أعلام المفسرين يشيدون بحكم بلقيس
هل خاب أهل اليمن عندما ولوا أمرهم امرأة؟
بلقيس هي المرأة التي تولت حكم اليمن في حقبة من حقب التاريخ وامتلكت معظم صفات الحاكم الرشيد , وكان من ثمار حكمها أنها قادت قومها إلى الإسلام بحسن نظرها وتدبيرها , وجنبتهم حربا تزهق فيها الأرواح , ويهلك فيها المال والنسل ,ويذل فيها أشراف القوم وكبرائهم ، وكان من الصفات التي تميزت بها في حكمها وشهد لها بها كبار المفسرين ما ظهر جليا واضحا في سورة النمل من آية (23-44) ونجملها في ما يلي:-
<!--إنصافها لعدوها وذكر ماله من محاسن (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ) فوصفت كتاب عدوها بأنه كتاب كريم ولعلها أدركت ذلك من شكل الكتاب ومضمونه ، فلكتب الملوك سمات لا توجد لغيرها من الكتب.
<!--ثقة قومها في رأيها ,وتفويض الأمر إليها , لما عهدوه عنها من قوة العقل ,وسداد الرأي قال القرطبي (ردوا أمرهم إليها لما جربوا على رأيها من البركة)(1) وقال الشوكاني (ثم فوضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها وقوة عقلها) (2).
<!--معرفتها بأخلاق الملوك المتغلبين, وقوانين الغزاة المحتلين (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) فهم يخربون البلاد التي يحتلونها وينهبونها, ويذلون مصدر المقاومة فيها من أشرافها. قال الشوكاني(إذا دخلوا قرية من القرى خربوا مبانيها وغيروا معانيها وأتلفوا أموالها وفرقوا شمل أهلها { وجعلوا أعزة أهلها أذلة } أي أهانوا أشرافها وحطوا مراتبهم فصاروا عند ذلك أذلة وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتم لهم الملك وتستحكم لهم الوطأة وتقرر لهم في قلوبهم المهابة)(3) وقد أيد الله هذه المعرفة التي كانت ثمرة الخبرة. والاستقراء لأحوال الممالك, وسير الملوك , قال الشوكاني (وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت فقال سبحانه: { وكذلك يفعلون })(4)
<!--قدمت منطق العقل والسياسة, على منطق الحرب والقوة, فقد عرض قومها عليها الحرب , زهواً بجيوشهم الجرارة التي أعدت إعداداً عظيماً ، وخبرت الحرب زمناً طويلاً ، وعُرف عنهم الشجاعة والنجدة (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) قال الشوكاني ({ نحن أولو قوة } في العدد والعدة { وأولو بأس شديد } عند الحرب واللقاء لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا) (5) ، ولكنها بكياستها آثرت طريقة الملاينة والملاطفة فقامت بإرسال هدية قال القرطبي (وهذا من حسن نظرها وتدبيرها ) (6).
<!--ذكاؤها في اختيارها أحسن الأساليب السياسية للتأثير على الخصوم , فقد استخدمت أسلوب المهاداة والملاطفة لتكسب مودة عدوها، والهدية كما قال القرطبي (مما تورث المودة وتذهب العداوة)(7) قال قتادة رحمه الله (ما كان أعقلها في إسلامها وشركها علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس)(8)وذلك يدل على طول باعها في أمور السياسة والحكم قال البغوي في تفسيره ( وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست) (9)
<!--[if !supportLists]-->6. ترويها في الأمور العظيمة والخطوب الجليلة ، وطول نظرها عند اتخاذ القرارات الهامة والخطيرة ، والتي قد تؤثر في مصير الشعب واستقرار الوطن وقد تبين ذلك من خلال مايلي :-
<!--عدم تعجلها في إعلان قرار الحرب, حتى تتحقق من أمر سليمان هل هو ملك نبي صاحب رسالة يدعو إليها، ويقاتل دونها ولا يقدم عليها مالاً أو مصلحة دنيوية؟ , أم أنه طالب مال وصاحب دنيا فيقنع بأخذ الهدية؟ قال القرطبي في قوله تعالى { وإني مرسلة إليهم بهدية } (هذا من حسن نظرها وتدبيرها أي إني أجرب هذا الرجل بهدية وأعطيه فيها نفائس من الأموال وأغرب عليه بأموال المملكة : فإن كان ملكا دنيويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه)(10).
