ورفع مستواها . وقد احتكر البطالمة بعض هذه الصناعات وأشرفوا على انتاج وتسويق وبيع البعض الآخر .
واهتم الملوك البطالمة الثلاثة الأوائل بتنشيط الصناعه فحسنوا بعض الصناعات التي اتقنها المصريون وحاولوا صبغها بالصبغة الإغريقية فامتلأت اسواق بلاد الشرق الاوسط بأدوات مصنوعة على اساس مصري ولكنها متأثرة بالطابع الإغريقي مثل الأوانمي الفخارية والزجاجية والمعدنية والتي عثر علي الكثير منها فى كثير من الأماكن وخاصة فى حوض وجزر البحر المتوسط .
وكان من نتائج ازدهار الصناعة فى المدن ان نزح الكثيرون من اهل الريف اليها ، وقد كانت الإســكندرية فى مقدمة المدن التي ازدحمت بأعداد كبيرة من العمال والصناع . وكان ارباب كل مهنة وخرفة يتجمعون فى احياء معينة ويؤلفون نقابات تجمع شملهم . وقد قدر عدد العمال الذين كانوا فى مصانع الإســكندرية حينذاك بما لا يقل عن 200.000 عامل .
وهكذا ازدهرت الصناعة فى الفترة الأولي من حكم البطالمة إلا ان تدهور الزراعة منذ أواخر عهد بطلميوس الثالث قد استتبعه تدهور الصناعة وفشلت الجهود التي بذلت لوقف التدهور فى الصناعة وحاولة النهوض بها من جديد .
ج- التــجارة :
ساعد النشاط الزراعي والصناعي علي رواج التجارة الخارجية والتي اهتم بها البطالمة اهتماماً كبيراً.
وقد شجعهم على ذلك موقع مصر الجغرافي فى قلب العالم القديم وولع الإغريق بالنواحي التجارية فأنشأوا الموانىء على ساحلي البحر المتوسط والأحمر وأقامواالمصانع لبناء السفن وبنوا المنارات لإرشادها ونظموا شئون الجمارك وسكوا العملة لتسهيل التبادل التجاري . وقد وصل التبادل التجاري الي الهند والصين شرقاً والي اسبانيا غرباً والي أواسط افريقيا جنوباً والي بعض أجزاء اوروبا شمالاً .
ولكن جشع البطالمة ومبالغتهم فى فرض الضرائب ثم فقدانهم الكثير من ممتلكاتهم الخارجية والتي كانت تمثل سوقاً رائجة لتصريف بضائعهم قد ادي فى النهاية الي تدهور التجارة واسوة بالزراعه والصناعة فى الفترة الأخيرة من حكمهم .
والواقع ان الصراع بين البطالمة والسوليقيين الذي بدأ منذ قيام اسرتيهما فى مصر وسورية بعد وقاة الاسكندر لم يكن نزاعاً سياسياً فحسب بل كان نتيجة للمنافسة التجارية اذ حاول كل منهما السيطرة على الطرق التجارية الهامة التي كانت تربط بين الشرق من ناحية وبين البحر من ناحية اخري .
وقد لعبت العملة دوراً هاماً فى اودهار التجارة البطلمية والتي استخدمها الاغريق والفرس كوسيلة للتبادل التجاري منذ بضعة قرون ويرجع الفضل الي الاسكندر وخلفائه البطالمة فى سك العملة التي بدأت تنتشر رويداً رويداً وان لم تقض على نظام المقايضة تماماً . وكانت العملة البطلمية ثلاثتة انواع واكثرها قيمة كانت العملة الذهبية تليها الفضية فالبرونزية وكانت تسك جميعاً فى الإسكندرية ويعرض متحفا القاهره والاسكندرية نماذج عديدة للعملة البطلمية .
5_ حالة مصر السياسية :
ظلت مصر في الفترة التي ما بين سنة(31 ق. م)وسنة (395 م)تابعه للدولة الرومانية واعتمدت روما في توطيد سلطانها على مصر بالقوة العسكرية والتي أقامت لهم الثكنات في أنحاء البلاد فكان هناك حامية شرق الأسكندريه وحامية بابليون وحامية أسوان وغيرها من الحاميات التي انتشرت في أرجاء البلاد.
