3- اتساع القاعدة الشعبية للبرلمان :
مرت البرلمانات المعاصرة بالعديد من مراحل التطور، سواء من حيث الشكل والهيكل المؤسسى، أو من حيث قاعدتها الاجتماعية ومدى تمثيلها لمجموع الأفراد، وطابعها الجماهيرى.
فمن حيث الشكل أو الهيكل، انتقل البرلمان من كونه مجرد منتدى مؤقت، يعينه الملوك والأمراء وقتما يشاءون ويلغونه فى أى وقت، وأصبح مؤسسة دائمة وركنا من أركان الدولة الحديثة، وبصرف النظر عن حجم اختصاصاته القانونية أو تأثيره الفعلى فى الحياة السياسية، حتى أصبح من النادر اليوم أن نجد دولة بدون برلمان.
أكثر من هذا، فإن المجتمعات التى خضعت للوصاية أو الاستعمار الأجنبى أسست مجالس نيابية منتخبة لإدارة شئونها الداخلية وممارسة الحكم الذاتى (ومثال ذلك: هونج كونج قبل عودتها الى الصين، أو حتى الأراضى الفلسطينية الى حين إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة).
ومن حيث تشكيل البرلمان، فقد انتقل من مرحلة التعيين الكامل لأعضائه بواسطة الحاكم، الى انتخاب البعض بواسطة المواطنين وتعيين البعض الآخر بواسطة الحاكم، ثم أصبح يتشكل كله بالانتخاب فى معظم الدول. وفى الدول التى لا يزال الحاكم فيها يقوم بتعيين عدد من أعضاء البرلمان، فإن عدد المعينين يعتبر محدودا بالمقارنة مع عدد المنتخبين. كذلك، فحتى فى هذه الحالة، فإن اختيار الحاكم لهؤلاء المعينين أصبح وسيلة لتحقيق توازنات سياسية عامة، وليس مجرد ميزة شخصية للحاكم، حيث يسعى الى استخدام سلطته فى تعيين بعض أعضاء البرلمان من أجل إتاحة فرصة معقولة لتمثيل بعض الفئات الاجتماعية، أو للاستفادة من خبرات بعض الرموز الاجتماعية والثقافية والشخصيات العلمية المتميزة لإثراء العمل البرلمانى ذاته.
وهناك علاقة واضحة بين طبيعة تشكيل البرلمان من ناحية واختصاصاته وسلطاته من ناحية أخرى، حيث يكون البرلمان المنتخب مؤسسة مستقلة، وصاحب سلطات حقيقية بينما تكون المجالس المعينة أقرب للهيئات الاستشارية، التى يقتصر دورها على مناقشة ما يراه الحاكم، وتقديم الآراء إليه، ليأخذ بها إن شاء، أو يتجاهلها تماما.
كذلك، ففى الدول التى يتكون فيها البرلمان من مجلسين، أحدهما يتشكل بالانتخاب والآخر يجمع بين الانتخاب والتعيين، فعادةً ما يكون المجلس المنتخب هو السلطة التشريعية والرقابية الأولى، بينما يكون المجلس المعين مساعدا له، وربما شريكا له فى بعض الاختصاصات، مثل مناقشة مشروعات القوانين، مع تمتع المجلس المنتخب بسلطات أكبر من المجلس المعين.
ومع هذا التطور فى تشكيل البرلمان واختصاصاته، انتقل من الناحية الاجتماعية من مجلس النخبة الى مجلس الجماهير.
فقد كان العديد من البرلمانات فى بدايتها عبارة عن مجالس قليلة العدد، تضم مجموعة محدودة من النخبة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وخصوصا من كبار الملاك والأعيان والنبلاء، ثم تطورت لتصبح مجالس شعبية، مفتوحة أمام كافة المواطنين، للانتخاب والترشيح، وبالتالى صارت مؤسسات جماهيرية.
