كان المدهش في قصة مدللة جحا (50 عاماً) حين نشرتها "الأيام" في وقت سابق، قدرتها على خياطة جرح ابنها إبراهيم (15 عاماً)، الذي أصيب برصاصة مباشرة في قلبه خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، لمجرد أن خطرت على بالها فكرة أن تمسك إبرة وخيطاً، في محاولة لإنقاذه ريثما تصل سيارة للإسعاف، وبالفعل حافظت على حياته 11 ساعة، لكن الإسعاف لم يأت فمات بجانبها، وقالت عقب ذلك لـ "لأيام": لو استطعت لقطعت من جلدي وغطيت جروحه!
والمدهش أيضاً، كيف أخفت موته عن والده وأشقائه حتى اليوم الثاني، تحسبا من صدمتهم، فاحتملت حزنها أثناء احتمائهم من القصف في كراج للسيارات بحي الزيتون، بعد أن أمرهم الاحتلال وغيرهم بمغادرة منازلهم، وهناك تم احتجازهم لمدة خمسة أيام مع ما يزيد على ثمانين طفلاً وامرأة ورجلاً.
لكن الدهشات تتوالى في قصة مدللة، ففي كل مرة تتحدث فيها عن ابنها تقول شيئا جديدا، إذ أخبرتنا مؤخرا كيف أن الجو البارد حافظ على جثته ولم تتحلل أو تخرج رائحتها، بينما ظلت إلى جانبه أربعة أيام، تراقبه بكل هدوء.
وتضيف إنها تعاني الأمرين من اشتياقها له من جهة، ومن جهة أخرى من وضعهم الاقتصادي الصعب، خاصة أن كل أثاثهم دمره الاحتلال بعد أن ألقاه من النوافذ، كما سكب "تنكات" زيت الزيتون، الذي لا تزال رائحته تزكم الأنوف في الطابق الارضي من المنزل.
وتتذكر مدللة ابنها ابراهيم وحزنه على زميله الشهيد الذي رآه ممدداً في الشارع أثناء خروجهم من منزلهم إلى منزل جيرانهم، وكذلك حين احتل الاحتلال منزل الجيران فخرجوا إلى الكراج، مشيرةً إلى أنهم ساروا في الطريق وهم يرفعون الأعلام البيضاء، حيث رأى ابنها جثة صاحبه، فصرخ: "هذا ابن صفي"، وما هي إلا ثوان معدودة حتى عاجلته رصاصة متفجرة أصابت قلبه، محدثة عددا من الفتحات ونزيفا شديدا.
يبدو منزل مدللة فارغاً إلا من بضع فرشات، فكل أثاث المنزل مكوم في الساحة الخلفية له، من ثلاجات وأجهزة تلفزيونية وأجهزة كمبيوتر، فيما لا تزال عبارات بالعبرية على جدران الغرف التي قضى فيها الاحتلال أيامه، إحداها تقول: "دخلنا يوم 11-1 واليوم في 17 نخرج"، وعبارات أخرى من التلمود اليهودي يصاحبها رسم لنجمة داود.
لم يترك الاحتلال جداراً في العمارة المكونة من أربع شقق إلا وأحدث فيه فتحة كبيرة، أو أصابته الرصاصات، فالقناصة وضعوا الفرشات قريبة من فتحات منخفضة أحدثوها في الجدران لمراقبة الشارع واختيار ضحايا لإعدامهم.
المنزل يبدو رغم مرور وقت على انتهاء الحرب وكأنه بالفعل لا يزال ثكنة عسكرية، فشح الموارد المالية للعائلة وكثرة عدد أفرادها (18 فرداً) يجعل ترميم المنزل بطيئا وعسيراً.
مدللة جحا تؤكد وهي تنظر من فتحات منزلها الكثيرة إلى الأراضي الزراعية الممتدة أمامه، أنها لم تأخذ في حياتها دورة للإسعاف الأولي، ولكنها فداء لأبنائها تتحول إلى أية مهنة، مردفة بأسى: لا يوجد أصعب من فقدان الضنا.