وكان يتولى حكم مصر وال يبعثه الإمبراطور نيابة عنه ومقره الأسكندريه يهيمن على إدارة البلاد وشئونها المالية وهو مسئول أمام الإمبراطور مباشرة وكانت مدة ولايته قصيرة حتى لا يستقل بها ،وهذا ما جعل الولاة لا يهتمون بمصالح البلاد بل صبوا اهتماماتهم على مصالحهم الشخصية وحرموا المصريين من الاشتراك في إدارة بلادهم مما جعلهم كالغرباء فيها ،بالاضافه إلى منعهم من الانضمام للجيش حتى لا يدفعهم ذلك إلى جمع صفوفهم ومقاومة الرومان في المستقبل.
وأمام هذه السياسة الجائرة فقد رأى المصريون أن الرومان مغتصب آخر أخذ الحكم من مغتصب أول وهم البطالمة ،فلم يتغير من الوضع شيء بل أزداد الأمر سوء كما كان يحدث عادة عند انتقال الحكم من أسره فرعونية إلى أخرى فرعونية.
وقد رضخ المصريون لهذا الحكم فترة وثاروا في فترات وكانت الحاميات الرومانية تقضى على هذه الثورات بكل عنف ومن أخطر هذه الثورات ما حدث في عهد الإمبراطور (ماركوس أورليوس)_180 م) وعرف بحرب الزرع أو الحرب البكوليه_ نسبة إلى منطقه في شمال الدلتا _ وتمكن المصريون من هزيمة الفرق الرومانية وكادت الأسكندريه أن تقع في قبضة الثوار لولا وصول إمدادات للرومان من سوريا قضت على هذه الثورة.
رابعاا- الثورة في أواخر عهد البطالمة:
لم تجد فتيلاً المحاولات التي بذلها بطلميوس الثامن لتهدئة البلاد ، فإنه عقب وفاته في عام 116 ق.م بقيت البلاد تعاني نفس ما كانت تعانيه في خلال حياته من ظلم ، نتيجة للصراع على السطلة .
وقد نشب هذا الصراع أولاً بين كليوبترا الثالثة وكليوبترا الثانية حتى وفاة الأخيرة في أواخر عام 116، وثانياً بين كليوبترا الثالثة وابنها الأكبر بطلميوس التاسع سوتر الثاني الذي أرغمها الإسكندريون على إشراكه معها في الحكم بدلاً من ابنها المفضل لديها بطلميوس إسكندر وانتهى الأمر بطرد سوتر الثاني (عام 107 ق.م) وذهابه إلى قبرص ليعد العدة لاستراداد عرشه ، وثالثاً بين كليوبترا الثالثة وابنها بطلميوس إسكندر الذي لم يكن أسعد حظاً من أخيه مع أمه ، فقد صممت على أن تقبض على كل السلطات ، مما أثار الشحناء والبغضاء بينهما وبين أنصارهما إلى أن توفيت كليوبترا (عام 101 ق.م) فحكم بمفرده إلى أن طرده الإسكندريون (عام 89ق.م) ولقى حتفه في العام التالي .
وعندئذ استرد سوتر الثاني عرشه وظل يتولاه إلى أن توفي (عام 80ق.م) وبعد وفاة سوتر الثاني تربع على العرش بطلميوس أوليتس (الزمار) حتى عام 51 ق.م ، وكان الزمار ملكاً تافهاً أراق ماء وجهه وبدد ثروة مملكته في شراء اعتراف الرومان به ملكاً وحليفاً .
وعندما سطت روما على قبرص ـ أخر ممتلكات مصر الخارجية ـ تذمر الإسكندريون تذمراً شديداً ، وإزاء عجزه عن تهدئة ثائر رعاياه ، ذهب إلى روما (عام 58 ق.م) يستعديها عليهم ، وبعد غيبة دامت أكثر من عامين عاد إلى مصر (عام 55 ق.م) في حماية كتائب جابينيوس ، حاكم سوريا الروماني ، لقاء رشوة كبيرة ، فانتقم من خصومه شر انتقام ، وعين أكبر دائنيه ـ الممول الروماني رابيريوس ـ وزيراً للمالية ، فاعتصر دافعي الضرائب إلى حد أثار نقمتهم عليه وعلى الملك الزمار .
وفي عام 51 ق.م توفي الزمار مكروهاً من شعبه ومحتقراً من الرومان وعقب الخلافات الأسرية التي شهدتها بداية حكم كليوبترا السابعة ، أكتسبت مصر لفترة قصيرة أهمية سياسية عظيمة كانت أشبه بصحوة الموت ، إذ أن روما لم تلبث أن ضمتها إلى إمبراطوريتها في عام 30 ق.م .