<!-- كما أنه قد يكون الغرض من إرسال الهدية التجسس ، واطلاع الرسل على مملكة سليمان ، وهل هي مملكة تتجلى فيها معالم القوة؟ في عظمة عمرانها, وتعدد صناعاتها, وثراء سكانها، وهيبة سلطانها، فإن القوة في الداخل دلالة القوة في الخارج.
ج- بعد عودة الرسل لم تكتف بخبرهم في القيام بإعلان قرارها (الحرب أم الإسلام) بل سارت بنفسها في زيارة إلى سليمان لتكون الأمور أكثر وضوحاً, فيكون قرارها عند ذلك أقرب إلى الصواب, ومحققا لمصلحة قومها.
7. <!--[endif]-->التزامها مبدأ الشورى كقاعدة عامة في إدارة شؤون المملكة ونزولها عند رأي كبار القوم ووجهائهم في جميع شؤون الحكم، فقد قالت (ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون) قال أبو السعود (إلا بمحضركم وبموجب آرائكم )(11).
<!--تشجيعها أهل مشورتها على تقديم أرائهم ، والتصدي لحل المشكلات المعروضة عليهم ، فقد ذكرتهم بصفتهم (يا أيها الملأ) وعبارة الملأ إنما تذكر (في الحوادث المشكلة غالبا تهويلا للأمر ورفعا لمحلهم – أي الملأ- بالإشعار بأنهم قادرون على حل المشكلات الملمة) (12) كما ذكر ذلك أبو السعود، ودلالة ذلك أن أخذها بمبدأ الشورى كان حقيقيا وليس مظهرا شكليا لإضفاء الشرعية على قراراتها.
<!--القوة الحضارية الاقتصادية والصناعية التي وصلت إليها اليمن في ظل حكم الملكة بلقيس، وكانت معالم هذه الحضارة واضحة جلية عبر عنها الهدهد فقال (وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) قال سيد قطب ({وأوتيت من كل شيء} كناية عن عظمة ملكها وثرائها وتوافر أسباب الحضارة والقوة والمتاع {ولها عرش عظيم} أي سرير ملك ضخم يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة)(13)
<!--عدم جزمها في الأمور المحتملة وهذا من الحكمة , فعندما سألها سليمان عن عرشها بعد أن أمر بتغيير معالمه لم تجزم بأنه عرشها , بل قالت (كأنه هو) قال القرطبي (شبهته به لأنها خلفته تحت الإغلاق فلم تقر بذلك ولم تنكر فعلم سليمان كمال عقلها قال عكرمة: كانت حكيمة) (14) ومن المعروف أن أغلب القضايا السياسية هي أقرب إلى الاحتمالات منها إلى القطع والجزم ولا يجزم في موضع ظني إلا من كان قليل العلم كليل الحكمة.
