وة اليابان العسكرية مكنتها من إحراز انتصارات على المدى القصير، ولكن فى السنين القليلة التى تلت ذلك استطاعت الولايات المتحدة ـ بسبب قوة اقتصادها ـ أن تبنى قوة عسكرية تعادل، ثم تجاوز، قدرة اليابان فى الباسيفيك .
الاقتصاد إذاً يمكن إن يعطينا مؤشرا عن قدرات الدولة، وعن نتائج الصراعات التى تخوضها . ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فالدول لا تستطيع دائما أن تقدر إمكانيات خصومها بشكل كامل، وهناك دائما إمكانية للخطأ فى الحساب، بل وللمغامرة أيضا!.
وعلى سبيل المثال فإن العراق صمم على دخول الحرب فى مواجهة الولايات المتحدة التى كانت تقود تحالفا دوليا لتحرير الكويت فى عام 1991، بالرغم من أن الدخل القومى الأمريكى يبلغ مائة ضعف الدخل القومى العراقي، فى حين يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة نحو عشرة أضعاف عدد سكان العراق .
ما الذى جعل العراق يدخل الحرب رغم علمه بمثل هذه الحقائق؟ .. لاشك فى انه ارتكب خطأً معينا فى الحساب . وبعض المعلقين يشيرون مثلا إلى انه فهم من كلام السفيرة الأمريكية فى العراق قبيل الغزو أن الولايات المتحدة لن تتحرك إذا ما اقدم على مهاجمة الكويت وضمها.
وثبت فيما بعد أن حسابات صدام حسين لم تكن صائبة، وأن تقديره للموقف الأمريكى لم يكن فى محله . وهذا يدلنا على أن القيادة السياسية الحصيفة هى أحد مصادر القوة، فالقادة والدبلوماسيون يستطيعون تجنيب بلادهم خسائر فادحة إذا تمتعوا بالحس السليم لتقدير الموقف .
ويمكن أن نطرح مثالا آخر فى هذا المجال: فقبل أيام من حرب 1967 أرسل جمال عبد الناصر وفدا إلى الاتحاد السوفيتى كان على رأسه شمس بدران وزير الحربية . وكان الغرض من إرسال هذا الوفد التعرف على حقيقة الموقف السوفيتى فى حالة اندلاع حرب مع إسرائيل (التى تتمتع بالدعم الأمريكي) . وعندما عاد شمس بدران من رحلته صرح فى اجتماع لمجلس الوزراء بأن الاتحاد السوفيتى معنا، وأنهم مستعدون لضرب الأسطول السادس الأمريكي . وطبقا لتعبير شمس بدران سيشفونه عظم ولحم أى سيمزقونه . ولكن السفير احمد حسين الفقى (وكان عضوا فى الوفد المصري) كذَّب ـ بعد أن وقعت الكارثة ـ هذا القول، وقال أن الاتحاد السوفيتى لم يعد بشيء من هذا القبيل . وأن شمس بدران كان مشغولا بشراء أساس ولوازم لمنزله ! وأثبتت الأحداث التى تلت 5 يونيو 1967 أن شمس بدران لم يكن محقا فى تقديره للموقف السوفيتي .
والغرض من هذه الحكاية هو أن نعرف أن الدبلوماسيين ورجال الدولة يمكن اعتبارهم رصيدا اضافيا يضاف إلى مصادر قوة بلادهم، او على العكس يصبحون خصما من رصيد هذه القوة إذا لم يتمتعوا بالمهارة والكفاءة اللازمة لتقدير المواقف الدولية المختلفة، وتحديد مصلحة بلادهم الوطنية والدفاع عنها .
ثالثا: الجغرافية السياسية:
الجغرافية السياسية أو (الجيوبوليتيكس) هى إحدى العناصر الأساسية فى طريقة التفكير الواقعية فى السياسة الدولية . فالدول عندما تقوم بحساب قوتها وقوة خصومها تأخذ فى اعتبارها عامل الموقع على أساس انه عنصر مهم من عناصر القوة يتعلق بالأمن العسكرى بشكل مباشر . ولهذا السبب فإن رجال الدولة يستعينون بالخرائط عندما يفكرون فى مسائل الصراع الدولي .
وفى الجغرافية السياسية هناك ثلاثة اعتبارات بالغة الأهمية: الموقع والموقع والموقع! فالدول تزيد من قدرتها بقدر اعتمادها على الجغرافية السياسية لدعم قوتها العسكرية عن طريق اجراءات معينة مثل: تأمين حلفاء وقواعد قريبة من قوة مناوئة، او قطع طرق التجارة الاستراتيجية على الخصم . . الخ .
