تحية لروح التعاون التطوعي في مدينة جدة
كشفت الفيضانات التي اجتاحت مدينة جدة قبل أسبوعين عن تقصير إداري في بعض الإدارات المختصة بالخدمات البلدية والبيئية في المدينة. وبقدر ما يحزن المرء على أعداد الضحايا والمفقودين الذين فقدوا حياتهم ثمنا لهذه الكارثة التي ضربت مدينة جميلة مثل جدة، بقدر ما يعجب بشجاعة وأعمال بعض الأفراد من الدفاع المدني والغواصين الذين كانوا يقذفون بأنفسهم في مجرى السيل لإنقاذ حياة رجل يقف فوق سيارة أو يتعلق بعمود للكهرباء، وغير ذلك من المناظر المأساوية التي نراها ونشهدها كل يوم على مواقع الإنترنت المتلفزة.غير أن خلف هذه المآسي تبرز صور إنسانية رائعة لأفراد ضحوا بأنفسهم من أجل إنقاذ الآخرين، وأعطوا الحياة لأناس لا يعرفونهم مقابل أن يفقدوا حياتهم هم أنفسهم. ومثال على ذلك السيد (فرمان علي خان) باكستاني الجنسية، الذي أنقذ حياة أربعة عشر شخصا معظمهم من السعوديين، كانوا على حافة الغرق، وفي محاولته الخامسة عشرة، انقطع الحبل الذي كان يتعلق به، ليفقد نفسه وتنتقل روحه إلى بارئها، تاركا وراءه زوجة وثلاث بنات صغيرات، فقدن والدهن الذي مثل أروع صور التضحية، وكانت إنسانيته أكبر من خوفه أو تشبثه بالحياة، فالتحية والانحناء لهذا الرجل العظيم، وأمثاله الكثر.
والتحية أيضا لسيدة عجوز بلغت من العمر خمسة وتسعين عاما أبت إلا أن تشارك أبناءها وبناتها في التوجه إلى نادي جدة التطوعي، لتشترك في ملء الأكياس بالأرز ليتم توزيعه على المحتاجين الذين شردتهم السيول.
والتحية أيضا للأعداد الغفيرة من المتطوعين من كل سبل الحياة الاجتماعية في جدة، طلابا وتجارا ونساء ورجالا جاؤوا هرعين إلى مراكز التطوع في المدينة ليجمعوا الأغذية والأغطية لتوزيعها على المتضررين.
تحية حقيقية لأناس ذهبوا إلى المناطق المنكوبة في جدة لتنظيفها من الطين وغسل المرافق العامة من المساجد والمدارس والبيوت وغيرها، كي يعود سكانها إليها آمنين سالمين.
هذا العمل التطوعي الجبار هو بالفعل غار على جبين سكان جدة الذين أبوا إلا أن يقفوا في صف واحد مع أشقائهم من المنكوبين. وحتى أستاذات الجامعات راحوا يزورون الأسر المتضررة ويواسونهم. وانبرى عدد من المختصين والمعالجين النفسيين يقدمون العلاج للأفراد الذين أثرت هذه الكارثة على نفسياتهم وجعلتهم يعيشون في قلق من ما حل بهم من كارثة، ذهب فيها بعض من أحبتهم من آباء وأبناء وأمهات.
هذا العمل التطوعي الجبار يجب أن نحييه بكل كلمة أوتيناها غير أن التحية ليست كافية، فهناك عمل جبار ينتظر هؤلاء المتطوعين. فنحن نعيش في مجتمعات اعتادت أن تقدم لها حكوماتها كل ما تحتاج إليه، وهي تفعل ذلك، ولكن حين تحدث الأزمات، فإن هناك حاجة لمشاركة القطاع الأهلي والشباب والشيبان في الخدمة الإنسانية الاجتماعية. ونحتاج في هذا المجال إلى تنظيم قانوني ينظم عمل الجمعيات التطوعية في مدن المملكة، كما نحتاج إلى تعاون الجهات الرسمية من الدفاع المدني وجمعية الهلال الأحمر وغيرها من الجمعيات والهيئات الرسمية، كي تساعد جمعيات التطوع وتدرب منسوبيها من المتطوعين على أعمال الإغاثة سواء في البر أو في البحر.
يجب أن يعرف كل متطوع مواقع المستشفيات والمراكز الصحية في مدينته، والطرق المؤدية إليها، ويجب أن يعرف كيف ينقل المصاب إلى حيث يحصل على العلاج المناسب بشكل طبي صحيح. وحين تدخل دول الخليج العربية إلى صناعة المفاعل النووية، فإن مجموعات التطوع المدنية تحتاج أيضا إلى جرعات مكثفة من التدريب للتعامل مع أخطار الإشعاع النووي والحوادث النووية، لا قدر الله حدوثها. فالمتطوعون هم لبنة مهمة في دعم مجتمعاتهم وقت السلم وفي وقت الحرب، ولكن الجزئية المفقودة هي حالة التدريب والتهيئة لمواجهة الكوارث والأخطار حين حدوثها. وكل ذلك يتطلب تنسيقا كبيرا بين الجهات الرسمية وبين جهات التطوع وجمعياته ونواديه.
ويمكن استغلال فترات الإجازة الصيفية والإجازات المدرسية الأخرى في توجيه هؤلاء الشباب إلى أعمال مفيدة وتدريبات يمكن أن تكون شاقة لتهيئتهم، لا قدر الله، مستقبلا للتعامل مع مثل هذه الأخطار، من زلازل وأعاصير وفيضانات وغيرها من الكوارث.
وفي النهاية، فإن العمل التطوعي لا ينتهي، فمكاتب المحاماة في مدينة جدة يجب ألا تتقاعس عن أداء واجبها الإنساني، في تقديم الدعم القانوني المجاني، وحتى اللجوء إلى المحاكم لتنفيذ بنود عقود التغطية التأمينية على الحوادث للسيارات والممتلكات الخاصة التي تضررت جراء هذه الفيضانات. وطالما دفع أصحاب هذه الممتلكات أموالهم للحصول على تغطية تأمينية لسياراتهم ومنازلهم، فإن من حقهم أن يحصلوا على التعويضات المناسبة من هذه الشركات.
والخوف كل الخوف أن تنجح هذه الشركات في أخذ أموال المؤمنين، دون أن تقدم التغطية المالية الضرورية لهؤلاء الناس، وقد توجد تخريجات قانونية لتتملص من المسؤولية. ولذا كان الدور الهام على مكاتب المحاماة لتقديم الاستشارات القانونية المطلوبة لهؤلاء المتضررين.
ولقد أثبت هؤلاء المتطوعون بنخوتهم وتدافعهم لإنقاذ الآخرين، أن أهل جدة غير.
ساحة النقاش