سادساً: الحضارة الغربية، ويختلف النظر إلى موعد بدئها، فقد ادعى صمويل هنتنجتون مثلا فى كتابه صدام الحضارات وصياغة نظام عالمى جديد أنها ترجع إلى القرنين السابع والثامن الميلادى، ولكن فى هذا التاريخ مبالغة كبيرة. فبالنظر إلى هذا التاريخ كان العالم الغربى مازال يعيش فى ظلمات العصور المسيحية الوسطى، والدليل على ذلك ان أول بوادر النهضة وتباشير البعث فى الحضارة الغربية كانت على يد الراهب توما الاكوينى بعد التاريخ الذى يذكره هنتنجتون بقرون، حيث استفاد الاكوينى بشكل مكثف من اسهامات ومدخلات فلاسفة مسلمين مثل ابن رشد والفارابى وابن سينا. كذلك فإن دليلنا الثانى هو ان مقدم الصليبيين إلى المشرق العربى فى حملاتهم الأولى جاء فى القرن العاشر الميلادى، فى وقت كان الغرب فيه يحاول جاهدا - وبنجاح محدود- الإمساك بأسباب التقدم فى التنظيم والتدريب والتسليح العسكرى وكانت النهضة بعيدة المنال وأبعد منها الإصلاح الدينى والتحول العلمانى اللاحقين حيث كان رجال الكنيسة يلعبون فى ذلك الوقت دوراً مهماً فى مجال التوجيه والتحريض وسبغ الشرعية على الحكام.
والثابت تاريخياً كذلك أن الحضارة الغربية قد استعارت - وبكثافة- من الحضارة الإسلامية سواء عبر الاندلس بعد سبعة قرون من الوجود الإسلامى هناك، أو بما حملته الحملات الصليبية العائدة من المشرق العربى من انجازات الحضارة الإسلامية. ويصدق هذا على الانجازات المادية والعلمية بنفس القدر الذى يصدق به على الاجتهادات الفكرية والأدبية والفلسفية والفنية وغيرها.
ويوجد اتفاق على أن الحضارة الغربية تشمل ثلاثة مكونات هى أوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وإن كان عدد من الباحثين والمؤرخين والأكاديميين يفرقون - كما ذكرنا آنفاً- بين الحضارة الغربية فى أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا ونيوزيلاندا من جهة وبين الحضارة فى أمريكا الجنوبية من جهة أخرى لأسباب سنتناولها لاحقاً عند التعرض للحضارة الموجودة فى أمريكا الجنوبية.
ومن المهم أن نذكر أن العلاقة فيما بين المكونين الرئيسيين للحضارة الغربية - وأعنى هنا أوروبا وأمريكا الشمالية- قد مرت بأكثر من طور وتغيرت من مرحلة إلى أخرى إلى حد أن بعض المفكرين يقولون بأنه لعقود طويلة عرف الأمريكيون مجتمعهم ونموذجهم الثقافى والحضارى عبر وضعه فى موقع النقيض للمجتمع والنموذج الأوروبى، حيث صوروا أمريكا بأنها تمثل قيم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص: أى باختصار تمثل أرض المستقبل ونموذجه. وبالمقابل، صور هؤلاء أوروبا بأنها تمثل أرض التسلسل الهرمى الجامد، والجمود الاجتماعى، والتفاوت - بل والصراع- الطبقى، والقمع، بل والتخلف. ومن هنا ذهب البعض إلى القول بأن أمريكا الشمالية تمثل حضارة مختلفة ومتميزة عن أوروبا. وقد فسر البعض هذه العلاقة العدائية بين أمريكا الشمالية وأوروبا فى جزء منها بأنها كانت نتيجة لحقيقة أنه حتى نهايات القرن التاسع عشر كان لأمريكا الشمالية اتصالات محدودة مع حضارات أخرى غير الحضارة الغربية. إلا أنه بالدخول المتزايد للولايات المتحدة الأمريكية فى المشهد السياسى العالمى للعلاقات الدولية، وهو ما تبلور بقوة فى الحرب العالمية الأولى، زاد بشكل تدريجى الإحساس بالانتماء إلى هوية عريضة مشتركة بين أمريكا الشمالية وأوروبا. وبالتالى، تحول الأمر سريعاً من تعريف الولايات المتحدة نفسها على أساس الاختلاف والتناقض مع أوروبا فى القرن التاسع عشر، إلى تعريفها لذاتها باعتبارها جزءاً - بل قائداً- لكيان أكبر، هو الغرب الذى يشمل الولايات المتحدة الأمريكية مع أوروبا. ويمكن القول بأنه من الناحية التاريخية فإن الحضارة الغربية هى حضارة أوروبية، أما من الناحية الحديثة والمعاصرة فهى حضارة أوروبية/أمريكية شمالية، أو حضارة شمال أطلسية.
وتُعد الحضارة الغربية من الحضارات التى تعرف على أساس اتجاه جغرافى، دون إنكار بُعدها الدينى المسيحى طبقاً لبعض التقديرات والوريث للإرث اليهودى/المسيحى طبقاً لتقديرات أخرى. إلا أنها فى كل الأحوال لا تعرف طبقاً لعرق بعينه أو جماعة قومية أو عرقية. وللحضارة الغربية مكوناتها المتعلقة بتراكم التجربة التاريخية وتطويرها وتأثير ذلك على الوضعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات الغربية. ويتصل بتعبير الحضارة الغربية تعبير آخر له مغزاه وهو تعبير التغريب، وهذا التعبير الأخير مثار جدل واسع، خاصة فى المرحلة الحالية وفى ضوء ظاهرة العولمة وتداعياتها على كافة المستويات وفى كل الأصعدة، حيث توالى توجيه أبناء الحضارات الأخرى -خاصة ما يسمى بالحضارات القديمة مثل الإسلامية والصينية والهندية واليابانية- الاتهامات إلى الحضارة الغربية بأنها تقود حملة تغريب ثقافية تستهدف الغزو الثقافى لبقية أنحاء العالم وصبغ العالم بأسره للصبغة الحضارية الغربية وتوحيد نظمه القيمية ومعاييره الأخلاقية ومرجعيته العقائدية بما يشكل نسخة - قد تكون ممسوخة- من النموذج الغربى.
المصدر: د. وليد عبد الناصر - موسوعة الشباب السياسية
http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN16.HTM
نشرت فى 13 أكتوبر 2011
بواسطة mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
284,097
ساحة النقاش