ويشير التطور التاريخى الى أن انتقال البرلمان من تمثيل النخبة الى تمثيل الجماهير قد واجه خمسة مصاعب أو قيود أساسية على حق المواطنين فى الانتخاب والترشيح، استطاعت البرلمانات المعاصرة اجتياز معظمها، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، تباينت المجتمعات فى طرق حلها وتوقيت ذلك الحل. وهذه القيود هى:
أ- المكانة الاجتماعية والثروة، حيث كان الترشيح لعضوية البرلمان قاصرا فى البداية على النبلاء وكبار الملاك والأعيان، كما كانت ممارسة حق الانتخاب مشروطة بنصاب مالى لم تستطع تقديمه إلا الطبقات الغنية أساسا كما سبقت الاشارة.
وقد تجاوزت برلمانات دول العالم المعاصر هذه العقبة، وأصبحت تقوم على حق الانتخاب والترشيح لكافة المواطنين، بصرف النظر عن المكانة الاجتماعية أو الثروة.
ب- السن، حيث كان حق الانتخاب والترشيح مرتبطا بسن معينة، بلغ أكثر من خمسة وثلاثين عاما، كما كان هذا القيد يزيد فى حالة الترشيح عنه فى حالة الانتخاب.
أما اليوم فإن حق الانتخاب أصبح مكفولا لكل من بلغ سن الرشد القانونية، وهى فى الأغلب ثمانية عشر عاما، كما أصبح حق الترشيح لعضوية البرلمان لكل من بلغ ثلاثين عاما، فى المتوسط، الأمر الذى أدى الى اتساع قاعدة الانتخاب والترشيح، وأضفى على البرلمان صفته الجماهيرية.
ج - النوع، حيث كانت معظم برلمانات العالم قاصرة على الرجال فقط، ولم يسمح للمرأة بممارسة حقوق الانتخاب أو الترشيح فى المجالس البرلمانية، أو فى غيرها من المؤسسات السياسية.
ولقد كان تجاوز ذلك القيد من أصعب مراحل تطور الحياة البرلمانية فى العالم، حتى أن المرأة لم تحصل على هذه الحقوق السياسية فى العديد من الدول الديمقراطية الغربية ذاتها إلا فى منتصف القرن العشرين.
وبرغم أن أغلب دول العالم المعاصر قد أقرت بمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة فى الحقوق والواجبات، والمواطنة المتساوية لكل منهما، فإن بعض المجتمعات لا تزال تقيد تطبيق ذلك المبدأ، وبالتالى تقتصر عملية الانتخاب أو الترشيح للبرلمان أو كليهما على الرجال فقط.
وما من شك فى أن هذا القيد على مبدأ المواطنة، والطابع الجماهيرى للبرلمان يزول حثيثا فى بقية بقاع العالم مع انتشار أفكار المساواة والديمقراطية، وتغير منظومة التقاليد الاجتماعية وانتشار موجة التحديث (ولعل الجدل الدائر اليوم فى مجلس الأمة الكويتى خير دليل على ذلك، حيث صدر مرسوم أميرى يعطى المرأة تلك الحقوق، ولكن لم يتم التصديق عليه بعد فى مجلس الأمة، وربما يكون ذلك بداية لموجة مماثلة فى بقية أقطار الخليج العربى).
د- الانتماء السياسى أو المذهبى، فمن الملاحظ أن بعض الدول ربما تقيد حق الانتخاب والترشيح لعضوية البرلمان بشروط سياسية أو مذهبية، ارتبطت فى معظمها بمرحلة معينة فى تاريخها السياسى.
ولم يكن ذلك مقصورا فى البلدان النامية أو التى تحررت من الاستعمار الأجنبى وحدها، وإنما عرفته الدول الغربية والمتقدمة أيضا. فعلى سبيل المثال، قد تلجأ الدولة بعد مرحلة ثورية الى تقييد الحقوق السياسية لبعض الفئات التى قامت الثورة للإطاحة بهم أصلا، أو للتخلص من سيطرتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ومن ناحية أخرى، فقد تفرض الدولة تلك القيود على بعض المواطنين بسبب ارتباطهم بأنظمة سابقة (مثل النازية والفاشية فى أوروبا)، أو نتيجة انخراطهم فى أنشطة معادية للدولة.
ومن ناحية أخرى، قد يكون تقييد تلك الحقوق بسبب الانتماء لمذهب فكرى أو سياسى محظور فى دستور الدولة وقوانينها، مثل الترويج لأفكار إلحادية فى مجتمعات تحترم الأديان، أو تبنى أفكار عنصرية معادية لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة وحقوق الإنسان.
