يظل أخطر ما يمكن أن يكون مطروحا بشأن إستراتيجيات استخدام القوة هو أن ما يشار إليه نظريا قد يكون غير قائم عمليا ، فهيكل الإستراتيجية ـ كما تصوره الكتابات ـ يبدو كبناء مؤسس منظم تنساب فيه القرارات وفق قواعد معينة ، ويتم تحديد الأساليب وتنفيذها فى ظل اتصال وتنسيق مستمرين ، استنادا على خطط محددة ، لكن ذلك قد لا يحدث فى الواقع ، وهو ما لاحظه المفكر الفرنسى جنرال بوفر بشأن الإستراتيجية النووية ، إلا أن له دلالات هامة بشأن كل ما يحدث داخل الصناديق السوداء لكثير من النظم السياسية فى الدول المتقدمة والنامية على حد سواء ، إذ يقول :
أن الإستراتيجية (النووية) تبدو للناظر من بعيد فى صورة تبعث الرهبة فى النفوس ، تماما كما يبدو منظر نيويورك أمام عينى المسافر عند وصوله اليها ، ولكن ما إن يقترب المسافر من المدينة حتى يتبين أنه وإن كانت المدينة الضخمة مكونة من ناطحات سحاب عديدة وهائلة ، إلا أن الإتصال بينها قليل ، أو معدوم فى أكثر الأحيان ، كما يكتشف المسافر أن تلك البنايات الشامخة ـ على تعددها ـ ليست نتاج تيار فكرى واحد ، وإنما هى نتيجة لاتجاهات عديدة وإضافات هائلة . وبالمثل فإن من يتوغل فى متاهة (الإستراتيجيات) يذهل من كثرة ما يصادفه فيها من إختناقات متتالية ومتناقضة ، كما يصدمه فى كثير من الأحيان ما يشاهده من مفارقات شاذة يبدو فى وضوح أنها من فعل السياسة والمصالح الهائلة للقائمين على صناعات (التسلح) .
فى سياق ذلك ، تستخدم كل دولة أدوات قوتها المختلفة (العسكرية ، الإقتصادية .. الخ) بأساليب مختلفة سلمية وإكراهية توجد عوامل مركبة تحيط بعملية تحديدها ، وتكتيكات ممارستها . لكن بعيدا عن التعقيدات المتصلة بالمسميات الدقيقة لما يتم بين الدول ، توجد مجموعة من الأساليب التى يستخدمها الأفراد والجماعات والدول فى التأثير (المساومات) بين بعضهم البعض لتحقيق مصالحهم أو الدفاع عنها ، أهمها ما يلى :
1 - الإقناع :
ويرتبط الإقناع بصور بسيطة من التفاعل (الإتصالات) فى إطار التقدم باقتراح أو مناقشة اقتراح مع طرف آخر للحصول على استجابة مواتية دون أن تتم الإشارة علنا ، أو بأشكال محددة، إلى إمكانية المكافأة أو التعرض للعقوبة فى حالة الإستجابة أو عدم الإستجابة من جانب الطرق المعنى . وقد يتضمن فعل الإقناع أيضا أعمالاً ضاغطة ، كالإحتجاج على سياسة معينة أو إنكار ( شجب) وقوع فعل ما ، دون أن يصل الأمر إلى التهديدات الواضحة أو ردود الأفعال الحادة ، لعدم وجود ما يتطلب ذلك فى كثير من الأحيان .
إن ممارسة التأثير لا تكون دائما ضد رغبات الآخرين ، فالقيم Values التى تدور العملية حولها قد لا تشكل مباراة صفرية Zero -Sum Game ، بمعنى أن ما يحصل عليه طرف يمثل بالضرورة خسارة للطرف الآخر ، فهناك من القيم (أى الأشياء المرغوب فيها) ما يمكن اقتسامه أو يمثل مصلحة مشتركة ، أو أن حصول الدولة (أ) عليها لا يؤثر على الدولة (ب) أصلا ، والأمثلة كثيرة ، فالتفاهم والتنسيق بين الدول حول موقف مشترك إزاء مشكلة معينة ، أو التفاوض حول صفقة تجارية ، أو طلب التأييد فى الأمم المتحدة والمؤتمرات الدولية ، يعتمد على الإقناع فى الأساس .
لكن الإقناع قد لا يكون بسيطا ، وإنما مركبا ، كما يحدث خلال مفاوضات تحرير التجارة ، أو حل المشكلات ، أو تسوية المنازعات والتى ترتبط بقيم معقدة مرغوب فيها بشدة، ويوجد ثمن معين تتحمله الدولة لاقتسامها . لذا فإنه نادرا ما يعتمد المفاوضون فيها كلية على قوة الإقناع فى الحجة ، إذ يتم اللجوء إلى أدوات دبلوماسية وإعلامية ، ووعود بالمكافآت ، أو حتى التهديدات الخافتة ، فالضغوط تعمل على هذا المستوى .
وهنا ، يمكن الإشارة إلى نقطتين :
أ - أن الأداة الرئيسية المرتبطة بأسلوب الإقناع بصورته الأولية هى الأداة الدبلوماسية التى يتم عبرها التفاوض بين الدول بهدف الوصول إلى حلول وسط بشأن القضايا المثارة بينها، تضاف إلى ذلك أساليب أخرى تستهدف فى تشكيل التوجهات والقيم داخل الدولة على المدى الطويل ، كالبعثات التعليمية ، أو الإعلام الموجه ، أو التبادل الثقافى .
ب - أن الإطار العام الذى يحيط عادة باستخدام هذا الأسلوب هو العلاقات العادية التى لا تشهد سوى مستويات منخفضة من التفاعل ، أو الاهتمام المتبادل ، كالعلاقات السودانية -السويدية ، أو العلاقات التعاونية التى لا تشهد اختلافات أساسية حول السياسات الخارجية ، ويسودها الاستعداد المتبادل للاستجابة ، كالعلاقات الأمريكية ـ الأسترالية .
ساحة النقاش