أولا - من الثورة العرابية إلى دستور 1923
يرجع التاريخ الدستورى المصرى إلى الثورة العرابية ، فقد تضمنت مطالب العرابيين فى مظاهرة عابدين فى 9 سبتمبر 1881 ، إقالة الوزارة وقيام حياة نيابية وإصلاح أوضاع الجيش.ووفقا للمؤرخ عبد الرحمن الرافعى فى كتابه تاريخ الثورة العرابية فقد أقال الخديوى توفيق وزارة رياض باشا وعهد إلى شريف باشا بتأليف الوزارة واجتمع مجلس شورى النواب فعلا فى 16 ديسمبر 1881 على أن يعرض عليه الدستور الجديد بعد إعداده بواسطة الحكومة ، كان الدستور الجديد يتضمن نظاما برلمانيا تتقرر فيه مسؤولية الوزارة أمام البرلمان ويكون للبرلمان سلطة التشريع فى كل الأمور بما فى ذلك الشئون المالية ، وهو ما أثار حفيظة الدول الدائنة خاصة فرنسا وإنجلترا اللتين رأتا أن المجلس يجب أن يكون مجلسا استشاريا وليس له حق مناقشة الميزانية، ولكن مجلس شورى النواب أصر على أن يكون له كافة الحقوق فى مجال مناقشة الميزانية فاستقال شريف باشا ، وتألفت وزارة محمود سامى البارودى الذى عين فيها أحمد عرابى وزيراً للحربية وعرفت باسم وزارة الثورة العرابية ، ووافقت على مشروع دستور 1882 وحملته إلى الخديوى الذى أصدره فى فبراير 1882 ، وهو أول دستور لمصر جاء متضمنا لمبادئ النظام النيابى البرلمانى .
فقد اعترف بسلطات فعلية للبرلمان فى مجال التشريع والرقابة على الحكومة، وأقر بالمسؤولية الوزارية أمام البرلمان. وهذا الدستور يعد من أكثر الدساتير المصرية تقدما وتطورا باتجاه النظام الديموقراطى ، إلا أن الظروف التى أحاطت بمصر فى تلك الفترة لم تتح الفرصة لتطبيق أحكام الدستور، حيث وقع الاحتلال البريطانى لمصر بعد ذلك وقامت إنجلترا بإلغاء دستور 1882 وأبدلته بدستور آخر هو القانون النظامى الصادر عام 1883 . ويرى د . مصطفى أبو زيد فهمى فى كتابه النظام الدستورى المصرى أن القانون النظامى دستور رجعى، بل ومسرف فى الرجعية إذا ما قيس بدستور 1882 ، ويتبدى ذلك فى أن الهيئات التشريعية التى جاء بها ذات اختصاصات استشارية لا تملك سلطة التقرير التشريعى ، وللخديوى الحق فى أن يضرب برأيها عرض الحائط ، كما أنه أعاد الحكم المطلق مرة أخرى مركزا السلطات فى المعتمد البريطانى .
ولقد نتج عن هذا الوضع المقترن بوجود الاحتلال البريطانى أن انطلقت الحركة الوطنية المصرية الحديثة من خلال الزعيم الوطنى مصطفى كامل الذى ركز دعوته على إحياء الروح الوطنية لدى المصريين. ولكن الملاحظ أن جوهر دعوة مصطفى كامل كان يدور حول مطلبين أساسيين هما الجلاء والدستور، وفى هذا الصدد يقول عبد الرحمن الرافعى فى كتابه مصطفى كامل باعث الحركة الوطنية : كان مصطفى كامل مع دعوته إلى الجلاء لا يفتأ يعدو إلى الدستور ليكون أداة الحكم الصالح فى مصر ، كتب فى عدد 5 أكتوبر سنة 1900 من اللواء مقالة بعنوان ( الحكومة والأمة فى مصر ) ذكر فيها وعد اللورد دوفرين بإسم حكومته أن يؤسس فى مصر مجلساً نيابياً وإخلاف الحكومة البريطانية هذا الوعد كإخلاف وعودها فى الجلاء .