1- الثورة في عهد بطلميوس الثامن:
إزاء الأحوال السيئة التي عمت البلاد ، اضطرت الحكومة إلى منح بعض الامتيازات لفئات مختلفة من سكان البلاد (الكهنة والجنود وملاك الأراضي الذين أقبلوا على استصلاح الأراضي المهجورة) لكن هذه الامتيازات وإن كانت قد عدلت النظام الاقتصادي الذي وضعه البطالمة الأوائل بتخفيف إشراف الحكومة على نشاط الأفراد الاقتصادي ، فإنها لم تتسطع وقف تيار التدهور ، ولم تقض على إرهاق الحكومة للأهالي ، ولذلك استمروا في تذمرهم ويتطلعون إلى القيام بثورة جديدة .
وقد أتاحت لهم ذلك ظروف عهد بطلميوس الثامن ، الذي كان عامراً بالنزاع الأسرى والإضطراب ، وعلى الرغم من أن الملك الجديد اقتفى أثر إسلافه وأصدر في بداية حكمه قرار عفو واحد على الأقل فإن السكينة لم تستتب في البلاد ، إذ ورد في الوثائق عن مقاومة رجال الشرطة في الفيوم لنشاط جماعات المزراعين الهاربين من أراضيهم ، مما حدا بالكهنة إلى الشكوى منها وانتهاز الفرصة لتأييد حقوق يبدو أن بطلميوس الثامن كان قد منحهم أياها في بداية حكمه ، فإنه استجابة لشكوى بعض الكهنة أصدر قراراً جديداً وجهه لجميع موظفي الإدارة وعمال المالية .
وقد جاء في هذا القرار أنه ، يجب عدم المساس بموارد المعابد ، وإلا يقوم أحد لأي سبب بجمع هذه الموارد فيما عدا من عينهم الكهنة لهذا الغرض ، ويجب إرغام المتقاعسين على أداء التزاماتهم المستحقة عليهم للمعابد بانتظام ، وذلك لكي يحصل الكهنة على كل مواردهم كاملة ولا يعوقهم شيء عن القيام بواجباتهم الدينية ، وإذا كان عمال الكهنة هم الذين أصبحوا يجمعون كافة موارد المعابد بمقتضى ما أقره بطلميوس الثامن ، فإن هذا ينهض دليلاً على أن الحكومة لم تعد على الأقل رسمياً منذ حوالي منتصف القرن الثاني تدير أراضي المعابد ، وهذا فوز كبير للكهنة لم يفلحوا في استخلاصه من براثن البطالمة إلا نتيجة لتقلقل مركزهم وضعف سلطانهم.
وفي عام 131 ق.م أعطت الإسكندرية شارة البدء بالثورة ، ففي ذلك العام أرغمت كليوبترا الثانية وأنصارها الملك على الهرب من الإسكندرية ، فالتجأ إلى قبرص لكن غيبته عن مصر لم تزد على بضعة شهور وإن كان لم يفلح في استرداد الإسكندرية ذاتها قبل أغسطس عام 127 ق.م .
ويرى بعض المؤرخين أن مصر رجحت إصدار هذا الخلاف وانقسمت فريقين ، وأنه كان يؤيد كليوبترا الثانية على الأقل جانب من الإغريق وكذلك اليهود وجانب من الجيش ، على حين كان يؤيد بطلميوس الثامن بقية الجيش وكثير من المصريين أو من المحتمل غالبيتهم بزعامة الكهنة ، وأن هذه الحرب الأهلية كانت مزيجاً من النزاع الأسري والثورة القومية ولذلك عمت الفوضى البلاد.
أننا نعتقد أن هذه الحرب الأهلية كانت حقا مزيجاً من النزاع الأسرى والثورة القومية ، وأنه عمت البلاد فوضى عنيفة أمعن القدماء في وصف فظائعها وأهوالها .
وتفسير ذلك أنه كان لكليوبترا الثانية حزب يضم الجانب الأكبر من إغريق مصر والمتأغرقين وسائر خصوم كهنة آمون ، ولذلك كان الموقف الطبيعي لغالبية المصريين هو مناهضة هذا الحزب أشفاء لغليل حقدهم على الإغريق ومن هادنهم من المصريين ، فبدوا كما لو كانوا يناصرون بطلميوس الثامن ، وعلى كل حال يبدو أن المصريين انتهزوا فرصة ضعف الحكومة للإعراب عن مشاعرهم المكبوتة إزاء ما كانوا يعانونه من الإرهاق والظلم .
