جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
تطوي مصر صفحة سريعة في تاريخها بخروج رئيس ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين من الحكم، بعد ثورة شعبية شارك فيها ملايين المصريين، ولكن تلك الملايين الهادرة في كل شوارع مصر لم تشفع في دوائر صنع القرار الأمريكي التي أصيبت بلطمة جديدة في أقل من ثلاثة أعوام.
كانت اللطمة الأولي باختفاء الحليف القديم الرئيس الأسبق حسني مبارك، بعد ثورة ٢٥ يناير، التي حددها الشباب المصري باليوم والساعة، ثم جاءت اللطمة الثانية المفاجئة برحيل محمد مرسي، الحليف الجديد بعد ٣٦٥ يوما في الحكم، وهو الذي عولت عليه واشنطن كثيرا في عام كامل أن يصبح «شريكا» لها في ترتيبات إقليمية جديدة تحقق مصالحها وتضمن أمن إسرائيل.
كانت كل تقديرات المسئولين الأمريكيين - ممن تحدثت معهم في واشنطن علي مدي التسعة أشهر الأولي من حكم مرسي- تشير إلي أن المؤسسات المضطلعة علي الشأن المصري بنت رؤيتها علي سياسة جديدة بعد وصول الإخوان إلي الحكم - برلمانا ورئيسا- مفادها أن التنظيم الديني- السياسي سوف يستمر في سدة الحكم بمصر لمدة لن تقل عن عشر سنوات علي الأقل وأن خروجهم من السلطة لن يكون هينا وربما سيكون مستحيلاً!
فرضت تلك الرؤية علي صانع القرار الأمريكي سواء في البيت الأبيض أم وزارة الدفاع «البنتاجون» أم أجهزة الاستخبارات العديدة سيناريوهات محددة، ولكنها اتفقت في الاحتفاء الشديد بقدوم شريك من الإسلام السياسي إلي الحكم في أكبر بلد عربي، وصاحب التأثير الطاغي علي الفكر الديني في سائر أنحاء الشرق الأوسط.. تلقفت الدوائر الأمريكية خيط صعود جماعة الإخوان في المشهد السياسي المصري سريعا .. فبدأت الرحلات المكوكية لشخصيات بارزة في أجهزة الاستخبارات ومجلس الأمن القومي والكونجرس .. المفارقة أن الشخصيات التي فتحت الحوار مثل السيناتور جون كيري، هي نفسها التي شهدت النهاية الدرامية للجماعة ومحمد مرسي، حيث تولي كيري مسئولية حقيبة وزارة الخارجية قبل شهور قليلة حاول خلالها أن يصلح بعضا مما أفسدته السفيرة الأمريكية آن باترسون في القاهرة إلا أنه كان قد جاء متأخرا فيما يبدو لنجدة الشريك الجديد.. كان جون كيري، هو آخر مسئول أمريكي رفيع المستوي يقابل محمد مرسي، بشكل علني في قمة الاتحاد الإفريقي بأديس أبابا الشهر الماضي، ووجه إليه كلمات قاسية عن ضرورة التحرك لرأب الصدع بين الجماعة والمعارضة، والوصول إلي شراكة حقيقية تتفق مع ما ساندت واشنطن بموجبه وصول رئيس من كبري جماعات الإسلام السياسي إلي الحكم.
وفقا لمعلومات ومصادر متعددة في واشنطن، من واقع خبرة التعامل ثلاث سنوات مع الشأن الأمريكي لكاتب هذه السطور في العاصمة الأمريكية، كانت الولايات المتحدة تري أن الإخوان المسلمين يمكنهم الحكم في إطار معادلة تحترم وجود «معارضة فاعلة» بعد انتخابات برلمانية جديدة إثر مجلس الشعب السابق واحترام لحقوق الإنسان والأقليات في المجتمع المصري، وبالتالي تكتمل صورة شرعية سلطة الجماعة وقدرة الإدارة الأمريكية علي التسويق لها في الأوساط السياسية وتحسين صورتها في الدوائر التي تشعر بقلق من جماعة الإخوان وأهمها الكونجرس الأمريكي، حيث يشعر الجمهوريون بتوجس شديد ويربطون ما بين الجماعة والتنظيمات الإرهابية الدولية وعلي رأسها شبكة القاعدة التي تنشط ضد الولايات المتحدة ووجودها العسكري في أفغانستان وباكستان ومناطق أخري من الشرق الأوسط.
