ويدل العديد من المؤشرات على استفادة كثير من الدول النامية من العولمة الاقتصادية فى السنوات العشرين الماضية، فقد تضاعف حجم رؤوس الأموال الخاصة المتدفقة إليها أربع مرات تقريبا فى النصف الأول من التسعينيات، وأصبحت تمثل حوالى 75% من مجموع مواردها المالية الصافية طويلة الأجل. كما ارتفعت حصة البلدان النامية من الاستثمار المباشر حول العالم من 23% عام 1985 إلى أكثر من 40% خلال الفترة من 1992-1994.
ولكن الاستفادة من تلك الفرص التى تتيحها العولمة مرهون بقدرات الدول على استغلال الفرصة بكفاءة، وفى الوقت المناسب، ولذلك فإن معظم تلك الاستثمارات التى تذهب للدول النامية تتركز فى بعض الدول الآسيوية التى تتمتع بقدرات تكنولوجية أعلى، مع عمالة ماهرة رخيصة، وتتسم بالدأب واحترام قيم العمل، كما نجحت تلك الدول فى تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والإدارية اللازمة لتهيئة المناخ الاقتصادى الملائم. تلى مجموعة الدول النامية الآسيوية فى الاندماج فى الاقتصاد العالمى دول أمريكا اللاتينية، وأخيرا تقع معظم دول أفريقيا وخاصة أفريقيا جنوب الصحراء خارج إطار الاندماج الاقتصادى الدولى، وتعانى من مختلف مشكلات الفقر والتخلف والمرض.
وإذا نظرنا إلى توزيع الاستثمارات الخاصة المتدفقة إلى الدول النامية، والتى تضاعفت أربع مرات فى بداية التسعينيات، نجدها متركزة فى عشر دول هى بالترتيب: الصين المكسيك والأرجنتين وكوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل وتايلند والهند وتركيا وأندونيسيا. وتنتمى معظم تلك الدول إلى شرق آسيا، وأمريكا الجنوبية، كما أن معظمها من الدول متوسطة الدخل، أما الدول منخفضة الدخل، فهى محرومة من ثمار العولمة فى هذا المجال، وما زالت تعتمد فى تمويل العجز لديها عن طريق القروض والمعونات، لأن الكثير منها غير مهيأ لاستغلال تلك الفرص التى يتيحها اقتصاد العولمة.
ومن أهم الإجراءات اللازمة لجذب الاستثمار الأجنبى وتحقيق قدر أكبر من الاندماج فى الاقتصاد العالمى، تأسيس بنية أساسية وطنية مؤهلة للتعامل مع مؤسسات العولمة، وإصدار القوانين والتشريعات اللازمة لتسهيل عمل المستثمرين واكتساب ثقتهم، ودعم اتخاذ القرار الاقتصادى بالمعلومات اللازمة، ومحاربة الفساد الإدارى، وإمكانية محاسبة المنحرفين والفاسدين فيما يعرف بالشفافية والمحاسبية.
كل هذا بالإضافة إلى اتباع سلسلة من السياسات الاقتصادية الكبرى والتى تقررها الدولة عادة بالاتفاق مع المؤسسات الاقتصادية الدولية. ومن هنا يتضح أن الدول النامية لا تستفيد بالتساوى من الفرص التى تتيحها العولمة، وإنما تستفيد الدول بقدر نجاحها فى بناء قدراتها الذاتية، وكفاءتها فى استغلال الفرص المتاحة فى الوقت المناسب.
والوقت يعتبر من أهم عناصر النجاح فى عالم العولمة، فالسبق عنصر حإسم فى تحقيق النجاح فى عالم العولمة، لأن تضييع الوقت يوسع الفجوة ويزيد من الصعوبات. والدول الآسيوية حققت هذا السبق مقارنة بغيرها من الدول النامية، فإلى جانب الدرجات الأعلى من التصنيع التى وصلت إليها، يفيدها هذا السبق فى جذب الاستثمارات والأموال اعتمادا على الخبرة السابقة للشركات العالمية فى العمل مع تلك الدول على مدى الربع الأخير من القرن العشرين. فرأس المال بطبيعته جبان، ويحتاج إلى بيئة عمل يطمئن إليها، وتلعب العوامل النفسية دورا كبيرا فى توجيهه. ولذلك تشكو بعض الدول النامية، خاصة فى أفريقيا، من أنها حققت الإصلاحات الاقتصادية اللازمة، وما زالت الاستثمارات الأجنبية تفضل العمل فى الدول الآسيوية.