وبينما اتخذ غضب المصريين في الوجه البحري ومصر الوسطى شكل الأضراب عن العمل ، اتخذ في مصر العليا شكل قتال بين المدن والقرى بعضها مع بعض ، فقد كانت بعضها لا يعترف إلا بطلميوس الثامن ملكاً شرعياً ، والبعض الأخر ، لا يعترف إلا بكليوبترا الثانية .
ولم تؤد عودة بطلميوس الثامن إلى الإسكندرية في عام 127 ق.م ، ولا عقد الصلح بينه وبين كليوبترا الثانية في عام 124 إلى انتهاء الثورات في البلاد ، ولما لم تكف القوة وحدها في القضاء على الاضطرابات والقلاقل والثورات ، فإن بطلميوس الثامن حاول وضع حد لذلك بإصدار قرار أو سلسلة قرارات لمعالجة الأسباب التي أدت إلى هذه الحالة والنتائج التي ترتبت عليها .
وليس أدل على ضنك الطبقات العاملة وسوء حالتها من أن عادة وأد الأطفال قد انتقلت تدريجياً من الإغريق إلى المصريين عامة ، وتفشت بين الطبقات العاملة خاصة ، وكل ما فعلوه هو أنهم حاولوا حماية أولئك التاعسين من جور موظفي الحكومة العابثين ، فقد بقى زراع الملك والصناع وأرباب المهن والحرف المختلفة أداة في قبضة الحكومة لإمداد الملك بموارده ، دون أن يكون لهم من الحرية الاقتصادية إلا قسط محدود جداً .
وقد حاولت الحكومة بشتى الطرق إقناع الطبقات العاملة بأن دورهم في الحياة مقصور على خدمة موارد الملك بسواعدهم ، فكان طبيعياً ألا يقبل الملايين من الزراع والصناع والعمال على عملهم بحماس ونشاط ، على الرغم من تظاهرهم بمشاطرة الحكومة أفكارها .
ولذلك كثيراً ما أهملوا الزراعة وتراخوا في إصلاح الجسور وتطهير القنوات وفي القيام بأعمالهم في المصانع والحوانيت ، وكثيراً ما كان الزراع لا يقدمون كل حبوبهم لدرسها أو كل النبات الزيتية لعصرها .
وقد ترتب على هذه الروح ونقص اليد العاملة ، بسبب الانقطاع عن العمل والثورات ، نتائج بعيدة المدى في مجالي الزراعة والصناعة ، ولما كانت الحكومة ـ كما هي العادة ـ تؤاخذ الموظفين على ذلك وتتطلب منهم النشاط في السهر على مواردها فإن الموظفين إزاء مسئوليتهم المادية والشخصية قبل الحكومة كانوا يضغطون بدورهم على مرءوسيهم وهؤلاء على الطبقات العامة .
ولكي تساعد الحكومة موظفيها على الاطلاع بأعمالهم ، أطلقت يدهم من كل قيد ومنحتهم اختصاصاً قضائياً واسعاً في الشئون المالية ، فأساء الموظفون السطات التي منحت لهم وأرهقوا الأهالي ، حتى بدا إن الموظفين كانوا مصدر كل الشر الذي عاناه الأهالي .
وقد حاول بطلميوس الثامن وغيره من البطالمة كبح جماح شهوات الموظفين دون طائل لأن السلطة المركزية لم تعد قادرة على تنفيذ قوانينها وأوامرها ، وينهض دليلاً على ذلك أن حالة الطبقات العاملة لم تتحسن في آخر القرن الثاني وبداية القرن الأول ، وإن سوء تصرفات الموظفين كان فاشياً .
وإزاء سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية وفساد الموظفين أكتسبت إحدى منح المعابد أهمية كبيرة ، حق حماية اللاجئين الذي لم يتمتع به في عهد البطالمة الأوائل إلا القليل من المعابد الكبيرة ، وكان يضاف إلى هذا الحق أحياناً حق الإعفاء من الضرائب ومن الالتزمات الإضافية ، وإذا كان البطالمة الأوائل قد حرصوا على أن يقيدوا تدريجياً الحق الممنوح للمعابد لحماية اللاجئين إليها ، فإنه كلما ضعف البطالمة وازداد نفوذ رجال الدين وكذلك نفوذ الموظفين وعبثهم ، ازداد إصرار الكهنة على مطالبة الحكومة بإحترام وتأييد هذا الحق الذي منح لبعض المعابد .