ومن ثم بدأت الجماعة بعد انتخابات البرلمان مباشرة في عام ٢٠١١، في حملة تلميع الصورة بزيارة إلي واشنطن حيث فتحت لهم الأبواب في الكونجرس والبيت الأبيض والخارجية ومراكز الأبحاث تحت لافتة حزب الحرية والعدالة المعبر عن الإخوان وهي الزيارة التي بالغت وسائل الإعلام الأمريكية، وفي مقدمتها الصحف الكبري، في الإشادة والاحتفاء بها بتوجيهات وتوصيات من البيت الأبيض، وشخصيات فاعلة في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ممن تبنوا خطة تلميع وجه الجماعة المتشددة وتقديمها علي أنها الوجه الجديد للإسلام السياسي، فيما تباري كتاب كبار في مراكز الأبحاث مثل مارك لينش )جامعة جورج واشنطن (وشادي حميد) معهد بروكينجز في الدوحة (وسامر شحاتة وجون إسبوزيتو) جامعة جورج تاون (في نشر الدراسات والمقالات عن مستقبل الإسلام السياسي بعد وصول الإخوان إلي الحكم في مصر ثم تقدم تيارات الإسلام السياسي في تونس وليبيا والمغرب ودول أخري.
وتولت شخصية معروفة في واشنطن وقامت بزيارة عديدة إلي مصر وهي جين هارمن، رئيس اللجنة الدائمة حول الاستخبارات في مجلس النواب «سابقاً» والرئيس الحالي لمركز وودرو ويلسون للباحثين الدوليين في واشنطن ترتيب بعض اللقاءات المغلقة لوفود الإخوان مع أطراف عديدة من بينهم مسئولون إسرائيليون حيث أحيطت تلك اللقاءات بسرية مطلقة لضمان عدم إحراج الجماعة أمام الرأي العام المصري، خصوصاً أن الجماعة لم تقم بتغيير خطابها تجاه إسرائيل في العلن بعد وصول مرسي إلي الرئاسة خشية فقدان شعبيتها في الشارع المصري!
وقد حضرت شخصيات بارزة في الجماعة ترددت علي واشنطن لقاءات عديدة في المركز فيما كثفت «هارمن» من حضورها إلي القاهرة وزارت مصر أربع مرات في ثمانية أشهر فقط، وأطلقت في الزيارة الأخيرة تصريحات مثيرة للجدل حول الأمن في سيناء واستعداد الولايات المتحدة لمساندة مصر في الحرب علي الجماعات الإرهابية هناك، وهو ما قوبل باستغراب واستهجان في دوائر عديدة ومنها المؤسسة العسكرية المصرية التي كانت تراقب الانتهاكات الخطيرة للأمن القومي المصري ودور جماعة الإخوان في الانتهاك المرعب لثوابت عديدة تتعلق بحماية الوطن ووحدة أراضيه!
وحسب مصدر مطلع «كانت الصفقة أن تساند واشنطن الطموح الإقليمي لتنظيم الإخوان.. في مقابل ضمان الإخوان لمصالح الأمن القومي الأمريكي وفي مقدمتها أمن إسرائيل».. وفي مرحلة لاحقة، طورت جماعة الإخوان من تقربها من الولايات المتحدة بتقديم تصور عن دورها في محاربة الإرهاب الدولي بالوكالة عن واشنطن علي قاعدة أن تنظيم الإخوان هو الجماعة الأم والأكثر تأثيرا في العالمين العربي والإسلامي، ويمكنه مواجهة التيارات الجهادية المتطرفة علي أرضية الفكر الديني وليس المواجهة العسكرية أو القمع وهو ما راق لواشنطن وقررت أن تدعم توجهات الجماعة مهما كلفها فشلهم الداخلي في مصر من انتقادات.
ويفسر ما سبق حالة الارتباك الشديد في الإدارة الأمريكية من السقوط المدوي لمحمد مرسي والجماعة، فالرئيس الأمريكي باراك أوباما وفريقه الرئاسي توصل إلي قناعة أن الشراكة الجديدة مع الجماعة هو الطريق لتحقيق أهداف كثيرة أهمها احتواء التيارات الجهادية وبناء علاقة طويلة الأمد مع تيار سيسود الساحة السياسية لعقود مقبلة، هكذا تخيلوا، وأن تلعب الجماعة السنية الأكبر الدور الأهم في احتواء المد الشيعي في العالم العربي - المقصود به دعم الخطة الأمريكية-الإسرائيلية الخاصة بإنهاء البرنامج النووي الإيراني بكل السبل الممكنة.
وتلك الشراكة كان مقدرا لها أن تمضي إلي الأمام بناء علي مساندة أمريكية للبرنامج الاقتصادي لحكومة مرسي، ودعم حصوله علي تمويل ودعم مالي دولي كبير يتيح له تحقيق انطلاقة اقتصادية تليق بوعوده المفرطة في حملة انتخابات الرئاسة.. وقد وصفت مسئولة سابقة في الخارجية الأمريكية اللقاء الأول بين هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، والرئيس المعزول شعبيا محمد مرسي، في القاهرة بعد أسابيع من انتخابه، فقالت في تصريح خاص «كان اللقاء محبطاً، فالرجل لا يبدو قادرا علي فهم القضايا الاقتصادية أو التحدث بشأنها، ويتكلم في عموميات ومطالبه غير محددة».
لكن حالة الإحباط من اللقاء الأول مع مرسي لم تمنع من مواصلة العلاقة مع الرجل اعتقادا أن هناك حوله رجال الجماعة «الأكفاء» القادرون علي تجاوز عدم خبرة رئيس جاء بالمصادفة إلي الحكم.