وقد دعا إلى الدستور فى خطبته فى العيد المئوى لمحمد على يوم 21 مايو 1902 وكان على صفحات اللواء يدعو إلى المجلس النيابى كأداة لإصلاح عيوب الحكم ، كتب فى عدد نوفمبر 1902 مقالة فى اللواء تحت عنوان إفلاس الاحتلال أظهر فيها فساد الأداة الحكومية فى المعارف الداخلية وختمها بقوله : وعندى أن هذه الأدوار المختلفة والأدوار المتنوعة دالة كلها على شدة حاجة هذه البلاد إلى مجلس نيابى تكون له السلطة التشريعية الكبرى فلا يسن قانون بغير إرادته ولا تحرر مادة إلا بمشيئته ولا يزعزع نظام بغير أمره ، ولا تعلو كلمة إلا كلمته ، وإلا فإن بقاء السلطة فى يد رجل واحد سواء كان مصريا أو أجنبيا يضر بالبلاد كثيرا ويجلب عليها الوبال .
وإلى جانب مصطفى كامل ظهرت كتابات أحمد لطفى السيد الذى كان ومدرسته يعبر عن الاتجاه المعتدل فى نطاق الحركة الوطنية المصرية ، إلا أنه تلاقى مع مصطفى كامل فى الدعوة إلى الدستور وإن كانت كتاباته قد اتسمت بدرجة أكبر من العمق، فهو يرى أن حرية الوطن لا تتحقق ما لم تتحقق حرية المواطن ولا تتحقق الشخصية للمواطن ما لم تكفلها الحرية السياسية ، والحرية السياسية وفقا لأحمد مصطفى السيد فى مقال له بصحيفة الجريدة فى أول مايو 1912 هى أن يشترك كل فرد فى حكومة بلاده اشتراكا تاما وهذا معنى سلطة الأمة . ويذكر د. حسين فوزى النجار فى كتابه لطفى السيد أستاذ الجيل أن لطفى السيد أخذ بالدعوة للدستور وقدمها أحيانا على الدعوة للاستقلال على أساس أن حرية الفرد هى أساس حرية المجتمع وأن الفرد الحر حريص أشد الحرص على حرية الوطن فإذا نمت الحرية الشخصية فى نفس المواطن كانت كفيلا لحرية الوطن وحافزا للمواطن على تحقيق استقلال الوطن ، ولم يترك لطفى السيد سانحة تمر دون الدعوة للدستور حتى أصبح للدستور عنده، لكثرة ما كتب عنه وعن مقوماته وشكله، فلسفة خاصة .
وعلى نسق دعوته إلى التدرج فى نيل الاستقلال، كان يدعو إلى قضية الدستور. فقد كان يرى أن ما نكسبه للأمة من أشكال الحكم الدستورى حتى وإن لم يحقق المعنى الكامل للدستور كسب جدير بطلبه وخطوة تتلوها خطوات للظفر بالأماني الدستورية كاملة .
وقد اشتدت الحركة الدستورية فى مصر منذ بداية العقد الثانى من العشرينات وأخذ لطفى السيد يغذيها بقلمه حتى اجتمع عليها الجميع. وحين أعلن جورست المعتمد البريطانى أن الأمة المصرية ليست أهلا الآن للدستور انبرى أحمد لطفى السيد للرد عليه منددا بهذه الفكرة واصفا إياها بأنها من اختراع الإنجليز لشغل الأمة بدلا من المطالبة بالدستور ، ولم تقنع الأمة بتوسيع اختصاصات مجالس المديريات واستمرت فى مطالبها الدستورية التى اجتمعت عليها فى ذلك الوقت كما لم تجتمع من قبل حتى قام مجلس شورى القوانين يشارك الأمة فى مطلب الدستور فاتهمه جورست بأنه غدا آلة يحركها الحزب الوطنى لمحاربة الإنجليز. وعندما حل كتشنر محل جورست رأى أنه من الحكمة الاستجابة لمطالب الحركة الدستورية واسترضاء الشعور القومى ولهذا ألغى مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية وانتهى بذلك القانون النظامى الصادر عام 1883 وصدر قانون نظامى جديد فى أول يوليو سنة 1913 فنشأ نظام الجمعية التشريعية ، وفى نفس التاريخ صدر قانون الانتخاب .