وأهم مظاهر هذا الحق هو( ألا يسمح الكهنة بدخول معابدهم إلا للأشخاص الذين يعتبرونهم مرغوباً فيهم) ، ولذلك فإنهم كانوا يضعون في أبرز الأماكن في المعابد لوحات تحمل هذه العبارة "لا يسمح بدخول الأشخاص الذين لا شأن لهم في المعبد" ، وقد كان الكهنة يصرون بأنه لا يحق لأحد أن يدخل المعابد عنوة للاعتداء على الكهنة أو على الذين احتموا بالمعابد ، أو لإخراجهم من المعابد .
ولم يقصد الكهنة بحق حماية اللاجئين إلى المعابد مناهضة القوانين والنظم القائمة ، وإنما مناهضة عبث الموظفين وجورهم وكذلك مواجهة دخول بعض الأهالي المعابد عنوة .
ب- الثورة في عهد فيلومتور:
عندما توفي ابيفانس في الثامنة والعشرين من عمره ، ارتقى العرش مرة أخرى طفل صغير ، عانت مصر في عهده كثيرًا من جشع الأوصياء وفساد حكمهم ، ومن النزاع بين بطلميوس السادس فيلومتور وأخيه الصغير الذي عرف فيما بعد باسم بطلميوس يورجتيس الثاني .
و ديونيسيوس بتوسيرابيس قد حاول استغلال هذا النزاع لتحقيق الآمال التي كانت تجيش في صدور المصريين منذ مدة طويلة ، وبيان ذلك أن هذا الزعيم ، الذي كان يتولى منصباً كبيراً في القصر ويتمتع بنفوذ كبير بين المصريين ولعب دوراً ممتازاً في الحرب ضد أنطيوخوس وذاعت شهرته الحربية بين الناس ، أراد في عام 195/164 أن يتخلص من الملكين الأخوين الواحد بعد الآخر ، باستثارة خواطر الإسكندريين ضد بطلميوس السادس فيلومتور ، حتى إذا ما تم له ذلك استنفر فيما يبدو وطنية الأهالي ضد بطلميوس الصغير .
لكن فيلومتور خيب عليه خطته بمصالحة أخيه ، فانسحب ديونيسيوس إلى اليوسيس ، ضاحية الإسكندرية ، حيث التف حوله 4000 من الجنود لعلهم كانوا جميعاً من المصريين ، وعندما انقض عليهم فيلومتور وهزمهم ، تمكن ديونيسيوس من الفرار وإشعال لهيب الثورة في البلاد .
تولى فيلومتور بنفسه إخماد الثورة بمعاونة قوات كبيرة ، و استطاع إخمادها بسهولة في منطقة طيبة فيما عدا مدينة بانوبوليس (مدينة أخميم الحالية) التي قاومته مقاومة عنيفة ، إذ يبدو أن صعوبة الوصول إليها بسبب ارتفاعها ساعد الثوار على الاعتصام بها ، فلم يتوصل الملك أليها إلا بعد حصار شديد ، وبعد ذلك عاقب الثوار ثم عاد إلى الإسكندرية .
وجدير بالملاحظة أن الثورة قد تركزت هذه المرة أيضًا في أحد معاقل عبادة آمون كما حدث في ثورة عهد فيلوباتور ، وقد يدل اهتمام فيلومتور بحماية الحدود الجنوبية على مساعدة النوبيين للمصريين في ثورتهم .
إن عدداً كبيراً من المصريين اشتركوا في الثورة وهلكوا في معاركها العديدة ، أو أعدموا بعد إخماد الثورة ، أو بقوا مختفين في الصحارى والمستنقعات ، فترتب على كل ذلك قلة اليد العاملة في كل أنحاء البلاد , وصاحب ذلك أيضاً قلة الماشية ، وتبعاً لذلك تأثرت الزراعة إلى حد بعيد كما تأثرت دون شك الصناعة والتجارة .
لكن الزراعة كانت تعني الحكومة قبل كل شيء لتوفير غذاء سكان البلاد ولأنها كانت مورد الحكومة الرئيسي ، ولما لم يعد يجدي استصراخ همة المتيسيرين لإنقاذ الموقف ، فإنه تقرر إرغام الجميع على المساهمة في زراعة الأراضي المهجورة .
ولم يفي هذا القرار الغرض المنشود منه ، فمن ناحية أخذ الموظفون ينفذونه بنشاط جم ولكن دون تفكير ، ذلك أنهم فسروا كلمة "الجميع" حرفيًا , ومن ناحية أخرى يبدو أن الأثرياء وذوي النفوذ استطاعوا أن يتخلصوا من العبء برشوة الموظفين واستغلال نفوذهم ، فوقع كل العبء أو أكثر على التاعسين الذين لا نفوذ لهم ولا مال يحيمهم من غائلة الموظفين .