وتتيح ثقافة العولمة بدورها فرصا ، فقد حققت ثورة الاتصال والمعلومات إمكانيات هائلة أمام تفاعل البشر من كل أنحاء الأرض. كذلك سلطت ثقافة العولمة الضوء على عدد من المبادئ الإنسانية أهمها الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وتتيح الإنترنت إمكانات هائلة للتفاعل، والاتصال، والتأثير أمام الأفراد والهيئات فى كل دول العالم. وباستثناء حاجز اللغة، لا تتميز الدول المتقدمة بميزات تحول دون استفادة الدول النامية من الإنترنت كما هو الحال فى اقتصاد العولمة. وبعض الدول النامية ممثلة على الإنترنت بعدد من المواقع يقارب أو يفوق تمثيل بعض الدول المتقدمة، فالهند على سبيل المثال لديها 16 ألف موقع، وسنغافورة 6500 موقع، وماليزيا حوالى 6500 موقع، والمكسيك حوالى 4200 موقع فى أوائل عام 2001. فمنطق الإنترنت مثل منطق معظم قضايا العولمة وهو قبول ودخول حلبة المنافسة.
كذلك قد تتيح الإنترنت فرصا ضخمة للتفاعلات الإقليمية فضلا عن التفاعل مع العالم الخارجى، ومن ثم يمكن البدء بنواة لشبكة معلومات عربية داخلية interanet تربط الأفراد والمؤسسات فى الدول العربية وتلائم ثقافة وحاجات المجتمعات العربية، ثم ربط هذه الشبكة بشبكة المعلومات الدولية. وسوف تساعد هذه الشبكة على تسهيل التفاعل الثقافى العربى، وتزيد من فرص التبادل التجارى فيما بين الدول العربية، ووضع الأسواق العربية على خريطة الأعمال الدولية.
ومن أهم التحديات التى تفرضها ثقافة العولمة، هو إضعافها للقيم والثقافات الأصلية فى كل العالم لتفسح الطريق أمام ثقافة العولمة. ولذلك تثور بعض المخاوف من أن رياح العولمة قد تضعف القيم الإسلامية.
وثقافة العولمة، بمعنى وجود سمات مشتركة من البشر، تمكن من توفير أرضية مشتركة بينهم مكونة من بعض الأفكار والنظم والقوانين لا تتعارض بالضرورة مع القيم الإسلامية.
فالتاريخ الإسلامى يكشف مرونة الإسلام فى التفاعل مع غيره من الحضارات والديانات، دون الشعور بأنها تهدده أو أنه لابد أن يقضى عليها. فقد فتح المسلمون دولا كثيرة من سور الصين إلى نانس، على بعد مائة كيلومتر من باريس، مع ذلك استمرت اليهودية والمسيحية فى أوساط المجتمعات الإسلامية يمارسهما أهلها بحرية.
ويشهد تاريخ انتشار الإسلام بأن الإسلام حقق أكبر انتشار فى قارة آسيا ليس عن طريق الفتح، وإنما من خلال التجارة، وإعجاب الشعوب الآسيوية بأخلاق التجار المسلمين.
وقديما انتقلت المسيحية من الشرق إلى أوروبا، وانتشر الإسلام من الحجاز إلى الهند وفارس والصين، واقتبست الأمم عن بعضها البعض أفكارا وعلوما وفنونا وتكنولوجيات. ولكن هذا التفاعل والتأثير المتبادل الذى كان يحتاج فى الماضى إلى عقود وقرون، أصبح فى عصر العولمة الحديثة لا يستغرق سوى دقائق معدودة.
والشكل الحالى للعولمة وارتباطها بشكل كبير بالحضارة الغربية، هو الذى يخلق هذا الخوف من تأثير العولمة على الإسلام. يرتبط بذلك أن معظم الدول الإسلامية تنتمى إلى العالم الثالث، بما تفرضه العولمة على تلك الدول من صعوبات وتحديات.
ساحة النقاش