<!--اعترافها بخطئها رغم عظمة مكانتها ، واتباعها للحق عندما قامت دلائله وبراهينه ، واقرأ معي قوله تعالى(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) مع العلم أن الذي حمل بلقيس على عبادة الشمس هو نشأتها في بيئة ومجتمع يعبد أبناؤه الشمس , فضلال قومها ووثنيتهم لا ينسب إليها, بل على العكس من ذلك قال تعالى (وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ ) قال صاحب تفسير الوجيز( فنشأت فيهم ولم تعرف إلا قوما يعبدون الشمس) (15)
<!--اتباعها لسليمان لم يكن خوفاً بل عن اقتناع وإيمان بصحة نبوة سليمان, فهي لم تعلن إسلامها إلا بعد ظهور الدلائل الواضحة واليقينية بصدق نبوة سليمان، قال القرطبي في قوله تعالى (وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين) (هو من قول بلقيس أي أوتينا العلم بصحة نبوة سليمان من قبل هذه الآية في العرش { وكنا مسلمين } منقادين لأمره )(16)
ولك الآن أن تقارن بين سياسة بلقيس التي قالت (ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون)، وسياسة فرعون الذي قال (ما أريكم إلا ما أرى )، وبين إنصاف بلقيس لعدوها وذكرها لمحاسنه ( إني ألقي إلي كتاب كريم )، وإجحاف فرعون واحتقاره لعدوه (إن هؤلاء لشرذمة قليلون..)، وبين استخدام بلقيس لمنطق العقل ( وإني مرسلة إليهم بهدية..)، واستخدام فرعون لمنطق القوة (فأتبعهم فرعون بجنوده..) ، وبين النهاية التي وصل إليها أهل اليمن ثمرة للسياسة الرشيدة التي انتهجتها بلقيس (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، والنهاية التي وصل إليها أهل مصر ثمرة للسياسة الرعناء التي انتهجها فرعون (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) وأشد من ذلك (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) .
فهل لنا بعد ذلك أن نعيد النظر في حديث (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)(17) بما لا يصادم الحقائق القرآنية الناصعة البيان ؟ فإما أن نقدم استدلالنا بالقرآن على استدلالنا بالحديث لأنه المصدر الأول للتشريع ونؤول دلالة الحديث بما يتفق مع دلالة القرآن ، أو نقول كما قال عمر بن الخطاب في حديث فاطمة بنت قيس الذي ذكرت فيه أن المطلقة البائن ليس لها النفقة ولا السكنى فقال عمر( لاندع كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت)(18) فعمر رأى أنه لايمكن لرواية آحاد أن تخصص عموم القرآن الثابت بيقين وهي قوله تعالى (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ) (19)، وإذا كان مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه قادحة في صحة الحديث فكيف إذا خالف الثقة كتاب الله؟ ولا يحتج علينا أحد بأن قصة بلقيس من شرع من قبلنا وشرع من قبلنا ليس شرعاً لنا وشرعنا ناسخ للشرائع السابقة, لأن هذه الحجة ليس محلها الأخبار وإنما محلها الأحكام أما الأخبار فلا يدخلها النسخ والقصة هنا إخبار عن فلاح أهل اليمن في ولاية بلقيس وهو الخبر الذي يتعارض مع علة الحديث في مفسدة تولية المرأة، والنسخ إنما محله الأوامر والنواهي وليس الأخبار.
1) أحكام القرآن ج 13 ص175
<!--فتح القدير ج4 ص 196
<!--[if !supportLists]-->3) المرجع السابق ج4 ص 196
<!--[if !supportLists]-->4) المرجع السابق ج4 ص 196.
<!--[if !supportLists]-->5) المرجع السابق ج4 ص 196
<!--[if !supportLists]-->6) أحكام القرآن ج 13 ص 176
<!--[if !supportLists]-->7) المرجع السابق ج 13 ص 176
<!--[if !supportLists]-->8)ابن كثيرج3 ص482
<!--[if !supportLists]-->9) معالم التنزيل ج1 ص160.
<!--أحكام القرآن ج 13ص 176
<!--إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ج6 ص 284 .
<!--المرجع السابق ج6 ص 284.
<!--الظلال ج5ص2638.
<!--أحكام القرآن ج 13 ص186
<!--الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج1 ص805.
<!--أحكام القرآن ج 13 ص186
<!--البخاري ج4 ص1610 رقم4163
<!--مسلم ج2 ص1114رقم 1480.
<!--الطلاق:1
<!--EndFragment-->
ساحة النقاش