وتقدم باكستان نموذجا من الصراعات تختلط فيه عناصر القومية والدين. فمنذ القرن الثامن عشر كانت البلاد المعروفة اليوم بباكستان جزءا من الهند التي كانت من ممتلكات الإمبراطورية البريطانية. ومنذ القرن التاسع عشر بدأ سكان الهند في التفكير في مستقبل بلادهم ومستقبلها بعد رحيل البريطانيين. وفي ظل وجود جماعات هندوسية متطرفة تصورت هند المستقبل المستقلة كدولة هندوسية، يُجبَر فيها المسلمون على التحدث باللغة الهندية بدلا من الأوردو، وعلى عدم ممارسة شعائرهم الدينية بالقرب من المعابد الهندوسية أو في المناطق التي يسيطر عليها الهندوس، وعلى تحريم ذبح المسلمين للأبقار. في ظل وجود مثل هذه الجماعات الهندوسية المتطرفة ثارت مخاوف المسلمين، وخلص قادة المسلمين الهنود إلى استحالة التعايش بين المسلمين والهندوس في دولة واحدة، وبالتالي حتمية انفصال المناطق الإسلامية لتكون دولة مستقلة. لم تفلح محاولات أغلبية النخبة الهندية المنظمة في حزب المؤتمر المعارض لآراء الجماعات الهندوسية المتطرفة في تهدئة مخاوف مسلمي الهند، خاصة أن قيادة حزب المؤتمر ترددت في تقديم الدليل العملي على حسن نواياها تجاه المسلمين، خوفا من أن يؤدي الاعتراف بأن مشكلة الانقسام الديني/القومي في البلاد تستدعي حلا سياسيا إلى تعميق المشكلة وليس حلها. وعندما حل موعد رحيل البريطانيين عن الهند عام 1947 تم تقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين هما الهند ذات الأغلبية الهندوسية، وباكستان ذات الأغلبية المسلمة، التي حملت إسم جمهورية باكستان الإسلامية، والتي تأسست كدولة للمسلمين في شبه القارة الهندية.
وبالطبع فإن هذا الانقسام لم يكن بالأمر السهل. فقد صاحبه الكثير من جرائم التخريب والقتل من جانب المسلمين في باكستان ضد مواطني باكستان من الهندوس، ومن جانب الهندوس في الهند ضد مواطني الهند من المسلمين. ففي نظر الهنود كان الباكستانيون رمزا للخيانة وتفتيت الوطن، أما بالنسبة للباكستانيين، فإن الهنود مثلوا الجار الوثني ذا القوة والأغلبية العددية الذي يمثل تهديدا حقيقيا. سعى المتطرفون من الجانبين إلى تكوين أمة نقية ليس فيها بقايا من الشرور التي يمثلها أبناء الشعب الآخر، فتم الضغط على ملايين الهنود في باكستان، وعلى المسلمين في الهند لإجبارهم على الرحيل إلى الجانب الآخر من الحدود، فبلغ عدد المهاجرين على جانبي الحدود أكثر من عشرة ملايين مواطن أجبروا على تـرك ديارهم وممتلكاتهم، في تطبيق مبكر لسياسة التطهير العرقـي التي جرى تنفيذها بعد ذلك في البوسنة.
تكونت دولة باكستان الناشئة من المناطق ذات الأغلبية الإسلامية في شبه القارة الهندية. وقد حدث أن كان المسلمون متمركزين في القسم الشمالي الغربي والقسم الشمالي الشرقي من شبه القارة الهندية، فتكونت دولة باكستان من قسمين لا يوجد بينهما أي اتصال بري، ويفصل بينهما 1600 كيلومتر من الأراضي التابعة للهند. وبينما مثل سكان القسم الشرقي من باكستان، أو ما عُرف بباكستان الشرقية، 56% من سكان البلاد، فإن أبناء باكستان الغربية سيطروا على الحكم، كما احتكروا القسم الأكبر من مخصصات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
غير أن الطامة الكبرى تمثلت في محاولة النخبة المسيطرة في باكستان الغربية فرض الأوردو كلغة قومية على سكان القسم الشرقي من باكستان، الذين كان عددهم أكبر من سكان القسم الغربي، والذين يتحدث أغلبهم اللغة البنجالية، الأمر الذي أدى في عام 1952 إلى اندلاع أول صدام بين الجماعات الثقافية المختلفة في باكستان. ومنذ ذلك الحين بدأت دعاوى انفصال شرق باكستان عن غربها في الظهور. غير أن هذه الدعوات لم تكتسب تأييدا قويا حتى مطلع السبعينيات من القرن العشرين. ففي عام 1970 تعرضت باكستان الشرقية لموجة عاتية من الأعاصير والفيضانات أسفرت عن مقتل 266 ألفا من السكان. واتهم الباكستانيون الشرقيون الحكومة المركزية التي كان مقرها في باكستان الغربية بالتخاذل في مساعدة المواطنين، وبدأت أعمال العنف في الاندلاع.
وفي نفس العام 1970 انتخبت باكستان بقسميها جمعية وطنية جديدة كان الغرض منها وضع دستور جديد للبلاد. وكان الباكستانيون الشرقيون قد نظموا حملات تهدف إلى تضمين الدستور المقترح نصا على حقهم في المعاملة المتساوية مـع أهل القسم الغربي من باكستان، وأن تمنح باكستان الشرقية درجة أعلى من الاستقلال الذاتي. غير أن الرئيس الباكستاني أيوب خان قام في عام 1971 بإلغاء الاجتماع المنتظر للجمعية الوطنية، وهو القرار الذي أسفر عن وقوع اضطرابات في باكستان الشرقية تطورت إلى مستوى حرب أهلية شاملة، دخلها الجيش الباكستاني في محاولة لإعادة الهدوء للقسم الشرقي من البلاد، غير أن الأمور تطورت بسرعة، وتم إعلان استقلال باكستان الشرقية، تحت اسم جمهورية بنجلاديش، في 26 مارس 1971.
وعندما حاولت الحكومة قمع الحركة الانفصالية في باكستان الشرقية عن طريق استخدام القوة المسلحة العارية وبقسوة، تدخلت الهند إلى جانب المطالبين باستقلال بنجلاديش، وانتهت الحرب بعد أسبوعين من القتال العنيف وأعمال العنف بهزيمة باكستان وتثبيت أقدام جمهورية بنجلاديش الوليدة، بعد أن مات أكثر من مليون مواطن ضحية للحرب وأعمال العنف.
وهكذا، فإنه كما أدى تردد قيادة حزب المؤتمر الهندي في التعامل الإيجابي مع مشكلة الانقسامات الدينية والقومية إلى تقسيم شبه القارة الهندية، فإن الإجراءات التي اتخذها الرئيس الباكستاني أيوب خان لقمع التنوع والاختلافات داخل باكستان من خلال قيامه بتعطيل أعمال الجمعية الوطنية المنتخبة، ثم شن الحرب على باكستان الشرقية، كانت هي بالضبط نفس الإجراءات التي أدت إلى تقسيم باكستان ذاتها.
ساحة النقاش