وقد كان عصام الحداد، مستشار رئيس الجمهورية هو دينامو ملف العلاقات الثنائية ومنع وزارة الخارجية عن لعب دور حقيقي في صناعة السياسة الخارجية المصرية بفعل الاستئثار بالتعامل مع القضايا الأساسية نتيجة عدم الثقة الإخوانية في مؤسسة الدبلوماسية التقليدية، ومثل كل مؤسسات الدولة بدأت الجماعة في استقطاب عناصر موالية لها مثلما حدث في تعيين مقرب من الجماعة علي رأس البعثة الدبلوماسية في نيويورك قبل زيارة محمد مرسي الوحيدة للأراضي الأمريكية، بعد توليه منصبه، لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وقد تحرك الحداد بكتيبة من رجال الجماعة من بينهم أيمن علي) إخواني من التنظيم العالمي كان مقيما في النمسا (ووائل هدارة) إخواني -كندي (بالإضافة إلي رجال خيرت الشاطر مثل عائلة القزاز، وأكثر من عنصر من عائلة الحداد. بالإضافة إلي ما سبق، كان خيرت الشاطر قد بدأ بالفعل في التواصل مع شركات علاقات عامة كبري في الولايات المتحدة لتولي الدفاع عن الرئاسة والجماعة في الكونجرس ودوائر السياسة الأمريكية، إلي جانب لوبي المنظمات الإسلامية وعلي رأسه الجمعية الأمريكية- الإسلامية «ماس» وهي غطاء واضح للجماعة في أمريكا تأسست قبل ٢٠ عاماً من أجل النفاد إلي الرأي العام وبناء شبكات من العلاقات المفيدة للتنظيم الدولي، وهي من المؤسسات التي ينظر إليها الكثير من أعضاء الكونجرس من الجمهوريين والتيار اليميني بريبة بسبب خطابهم المروج لفكر الجماعة.
من أهم خطايا الإدارة الأمريكية في العام اليتيم لمرسي في الحكم هو الاعتماد علي قدرات «غير عادية.. غير موجودة» للتنظيم والمبالغة في حجم اتصالاتهم، وهو ما بدا واضحا من ضعف قدرات الجماعة في الأزمة السورية التي حاول التنظيم الدولي أن يضعها «فرس الرهان» في العلاقة مع الولايات المتحدة إلي جانب «ورقة غزة» من خلال صعود تيار الإخوان المسلمين السوري في قيادة المعارضة والمقاومة إلا أن الإخوان السوريين فشلوا في وضع أنفسهم في مقدمة المقاومة، وتمكنت المعارضة المدنية والعلمانية من إحكام قبضتها بدعم من دول الخليج الرافضة لتقوية معسكر الإخوان.
ولم تفلح جماعة الإخوان في التأثير في العلاقات العسكرية والمكانة الإستراتيجية للمؤسسة العسكرية المصرية في العلاقات بين واشنطن والقاهرة والتي أدارت العلاقات بعيدا عن إدارة محمد مرسي، بكل ما تحمله من شكوك ومؤامرات وشخصيات مشكوك في خلفياتها وتورطها في عمليات مشبوهة تضر بالأمن القومي، في السابق والحاضر، وبعضهم خرج من السجون ليشغل مناصب رفيعة في السلطة! لم يكن العام اليتيم لمرسي سوي تجسيد لحالة الفشل الأمريكي «المزمنة» في فهم ما يدور في مصر من تطورات علي الأرض علي مدي الثلاث سنوات الماضية، والتي بدأت بفشل الدبلوماسية الأمريكية في توقع ثورة ٢٥ يناير ثم التعامل المرتبك مع تأزم وضع حسني مبارك، ثم محاولة إثبات حسن النوايا بعد نجاح الثورة الشعبية في الإطاحة به، وهو المسار نفسه للثورة الجديدة في ٣٠ يونيو، والتي بدأت بإنكار سفيرة واشنطن لقدرة الجماهير علي الحشد والإطاحة بمرسي ودعتهم إلي اللجوء إلي الصناديق مجددا، وهو ما نسفه خروج عشرات الملايين بإصرار كبير علي مدي أيام لإسقاط حكم الإخوان، وهو بدوره أسقط أيضا النظرة السطحية التي تقول إن «الإخوان جاءوا إلي الحكم من أجل أن يبقوا إلي أمد غير معلوم». يخسر أوباما ويخسر مستشاروه لأنهم انحرفوا عن الانحياز لاختيارات الشعوب التي رأت في حكم فاشل دمارا لوطنهم، فيما رأت واشنطن في مرسي والجماعة «كنزا إستراتيجيا» هائلا حمل لهم مفاجآت وإحباطات لا نهاية لها في شهور قليلة!
صحفى محمود ابو مسلم
الموقع
أخبار رياضية – ثقافية- فنية- اجتماعية –حوادث وتحقيقات-
زورنا على مواقعنا الإخبارية والإعلامية
01280688635
01023399536