3 - تأثير ثورة الاتصالات على التعصب :
وعلى عكس ما قد يكون شائعا، فإن خطورة الصراعات العرقية والطائفية والقومية تزيد في المجتمع الحديث، وذلك بسبب التقدم الحادث في وسائل الاتصالات والمواصلات. فمع تقدم المجتمع وانتشار المعرفة والتعليم ووسائل الاتصال الحديثة، يصبح أبناء الجماعات الأقل تميزا أكثر إدراكا لواقع التمييز الذي يعانون منه. فمن خلال انتشار المعرفة والتعليم ووسائل الاتصال تتوافر لهم معلومات ومعارف يستنتجون منها أن ما يعانون منه من اضطهاد ليس ظاهرة فردية، وإنما هو ظاهرة جماعية يتعرض لها كل من يشاركهم العرق أو اللغة أو الدين. كما يتعلمون أكثر عن الجماعات التي تضطهدهم، فتتكون لديهم تدريجيا مشاعر التضامن الجماعي، وأيضا مشاعر العداء للآخر. كما أن توافر المعرفة يتيح لهم رؤية الحال في مجتمعات أخرى لا يتعرض فيها أقرانهم لمثل ما يتعرضون له، فيتعلمون أن الوضعية المفروضة عليهم ليست قدراً محتوماً، وأن هناك إمكانية لتغييرها.
وفي مرحلة تالية تتكثف أحاسيس الشعور بالاضطهاد لدى الجماعة. ويبدأ مثقفوها بالبحث في الماضي البعيد عن أصل المعاناة ونقطة بدايتها. وعادة ما ينجح هؤلاء المثقفون في إيجاد وقائع في التاريخ القديم يعتقدون أنها تشرح وتفسر لهم ما يتعرضون له. فيُختصر تاريخ الجماعة كله في هذه الوقائع، ويجري نسج الخيالات والأساطير حولها، فتكتسب هالة من القداسة لا يمكن معها مناقشتها مناقشة موضوعية جادة. فيصبح تدارس هذه الأساطير وتداولها سببا في إثارة الكراهية للآخر والحماس للانتقام منه في نفس الوقت.
وفي مرحلة ثالثة، يفقد الفرد من أبناء الجماعة فرديته، ويتوحد تماما مع جماعته، فيحب ما تحب ويكره ما تكره، ويفقد القدرة على إعمال عقله بموضوعية فيما يقال له، وتصبح خبرة الجماعة هي خبرته الذاتية، فيتحدث عن واقعة جرت قبل أن يولد بقرون طويلة مستخدما ضمير المتكلم، فتسمعه يقول وهو يتحدث عن الجماعة الأخرى التي أصبحت موضعاً لكراهيته وحقده، لقد هاجمونا في موقعة كذا، وعندما قاومناهم، قتلونا وعذبونا، فتظن وأنت تسمعه أنه كان هناك، وأنه حارب في تلك الموقعة، وأنه كان من بين من قاسوا التقتيل والعذاب. عند هذه اللحظة ينقسم العالم لديه إلى نحن و هم، فيصبح عاجزا عن التفكير والتعبير من دون أن يستخدم هذه الثنائية، ومع أن هذا الثنائية البسيطة تختصر كل العالم إلى فئتين اثنين، مما يجعلها شديدة السذاجة والبساطة، فإن هذه البساطة نفسها هي التي تتيح للأساطير حول الأنا والآخر و هم ونحن الانتشار والشيوع بين جموع البسطاء.
وفي المرحلة الرابعة يتحول الموقف المعادي للآخر إلى عقيدة راسخة لا تقبل النقاش، أي أنها تتحول إلى رؤية كاملة للتاريخ والعالم، فيعاد تفسير التاريخ كله من منظور صراع الجماعة مع الآخر، كما يجري تقسيم العالم إلى أعداء وأصدقاء بناء على الموقف من الصراع مع الآخر، وهي رؤية تبسيطية ترى العالم مقسما بين أبيض وأسود، وتكون عاجزة عن رؤية التنوعات الكثيرة والمعقدة الموجودة في العالم المليىء بما لا حصر له من درجات اللون الرمادي.
عند هذه المرحلة أيضا يبدأ مثقفو الجماعة في اكتشـاف مزايا الجماعة، فيأخذون في إطلاق صفات الشجاعة والعبقرية والتميز والكرم عليها، فيجتزئون من التاريخ والقصص الشعبي وعادات الجماعة وتقاليدها ما يؤكد هذا من الوقائع والأحداث. في نفس الوقت فإنهم يأخذون في إطلاق خبيث الصفات على الآخر، فهو خسيس ونذل ومتآمر وبخيل ومتوحش، حتى تظنهم وأنت تسمعهم يتحدثون عنه إنما يتحدثون عن كائنات غريبة لا تنتمي لجنس البشر.
ولظاهرة إطلاق الصفات على الآخر دور خطير في تصعيد واستمرار الصراعات. فإطلاق الصفات السلبية على الآخر يجعل لصراعنا معه قيمة أخلاقية، بحيث أننا عندما نتصارع معه فإننا نكون في صراع مع قيم الطمع والحقد والهيمنة التي يمثلها، الأمر الذي يعطي لموقفنا قيمة أخلاقية ومعنوية عالية، ويبرر تشددنا في مواجهته ورفضنا التفاهم معه.
فما يحدث عادة هو أن الناس ينسون تدريجـيا السبب الأصلي للصراع، أي الصراع على المصالح والموارد والمكانة، ويتعاملون مع الصفات السلبية التي أطلقوها على الآخر، باعتبارها السبب الرئيسي، وربما الوحيد للصراع. فما أن تبدأ مسيرة إطلاق الصفات السلبية على الآخر، فإنها لا تتوقف. فبعد أن كان الجيل الأول من الصفات السلبية التي تم إطلاقها على الآخر قريبة بهذا القدر أو ذاك من السبب الأصلي للصراع على المصالح والموارد، فإن الجيل التالي من الصفات السلبية يأخذ في البعد تدريجيا عن السبب الأصلي للصراع، فيضاف البخل إلى الطمع، وتضاف الكراهية إلى الحقد، وتضاف الوحشية والقسوة إلى حب السيطرة.
وفي مرحلة ثالثة يضاف إلى الأوصاف السابقة جيل إضافي من الصفات، ينصرف هذه المرة، ليس إلى مجموعة الصفات المتعلقة بموقف الآخر منا أو من أي جماعة مختلفة عنه، ولكن إلى خصائصه هو نفسه، بغض النظر عن عـلاقته بنا أو بغيرنا. ففي هذه المرحلة تطلق على الآخر أوصاف سلبية من نوع أن رائحته كريهة، وأنه يتسم بالقذارة وعدم الاعتناء بالنظافة الشخصية، وأنه منحل أخلاقيا، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية، وأنه شهواني يبالغ في الاهتمام بالمتع الحسية، وأن أفراده يتسمون بالغباء وقصر النظر، أو أنهم كسالى لا يحبون العمل.
ساحة النقاش