ولما كان أغلبهم من مزارعي الملك الفقراء والجنود المصريين بوجه خاص فإن الموقف كان دقيقاً ، ولاسيما أن عدد الجنود المصريين الذين منحوا اقطاعات ازداد سريعًا منذ عهد فيلوباتور ، و كانوا يتمتعون بمركز هام في الجيش عقب موقعة رفح ، و عدداً منهم كان معسكراً في الإسكندرية بمثابة حرس خاص للملك ، وإزاء الأعباء التي ألقيت على كاهلهم تقدموا بظلاماتهم إلى الملك ، الذي خشى هو ومستشاروه عاقبة الأمر ، فبادر بإرسال تعليمات إلى مرءوسيه لرفع العب الذي لحق بالجنود المصريين وطبقات السكان الدنيا بوجه عام والمصريين بوجه خاص ، وكان ثائراً على مرءوسيه لغباوتهم ، فإنه لم يقصد "بالجميع" كل فرد بل جميع القادرين على تحمل العبء .
تعليماته كانت تنطوي على إرغام المتيسيرين من طبقة ملاك الأراضي على زراعة الأراضي المهجورة ، ولما كان الإرغام يؤدي دون شك إلى الإرهاق ، فإن أفراد تلك الطبقة حاولوا بطبيعة الحال أن يتخلصوا من التبعات التي فرضت عليهم ، وكانت حيلهم لتحقيق ذلك كان التسرب إلى صفوف تلك الطبقة الممتازة ، طبقة رجال الجيش ، ولذلك اتخذت الحكومة من الإجراء ما يحول دون ذلك .
وقد كان الإرغام سلاحًا خطيراً ، وكان بعض الأهالي يحاولون تفادية والبعض الآخر يقابلونه بالشكاوي المريرة والإضراب عن العمل وهجر مواطنهم ، مما كان يساعد على إشعال لهيب الثورة ، ولذلك فإن الحكومة كانت لا تلجأ دائماً إليه ، أو كانت تحاول تخفيف عبئه ، بإنقاص الإيجار أو منح بعض الامتيازات للزراع لقاء استصلاح الأراضي البور المهجورة ، وذلك بإعفائهم من الإيجار مدة عشر سنوات أو خمس ، ثم فرض إيجار أسمى مدة معينة ، وبعد ذلك يحصل الإيجار كاملاً . وإذا كانت النتيجة مُرضية في بعض الحالات ، حيث أعيدت الأرض إلى حالها السابقة ، فإنها لم تكن كذلك بوجه عام لأنها لم تضع حداً لإطراد زيادة مساحة الأراضي غير المنزرعة التي كانت الحكومة لا تصيب منها أي دخل .
وقد كان يزعج الحكومة كذلك نقص مواردها من الضرائب فكانت تضغط على الملتزمين ، و استخدموا كل وسيلة مشروعة وغير مشروعة في امتصاص دمائهم .
أن بعض الجنود المصريين كانوا موالين للملك ، على حين اشترك البعض الآخر في الثورة ضده ، ويدل نجاح البطالمة في إخضاع الثورات المصرية على أنه إذا كان الكثيرون من الجنود المصريين قد اشتركوا في هذه الثورات ، فإن غالبيتهم موالين للبطالمة ، ويبدو أن الكهنة المصريين قد انقسموا أيضًا بين ثائرين على المك وموالين له .
إن القضاء على الثورة لم يضع حداً للاضطرابات في مصر ، ولذلك فإنه ما كاد فيلومتور يعود من روما بعد أن أحرز نصراً سياسياً على أخيه الصغير ، حتى أعلن في عام 163 عفواً يشمل كل الذين كانوا مختبئين أو أتهموا باشتراكهم في الثورة ، وعلى الرغم من ذلك لم يستتب الهدوء والأمن في البلاد.
6_الحالة الدينية :
ترك الرومان للمصريين حرية العقيدة، وعاملوهم في هذه الناحيه باللين، فلم يتدخلوا أويحدوا من حرية المعتقدات، وكانت مصر كغيرها من الولايات الرومية تدين بالدين الوثنى، وظل المصريون ينعمون بهذه الحرية إلى أن ظهرت المسيحية في فلسطين، وكانت مصر في طليعة البلاد التي تسربت إليها المسيحية في منتصف القرن الأول الميلادى، على يد القديس (مرقص) لقربها من فلسطين.
