2. أين نشأ البرلمان؟
لم يكن البرلمان بدعة فكرية أو ابتكارا لأحد الفلاسفة وإنما جاء وليد تجارب وتاريخ طويل، فالأحداث التاريخية هى التى صنعته وحددت ملامحه الحالية.
ولم يظهر البرلمان مرة واحدة، وإنما خاض مراحل متعددة، كان أكثرها مليئا بالصعاب والتحديات، استطاعت البرلمانات خلالها انتزاع سلطاتها من الملكيات المطلقة ونظم الحكم الاستبدادية.
ولم تتبلور سلطات البرلمان دفعة واحدة وإنما اكتسبتها بالتدريج، حتى امتدت الى المسائل التشريعية والمالية والسياسية. ومع ظهور واستقرار البرلمان عرف العالم نوعا جديدا من نظم الحكم هو الحكومات البرلمانية، وتواصلت مسيرته على طريق الديمقراطية والمشاركة والتعددية السياسية، وحكم الأغلبية.
ويشير المؤرخون الى أن الحياة البرلمانية لأى دولة هى صورة صادقة لواقع وحقيقة مجتمع هذه الدولة، حيث أن معظم التيارات السياسية والأفكار والآراء والمبادئ والقيم التى تسود فى هذا المجتمع تنعكس سلبا وإيجابا على البرلمان وأعماله ودرجة فعاليته.
فالبرلمان هو الممثل المباشر للجماهير، وهو الذى يشرع القوانين التى تحكم المجتمع، كما يراقب الحكومة فى تصرفاتها نحو تنفيذ ما يتطلع إليه الشعب. وقد بلغ تطور دور البرلمان فى بعض الدول مرحلة غير مسبوقة، حتى قيل فى البرلمان البريطانى مثلا أنه يستطيع أن يفعل كل شىء عدا تحويل الرجل إلى امرأة والمرأة إلى رجل.
ولقد تزامن تطور المؤسسة البرلمانية المعاصرة مع تاريخ البرلمانات الأوروبية، وخصوصا البريطانية والفرنسية.
فقد بدأ البرلمان الإنجليزى فى مطلع القرن الثالث عشر يطالب بحقه فى التشريع دون تركه للملك، الذى لم يعد معبرا عن إرادة الشعب. وفى عهد الملك شارل الأول، حدث الصدام بينه وبين مجلس العموم حول الضرائب، وكان الملك فى حاجة لدعوة البرلمان للانعقاد لمواجهة نفقات تسليح الجيش لمواصلة توسعاته الإقليمية، واضطر الى قبول دور أكبر للبرلمان فى مجال تحديد الضرائب، فيما عرف منذ ذلك الوقت بشعار لا ضرائب بلا تمثيل. وقد تنامى دور البرلمان خلال الحرب الأهلية فى منتصف القرن السابع عشر، واندلعت الثورة الإنجليزية الكبرى، وكانت بدايتها الحقيقية فى البرلمان.
كذلك، فقد ظهر الكونجرس الأمريكى فى غضون الثورة التى انتشرت فى أواخر القرن الثامن عشر فى المستعمرات البريطانية، وانتهت بإعلان الاستقلال وتأسيس اتحاد بين عدد من المستعمرات المستقلة. كما ارتبط الكونجرس بمرحلة هامة فى التاريخ الأمريكى وهى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، حيث كان مركزا للقوى التى تؤيد الاندماج فى دولة واحدة، حتى تم تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، الحالية.
وفى فرنسا، بدأ هذا التطور بما يسمى برلمان باريس، الذى ضم عددا من النبلاء، ثم اصطدم مع الملك منذ أواخر القرن الثامن عشر، وتحدى سلطته المطلقة، فتعرض أعضاؤه للنفى والاضطهاد، ولكن الجماهير تعاطفت معهم. ومع تأزم الحالة المالية للملك لويس السادس عشر، اضطر الى اجتذاب تأييد النبلاء والجمهور على السواء، بحثا عن وسائل تمويل خزانته الخاوية، وبالتالى كان لابد من الاحتكام للأمة واستشارة الجماهير، أى قبول تأسيس البرلمان وسلطاته. وأصبح محور الأحداث فى ذلك الوقت هو إعلان دستور لفرنسا، وضمان وجود البرلمان وتحديد سلطاته، وأن يكون هذا البرلمان تعبيرا عن إرادة الشعب..، واندلعت الثورة الفرنسية الشهيرة، وبدأ العهد الجمهورى لفرنسا من داخل أروقة البرلمان.
ولم تكن مصر بعيدة عن هذا التطور، وإنما شاركت فيه، كما تأثرت به. فالحياة النيابية فى مصر عريقة منذ ظهورها وخلال مراحل تطورها، وليست غريبة فى ممارستها فى المجتمع المصرى على الإطلاق. على العكس من ذلك، فإن الملامح الأولى للتجربة النيابية فى مصر تمتد الى منتصف القرن التاسع عشر، حين تبلور الشكل النيابى الأول فى ظل حكم محمد على، ومن بعده نشأت المؤسسة النيابية بالمعنى السياسى منذ عام 1866، تحت إسم مجلس شورى النواب، وذلك فى عهد الخديوى إسماعيل. كما ارتبط البرلمان بتاريخ الحركة الوطنية المصرية وكان محفزاً لها، منذ حركة عرابى، ومرورا بثورة 1919 بزعامة سعد زغلول، وصدور دستور 1923 بعد حصول مصر على استقلالها من الإمبراطورية البريطانية، وحتى ثورة 23 يوليو 1952، بعد مرحلة حافلة من ازدهار الحياة البرلمانية، عرفت بإسم مرحلة الديمقراطية البرلمانية، ثم إعادة تأسيس الأحزاب السياسية منذ منتصف السبعينات من القرن العشرين.
ساحة النقاش