كذلك، فلم يقتصر هذا التقييد على دول بعينها، وإنما عرفته مختلف المجتمعات (ومثال ذلك التوتر الذى بين النمسا ودول الاتحاد الأوروبى فى بداية عام 2000 بسبب مشاركة حزب متطرف فى الحكم، وإعلان رئيسه لأفكار عنصرية، دفعت الكثير من الدول الديمقراطية والغربية الى التهديد بمقاطعة هذه الحكومة، وربما فرض عقوبات عليها، رغم أنها وصلت الى السلطة بطريق الانتخاب الحر).
وعلى كل الأحوال، فبرغم أن هذه القيود تحدّ من الطابع الجماهيرى للبرلمان، فإن بعضها يمكن تبريره لحماية الحقوق والحريات العامة وسلامة المجتمع ككل، كما أن الأغلب فى برلمانات العالم أن تكون معظم هذه القيود مؤقتة، أى لفترة محدودة.
هـ- الجنسية، حيث تتباين برلمانات العالم فى اشتراط التمتع بالجنسية، ونوعها، لممارسة حق الانتخاب والترشيح.
وقد مرت البرلمانات بمرحلة كانت فيها المواطنة ميزة لبعض السكان دون غيرهم، الذين حرموا منها، مثل العامة وطبقة العبيد فى الحضارة اليونانية، وطبقة المنبوذين فى التاريخ الهندى، والسود فى جنوب أفريقيا خلال الحكم العنصرى.
ومع اندثار تلك المراحل التاريخية، فلا تزال معظم الدول تقيد حقوق الانتخاب والترشيح فى البرلمان بشرط المواطنة، أى التمتع بالجنسية. وتتنوع درجة تلك القيود من دولة الى أخرى، فبعضها يشترط التمتع بالجنسية الأصلية، أى بالميلاد ويستبعد الجنسية المكتسبة، أى عن طريق التجنس.
كذلك، فهناك تباين فى نطاق هذا القيد، حيث تشترط بعض الدول فى حاملى الجنسية الأصلية أن يكون آباؤهم وأحيانا أجدادهم متمتعين بالجنسية الأصلية أيضا، وقد يشترط البعض الآخر مرور مدة زمنية أو الإقامة المتواصلة فى الدولة بالنسبة للحاصلين على الجنسية بالاكتساب، حتى يتمتعوا ببعض تلك الحقوق أو كلها.
وتتجه الدول المعاصرة الى التخفيف من تلك القيود، لاسيما مع تبنى قيم ومواثيق حقوق الإنسان الدولية، وانتشار ظاهرة الهجرة والتوطن بين المجتمعات فى أنحاء العالم، الأمر الذى يعزز من الطبيعة الجماهيرية للبرلمان، كمجلس نيابى يمثل جميع المواطنين.
وبالإضافة الى تلك القيود التى شهدها التطور البرلمانى تاريخيا، هناك مجموعة من الشروط التى تفرضها الدول على بعض المواطنين فى ممارستهم لحقوق الانتخاب والترشيح للبرلمان، سواء بحكم وظائفهم أو لأسباب أخلاقية وقانونية. فعلى سبيل المثال، قد يتم استثناء ضباط وأفراد القوات المسلحة والشرطة من حق الانتخاب طالما كانوا فى الخدمة، مع إمكانية مباشرتهم لحق الترشيح، ثم الاستقالة فى حالة الفوز.
كذلك، فقد تضع الدول شروطا أخرى لكل من يرغب فى ممارسة حقوق الانتخاب والترشيح للبرلمان، مثل شرط النزاهة وعدم صدور أحكام جنائية نهائية مخلة بالشرف والأمانة ضده، وشرط التعليم أو إجادة القراءة والكتابة، وشرط أداء الخدمة الوطنية والعسكرية أو الإعفاء منها للترشيح لعضوية البرلمان..، وهذه شروط مشروعة ومقررة قانونا، وليست قيودا على الطابع الجماهيرى للبرلمان.
ساحة النقاش