وأخذ هذا الدين ينتشر في الأسكندريه والوجه البحرى ثم إنتشر تدريجيا في أنحاء مصر خلال القرن الثاني الميلادى فثارت مخاوف الرومان الوثنيين، وصبوا العذاب صبا على المصريين الذين اعتنقوا المسيحية، وتركوا الوثنية الدين الرسمى للدوله.
وأخذ الاضطهاد صورة منظمة في عهد الإمبراطور سفروس(193_211م) ثم بلغ ذروتهالقصوى في حكم الإمبراطور دقالديانوس (284_305م) فقد رغب هذا الإمبراطور أن يضعه رعاياه موضع الألوهية، حتى يضمن حياته وملكه، فقاومه المسيحيون في ذلك، فعمد إلى تعذيبهم، فصمد المصريون لها الإضطهاد بقوة وعناد أضفى عليه صفة قوميه، وقدمت مصر في سبيل عقيدتها أعدادا كبيرة من الشهداء مما حمل الكنيسة القبطية في مصر أن تطلق على عصر هذا الإمبراطور (عصر الشهداء).
ولم تفلح وسائل الإضطهاد في وقف إنتشار المسيحية التي عمت كل بلاد مصر.
وقد خففت وسائل الإضطهاد عندما اعترف الإمبراطور قسطنطين الأول : (306_337م) بالمسيحية دينا مسموحا به في الدولة كبقية الأديان الأخرى.
وأصدر الأمير تيودوسيوس الأول (378_395م)في سنة 381م مرسوما بجعل المسيحية دين الدولة الرسمى الوحيد في جميع أنحاء الإمبراطوريه.
وأخذت الإضطهادات، وسبل التعذيب تنصب تبعا لذلك على الوثنيين بعد أن كانت تتوالى على المسيحيين، وتابع المسيحيون نشر دينهم بنفس القوة التي حاول بها أنصار الوثنية إخماد جذورة المسيحية بها.
وعلى الرغم من أن المسيحية صارت الدين الرسمى للإمبراطور، لم تنعم مصر بهذا المرسوم لوقوع خلاف وجدال في طبيعة السيد المسيح _عليه السلام_ وبلغ النزاع أقصاه بين كنيسة الأسكندرية التي تنادى بالطبيعة البشرية للمسيح، وبين كنيسة روما القائلة بالطبيعتين إحداها بشرية وأخرى إلهية للسيد المسيح.
وبذلك تعرض المصريون لألوان العذاب لاعتناقهم مذهبا مخالفا لمذهب الإمبراطورية.
7_الحالة الإجتماعيه :
كان المجتمع المصري في ذلك العهد يحيا في أسوأ أيامه حيث السلطه والإدارة والوظائف في يد الرومان، والمصريون محرومون حتى من التمتع بخيرات بلادهم، لفرض الضرائب الباهظه المتعددة عليهم وكذلك حرمانهم من الإشتراك في الجيش، مما جعلهم يعيشون كالغرباء عنها، وإذا وصل بعضهم إلى منصب دينى فإننا نجد الإضطهاد ينصب على هؤلاء القادة الدينيين، مما حمل فريق كبير منهم على الفرار بعقيدته إلى الأديرة والكهوف المنتشرة في أنحاء مصر واتخذوا عادة التنسك التي أخذوها عن اليهود، فازداد عدد الأديار تبعا لذلك وكثر عدد أعضائها الذين أعطوا لأنفسهم حق الإعفاء من الوظائف غير المأجورة وغيرها، وشذ بعض من هؤلاء فاحترفوا السطو والنهب.
وعلى هذا نقول أنا المجتمع المصري في هذه الفترة كان على طبقتين :
1_ طبقة الرومان : وهم المنعمون المرفهون الذين يسكنون الحواضر ويتمتعون بخيرات البلاد.
2_ طبقة المصريين : الطبقة الكادحة الذين يعيشون في عناء وشقاء.
خامسا- منشــــآت مدينة الإسكندرية التي خلدها التاريخ :
زخرت الاسكندرية بالعديد من المنشآت الاقتصادية والثقافية التي خلدها التاريخ رغم ضياع معظم معالمها الآن . وقد اشتهرت مدينة الاسكندرية البطلمية بوجه خاص بثلاث منشآت : المنارة ودار البحث العلمي ( الجامعه) والمكتبة.
