إن المؤسسة بشكل عام قد تكون هيئة محددة لها مقر، وعدد من الأعضاء، ومسؤوليات محددة، وقواعد للعمل واتخاذ القرار، وشروط محددة لقبول العضوية، وقد تكون المؤسسة عبارة عن مجرد عدد مكتوب أو غير مكتوب من القواعد التى تنظم التفاعل فيما بين عدد من الأطراف فى أى من مجالات الحياة.
والعولمة هى ذلك الشكل الجديد للحياة على وجه الأرض، وهى تنطوى على أشكال جديدة ومعقدة من العلاقات، والأطراف، والتنظيم فى كل نواحى الحياة. ولذلك لابد للعولمة من مؤسسات لتنظيم هذا التفاعل العالمى غير المسبوق، أو على الأقل بلورة أطر تتم من خلالها تلك التفاعلات.
وتتراوح مؤسسات العولمة، فيما بين أجهزة دولية وحكومية، لها مقر محدد، وجهاز من العاملين والموظفين، واختصاصات معروفة، إلى مؤسسات لا تمتلك جهاز تنظيمى، أو أعضاء محددين، ولكنها فى نفس الوقت تمثل إطارا للتفاعل فيما بين الأطراف العالمية المختلفة. ونتناول هنا نموذجين من مؤسسات العولمة.
الأولى هى منظمة التجارة العالمية، وهى مثال على النوع الأول من المؤسسات، والتى ترسم قواعد العمل للعولمة الاقتصادية.
والثانية هى الإنترنت، وهى مثال على النوع الثانى من المؤسسات، بدرجة أو بأخرى. وهى المنبر الرئيسى للعولمة الثقافية. فالإنترنت لا تضم عددا محددا من الأعضاء، ولا شروطا للعضوية، ولا هيكلاً تنظيمياً ملموساً، ولكنها ذلك النوع من المؤسسات المؤثرة رغم أنها لا تمتلك جسدا أو تنظيما محسوسا.
أولا: منظمة التجارة العالمية:
إن الاقتصاد وفى قلبه التجارة لفت الأنظار إلى ظاهرة العولمة قبل غيره من نواحى الحياة فى العالم. فقد لعب تحرير التجارة العالمية، بمعنى التبادل الحر للسلع والخدمات فيما بين الدول، دورا أساسيا فى زيادة تشابك العلاقات الاقتصادية الدولية، وبالتالى تحقيق الاندماج الاقتصادى العالمى فى مراحله المختلفة، وصولا إلى المرحلة الحالية للعولمة.
إن المؤسسات الرئيسية التى أسستها الدول المتقدمة لتنظيم العلاقات الاقتصادية فيما بينها فى النصف الثانى من القرن العشرين، هى البنك الدولى وصندوق النقد الدولى ومنظمة الجات، والتى تحولت مؤخرا إلى منظمة التجارة العالمية. ففى صيف عام 1944 استضافت الولايات المتحدة الأمريكية ممثلى 44 دولة فى مدينة بريتون وودز فى مؤتمر اقتصادى نتج عنه نشأة صندوق النقد الدولى فى نفس العام، كما نصت اتفاقيات المؤتمر على إنشاء البنك الدولى للإنشاء والتعمير.
وتعتبر اتفاقية الجات، وهى معاهدة دولية تهدف إلى تنظيم التبادل التجارى بين الدول الموقعة عليها، هى قلب العولمة الاقتصادية منذ نشأتها قبل أكثر من خمسين عاما.
وكلمة الجات هى الأحرف الإنجليزية الأولى للاتفاقية العامة للتجارة والتعريفة الجمركيةGeneral Agreement on Trade and Tarriffs . ففى عام 1947 عملت الولايات المتحدة على التحضير لمؤتمر لاحق فى جنيف ليؤسس لقيام منظمة التجارة العالمية، وحضر المؤتمر ممثلى 23 دولة برعاية أمريكية، وتم بالفعل التصديق على الاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة التى تعرف اختصارا بإسم (الجات).