وعلى سبيل المثال، فإن موقع مصر المتميز الذى يقع فى قلب طرق المواصلات العالمية فرض عليها أن تقع فريسة للغزاة فى فترات طويلة من التاريخ. فنابليون قام بغزو مصر فى 1798 لكى يقطع طريق بريطانيا إلى الهند، فى حين أدركت بريطانيا أهمية الاحتفاظ بمصر، لا لأهميتها فى حد ذاتها، ولكن لأنها من الناحية الجيوبوليتيكية لاغنى عنها للدفاع عن الامبراطورية البريطانية فى الشرق .
ورجال الدولة المصريون عرفوا منذ القدم حساسية الموقع الجغرافى لمصر، فقام الفراعنة على سبيل المثال بغزو الشام، لأنهم عرفوا أن اغلب الغزوات تاتى من الشرق، وأن من الأهمية بمكان تأمين هذه المنطقة التى تعتبر خط الدفاع الأول عن مصر . وليس صدفة أن الكثير من حكام مصر فى العصور الحديثة فكروا بنفس الطريقة ومنهم محمد على باشا .
ويشير بعض المحللين المصريين، إلى إن دخول مصر فى الصراع العربى الاسرائيلى يرجع اساسا إلى اسباب جيوبوليتيكية تتعلق بالأمن القومى المصري، إضافة إلى الأسباب القومية. فوجود دولة معادية مثل اسرائيل على الحدود الشرقية لمصر يجعل أمنها مهددا .
والذين ينظرون إلى السياسة الدولية نظرة واقعية يقولون بأن هناك احتمالات لتكرار السياسات الخارجية من جانب بعض الدول على اساس أن الموقع لا يتغير. وبالتالى يمكننا توقع ما ستفعله دولة معينة اعتمادا على موقعها الجغرافي .
وعلى سبيل المثال، فمن العقد التقليدية فى الجغرافية السياسية أن تكون الدولة محاصرة بأرض من كل اتجاه. فى هذه الحالة تشعر الدولة بأنها تريد الحصول على مجال اوسع للحركة، وتسعى بكل الوسائل للوصول إلى المياه . وألمانيا واجهت هذه المشكلة قبيل الحرب العالمية الأولى فقد شعرت بأنها محاصرة من جميع الجهات، وأخذت تثير جلبة حول الحصول على متنفس . وفى القرن التاسع عشر حذر رئيس الوزراء البريطانى لورد بالمرستون من أن روسيا لديها نزعة جارفة تدفعها إلى الوصول إلى المياه الدافئة (المحيط الهندي) . وفى عام 1979 عندما قام الاتحاد السوفيتى بغزو افغانستان اعتبر بعض الساسة الأمريكيون أن الاتحاد السوفيتى يسعى إلى نفس الغرض الذى تحدث عنه بالمرستون منذ اكثر من قرن من الزمان، وأن الدافع وراء هذه الحرب هو نفس هذه الرغبة الجيوبوليتيكية .
وهناك مشكلة أخرى تثيرها الجغرافية السياسية تتعلق باحتمال أن تواجه الدولة الهجوم من ناحيتين، وفى خلال الحرب العالمية الأولى واجهت ألمانيا هذه المشكلة، فقد اضطرت للقتال على جبهتين فى نفس الوقت: روسيا فى الشرق، وفرنسا وانجلترا على الجبهة الغربية . فى حين استطاعت أن تتجنب هذه المشكلة خلال الحرب الثانية عن طريق الحلف الذى عقده هتلر مع ستالين .
وخلال الحرب الباردة اجبر الحلفاء الغربيون الاتحاد السوفيتى على أن يواجه نفس هذه المشكلة، فالولايات المتحدة احتفظت بقوات عسكرية فى غرب أوروبا وكذلك فى اليابان .
ولا يعنى ذلك أن الدول التى لا تعانى من عقدة الوقوع فى المركز لا تعانى من مشاكل تتعلق بالجغرافية السياسية، فالحقيقة أنها تعانى من مشاكل من نوع آخر . فرغم إن موقع بريطانيا (كجزيرة تحميها المياه من هجوم من جانب الدول الأوروبية) حماها سنوات طويلة من الغزو إلا أنه سبب لها عقدة أخرى، وهى صعوبة نقل قواتها بسرعة إلى مسارح المعارك فى القارة الأوروبية. وبدرجة أو بأخرى تعانى الولايات المتحدة من نفس المشكلة الجغرافية، فالمحيط الأطلنطى وفر لها حماية من الغزو ولكنه صعَّب عليها عملية نقل القوات للاشتراك فى معارك فى مناطق بعيدة، وفرض عليها حالة من الانعزال عن المسرح الأساسى للشئون الدولية (قارة أوروبا(لسنين طويلة .

المصدر: جمال رشدي - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN12.HTM
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 104 مشاهدة
نشرت فى 13 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

284,236