ا- المنـــارة :
شيدت منارة الاسكندرية على مدخل الميناء الشرقي وفى الجزء الجنوبي من جزيرة فاروس حيث توجد قلعة قايتباي الآن . وكان الهدف من اقامتها هداية السفن القادمة الي الاسكندرية اذ كان نورها يري على بعد خمسين كيلومتراً من الشاطىء بواسطة مرآة كانت تستخدم فى عكس الضوء لماسافات بعيدة . وقد اعتبرت احدي عجائب العالم القديم .
وقد شيدت هذه المنارة فى عصر بطلميوس الثاني حوالي سنه 280 ق . م على شكل برج بلغ ارتفاعه حوالي 135 متراً واستخدم فى بنائها الحجر الجيري كما حليت بأعمدة من الجرانيت والرخام وبحليات من البرونز وكان المبني مكوناً من ثلاثة طوابق : الطابق الأول مربع الشكل والثاني مثمن الشكل اما الطابق الثالث فكان اسطوانياً يعلوه مصباح تغطيه قبة يبلغ ارتفاعها ثمانية امتار ، اقيم فوقها تمثال ضخم من البرونز بلغ ارتفاعه سبعة امتار ويرجح انه كان لإله البحار عند الإغريق .
وقد بقيت المنارة تؤدي وظيفتها فى ارشاد السفن حتي بعد فتح عمرو بن العاص لمصر عام 641 م . ثم توالت عليها الكوارث .
ففي 700م . تهدم الطابقان العلويان فقام احمد بن طولون عام 880م . بترميم المبني . ثم حلت كارثه اخري عام 1100 م . غثر زلزال عنيف ولم يبق منها سوي الطابق المربع الشكل الي ان حدث زلزال آخر فى القرن الرابع عشر اتي علي البقية من البناء ودمرها تدميراً تاماً
الذي بناها جعلها على كرسي من زجاج على هيئة السرطان في جوف البحر وعلى طرف اللسان الذي هو في داخل البحر وجعل على أعلاها تماثيل من النحاس وغيره، ومنها تمثال قد أشار بسبابته من يده اليمنى نحو الشمس، أينما كانت من الفلك، واذا كانت الشمس عالية أشار اليها وإذا انخفضت فإن يده تشير لأسفل وهناك تمثال آخر يشير بيده الى البحر إذا صار العدو على نحو ليلة من الاسكندرية فإذا اقترب العدو أصبح من الممكن رؤيته بالعين فإن هذا التمثال يصرخ بصوت هائل يمكن سماعه من على بعد ثلاثة أميال فيعلم أهل المدينة أن العدو قد اقترب منهم فيخرجوا للحرب.. وتمثال آخر بمثل هذه الغرابة كلما مضى من النهار أو الليل ساعة فإنه يصدر صوتا واضحا مختلفا عن صوت الساعة السابقة وصوته جميل وبه طرب
ومن الحوادث التي تذكر عن محاولات الروم التخلص من هذه المنارة التي تهدد دخولهم مصر واستيلاءهم عليها.. تلك القصة التي تدور عن أحد ملوك الروم حين أرسل أحد أتباعه الى »الوليد بن عبدالملك بن مروان«.. وجاء هذا التابع واستأمن »الوليد« وأخبره أن ملك الروم يريد قتله، ثم أنه يريد الاسلام على يد »الوليد«.. وبالطبع اقتنع »الوليد« وقربه من مجلسه وسمع نصائحه.. خاصة أن هذا الرجل قام باستخراج دفائن وكنوز عديدة من بلاد دمشق والشام وغيرها بكتب كانت معه فيها وصفات لاستخراج تلك الكنوز.. وقتها زاد طمع »الوليد« وشراهته حتى قال له الخادم يا أمير المؤمنين إن هاهنا أموالا وجواهر ودفائن للملوك مدفونة تحت منارة الاسكندرية وقد قام بدفنها الاسكندر بعد استيلائه عليها من شداد بن عاد وملوك مصر وبنى لها نفقا تحت الأرض به قناطر وسراديب وبنى فوق ذلك كله المنارة.. وكان طول المنارة وقتها ألف ذراع والمرآة الكبيرة في أعلاه.
فقام الوليد بإرسال جيش من جنوده وخلصائه ومعهم هذا »الخادم« الداهية وهدموا نصف المنارة من أعلاها وأزيلت المرآة.. فهاج الناس وقد علموا أنها مكيدة من الروم.. وبعد أن نفذ »الخادم« خطته قام بالهرب في البحر ليلا عن طريق مركب أعده لذلك من قبل.
ومن الحكايا