ويرى د . مصطفى أبو زيد فهمى فى كتابة النظام الدستورى المصرى أن هذا القانون الجديد لم يأت بما كان ينتظر من تغيرات هامة على نظام الحكم ترضى طموح الأمة وتحقق بعض أمانيها الوطنية، فلقد أقام هذا القانون نظاما للحكم المطلق ، كما أن معظم اختصاصات الجمعية التشريعية فى هذا القانون اختصاصات استشارية ، وإن كانت منتخبة فى معظمها إلا أنها لم تكن تملك اختصاصات نهائية ، فضلا عن أن الوزارة لم تكن مسئولة أمام هذه الجمعية التى كانت بمثابة البرلمان فى إطار هذا القانون .
ومع قيام الحرب العالمية الأولى أعلنت الحماية البريطانية على مصر لينتهى فعليا العمل بهذا النظام ولتبدأ الأمة المصرية مرحلة جديدة من النضال من أجل الاستقلال والدستور ، وهو ما تحقق جزئيا بعد قيام ثورة 1919 بإعلان إنجلترا تصريح 28 فبراير 1922 الذى أعلنت فيه إنهاء الحماية البريطانية على مصر وفى مارس 1922 أعلن الملك فؤاد استقلال البلاد وتغيير لقبه من سلطان إلى ملك ، وعاد سعد زغلول من منفاه ، وفى 19 أبريل 1923 صدر أول دستور لمصر المستقلة ، وبعد ذلك قانون بإلغاء جميع ما تعلق بالجمعية التشريعية من أحكام القانون النظامى الصادر فى سنة 1913 وهكذا انتهى هذا العهد وبدأ عهد جديد .
ويرى بعض المحللين أن المجالس التشريعية الاستشارية التى نشأت فى عهد الاحتلال البريطانى قد أتاحت الفرصة للمصريين لاكتساب الخبرات والمهارات اللازمة للعمل النيابى والبرلمانى وهو ما بدا واضحا بعد بدء العمل بدستور 1923 ، وبالرغم من إمكانية قبول هذا الرأى ، إلا أن استعراض حركة التاريخ الدستورى منذ الثورة العرابية وحتى إعلان دستور 1923 توضح بعض الحقائق الهامة :-
1- أن الحركة الوطنية قد ربطت بين استقلال والمطالبة بالدستور منذ البداية ، وهو ما يدل على النضج السياسى المبكر للحركة الوطنية المصرية .
2- تبلور خلال هذه الفترة تراث مصرى دستورى راقٍ ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى دستور الثورة العرابية وهو دستور متقدم إلى حد كبير بل ولا نغالى إذا ما ذكرنا أنه من أفضل الدساتير المصرية من حيث درجة التطور الديموقراطى .
3- أن هناك دورا واضحا للقوى الاستعمارية فى إجهاض الحركة الدستورية المصرية لأن فى نمو هذه الحركة ما يتعارض مع مصالحها ، هذه القوى، التى اعتادت أن تتحدث عن الديموقراطية كقيمة عليا يجب على الشعوب والدول أن تلتزم بها،هى ذاتها التى أجهضت محاولات التطور الديموقراطى فى مصر خلال هذه المرحلة .
4- أن قضية الدستور وإصلاح نظام الحكم هى القضية التى اتفقت حولها كل القوى السياسية فى مصر على اختلاف اتجاهاتها فى ذلك الوقت وهو ما يدل دلالة واضحة على الأهمية التى أولتها الحركة الوطنية المصرية لهذه المسألة وعلى مدى استنارة هذه الحركة .
ساحة النقاش