وتقوم الفكرة الأساسية للاتفاقية على إزالة الحواجز غير الجمركية أمام تبادل السلع والخدمات فيما بين الدول.
وقد جاءت قواعد الجات لتضع حدا لهذه السياسات التى تستخدمها الدول بهدف تمييز السلع المحلية عن السلع المستوردة، بحيث تصبح المنافسة فى الأسواق العالمية منافسة حرة، تحكمها الجودة الأعلى، والسعر الأنسب.
وتقوم اتفاقية الجات على عدة مبادئ رئيسية تنظم التبادل التجارى بين أعضائها ومن أهمها:
1- مبدأ الدولة الأولى بالرعاية، بمعنى أن أى دولة عضو فى الجات إذا كانت تمنح أى دولة أخرى بعض المزايا، أو المعاملة التفضيلية فى مبادلاتها الاقتصادية، يجب أن تعمم تلك المميزات وتمنحها لكل الدول الأعضاء، ما لم تكن المزايا ممنوحة لدولة تربطها اتفاقية تجارة حرة مع الدولة المانحة .
2- مبدأ عدم التمييز، بمعنى المساواة فى المعاملة التجارية بين كل الدول الأعضاء فى الجات، وعدم فرض قيود أو رسوم انتقائية ضد أية دولة عضو.
3- مبدأ المعاملة العادلة، بمعنى الامتناع عن دعم السلع الوطنية عن طريق تخفيض الضرائب مثلا لتتمكن من تقديم المنتجات بأسعار أفضل من المنتجات المستوردة.
4- الامتناع عن إغراق الدول الأخرى بالمنتجات الرخيصة بشكل غير طبيعى، بمعنى امتناع الدول عن دعم صادراتها وطرح منتجاتها فى الأسواق العالمية بأسعار تقل كثيرا عن أسعار طرحها فى السوق المحلية.
وقد تلى الاتفاقية الرئيسية للجات جولات طويلة من المفاوضات بين الدول الأعضاء تصل الجولة منها إلى عدة سنوات، وتحاول كل دولة أو مجموعة من الدول تشترك فى نفس المصالح أن تضع القواعد التجارية التى تخدم مصالحها وتحرر التجارة فى المجالات التى تتمتع فيها بميزات أكبر أو قدرة أكبر على منافسة غيرها من الدول والمنتجين لتلك السلعة، حتى تستطيع جنى أرباح بيع تلك المنتجات فى الأسواق العالمية.
وفى مؤتمر مراكش 1994 أقرت المواثيق النهائية لآخر جولة من مفاوضات الجات التى كانت معروفة بجولة أوروجواى، واعتمدت اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية. وفى يناير 1995 تحولت الجات إلى منظمة التجارة العالمية لتصبح المؤسسة المسؤولة عن إدارة والإشراف على تنفيذ اتفاقيات تحرير التجارة بين الدول، والتى تغطى حوالى 90% من إجمالى حجم المعاملات التجارية العالمية، باستثناء قطاع النفط والغاز الذى لم تغطه اتفاقيات الجات، وانتهى ما كان يعرف من قبل بإسم الجات.
وقد بلغ عدد أعضاء منظمة التجارة العالمية، 117 دولة عند التوقيع على الوثيقة النهائية لمفاوضات جولة أوروجواى فى 15 إبريل عام 1994 فى مراكش، بينها 87 دولة نامية. ويتخذ القرار فى منظمة التجارة العالمية وفقا لقاعدة ديمقراطية، وهى أن لكل دولة صوت واحد، على خلاف المؤسسات الاقتصادية الدولية الأخرى التى تتمتع فيها الدول بأوزان تصويتية مختلفة. وبالتالى يمكن للدول النامية أن تتعاون لفرض القواعد التى تحمى مصالحها فى مفاوضات تحرير التجارة العالمية عن طريق أغلبية الأصوات.
ساحة النقاش