وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية
20 من ذي القعدة 728هـ
مفكرة الإسلام: الشيخ الإمام، العلم العالم العلاَّمة، الفقيه الحافظ، المجاهد العابد، المجتهد المطلق، الزاهد القدوة، شيخ الإسلام، وإمام المتأخرين قاطبة، الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني الدمشقي، ولد سنة 661هـ بحرَّان، ثم تحول به أبوه إلى دمشق سنة 667هـ، فأخذ في تحصيل العلم بنهم وإقبال كبيرين، وتفقه وتمهر في المذهب الحنبلي، وسمع من علماء الوقت، وكان ذا حافظة خارقة لا يسمع شيئًا إلا حفظه، حتى فاق الأقران وصار أعجوبة في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والإحاطة بمذاهب السلف والخلف.
كان ابن تيمية متبحرًا في فنون كثيرة خاصة في التفسير والفقه والعقائد واختلاف العلماء، وكان إذا تكلم في فن من الفنون ظن السامع أن هذا الفن فنه من شدة إتقان ابن تيمية لهذا الفن، وكان أعلم بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه، كما كان متبحرًا في النحو واللغة، وقد تأمل كتاب سيبويه واستدرك عليه العديد من الأخطاء، وما ناظر ابن تيمية أحدًا إلا قطعه وغلبه.
ولابن تيمية الكثير من المصنفات العظيمة والنافعة في شتى الفنون، منها: مجموع الفتاوى وهو من أضخم المصنفات في الإسلام، إذ يبلغ 37 مجلدًا ضخمًا، وله في العقائد: الواسطية والحموية والصفدية والتدمرية والصارم المسلول والرد على المنطقيين ودرء تعارض العقل والنقل، وله مصنفات غير ذلك مثل الوسيلة والفرقان، وكلها كتب نافعة مباركة مازالت تطبع وتدرس حتى الآن وعلى نطاق واسع، ولها أثر كبير واضح في فكر التيارات الإسلامية المعاصرة.
كان ابن تيمية من أشد الناس على الصوفية والشيعة وأصحاب العقائد المخالفة لأهل السنة، وله مساجلات وحوارات شهيرة مع خصومه، وكان ابن تيمية شديد الوطأة على خصومه يفحمهم في الرد إفحامًا شديدًا، مما أورثه عداوة الكثيرين فبالغوا في الوقيعة فيه وذمه، وأشاعوا عنه الأكاذيب والأباطيل وافتروا عليه كثيرًا وأغروا به السلطان حتى سجن عدة مرات بدمشق والقاهرة والإسكندرية، وهو ثابت على الحق لا يتزعزع فيه، وكان الذي تعصب عليه خليط من أتباع الطرق الصوفية والمتعصبين من أتباع المذاهب الفقهية والأشاعرة، وقد قهرهم ابن تيمية بالعلم والحجة والبرهان والعمل والجهاد، ولما لم يقدروا عليه لضعف بضاعتهم في العلم والعمل ألبوا على السلطة وضيقوا عليه بقوة السلطان، حتى أنه كان ينادى في دمشق: أنه من اعتقد عقيدة ابن تيمية قتل وحل دمه وماله، والعجيب أن شيخ الحنفية كان يتعصب لابن تيمية وشيخ الشافعية يسكت عنه، أما شيخ المالكية «ابن مخلوف» فكان من أشد الناس عليه وسعى في قتل ابن تيمية عدة مرات، ولم يسجن ابن تيمية بسبب العقيدة السلفية فقط بل بسبب فتاويه في باب الطلاق وشد الرحال للزيارة، والجدير بالذكر أن اجتهاداته الفقهية صارت بعد ذلك المختارة والمعول عليها في العصر الحديث.
وعلى الرغم من مكانته العلمية السامقة إلا إنه كان مجاهدًا كثير الغزو وله أيدي بيضاء في قتال التتار يوم شقحب سنة 702هـ، وله مواقف قوية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصح وإرشاد حتى لزعيم التتار نفسه «قازان»، وجراءته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت إحدى أسباب حسد العلماء عليه، لأنه كان لا يخاف في الله لومة لائم ولا يدع كبيرًا ولا صغيرًا إلا أمره ونهاه.
كان لابن تيمية تلاميذ صاروا من أكابر علماء الإسلام مثل ابن القيم وابن كثير والذهبي وابن عبد الهادي والحافظ المزّي، في حين لم يكن لخصومه ذكر ولا أثر بين الناس، وقد ترجم له تلميذه الذهبي ترجمة حافلة ما ملخصها: «ما رأيت أسرع منه انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه، هذا مع ما كان عليه من الكرم والفراغ من ملاذ النفس ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوالاً بالحق لا يأخذه في الله لومة لائم، لم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه، ولولا حدته وشدته على خصومه لكان كلمة إجماع، فإن كبارهم خاضعون لعلومه معترفون مقرون بندور خطئه، وأنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له». وله ترجمة حافلة وسيرة كاملة أوردها تلميذه ابن عبد الهادي في كتابه «الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية».
وبالجملة كان شيخ الإسلام ابن تيمية من كبار علماء الإسلام وأعلامه ومجدد المذهب السلفي في العلوم الشرعية ومجتهدًا مطلقًا، اجتمعت فيه كل أدوات الاجتهاد، سبق زمانه وقصر عنه معاصروه الذين تحزبوا عليه بجهلهم وبدعهم وتعصبهم وتمسكهم بالجمود، فصار اجتهاده عندهم مروقًا وفتاويه عندهم ضلالاً ومروقًا، حتى أن بعضهم وهو علاء الدين البخاري قد أفتى بكفر ابن تيمية وكفر من يقول عن ابن تيمية أنه شيخ الإسلام، وهذا الأمر من ذروة التعصب المذموم، وقد مات شيخ الإسلام في سجنه بقلعة دمشق في 20 من ذي القعدة سنة 728هـ بعد أن ختم القرآن ثمانين ختمة وفاضت روحه وهو يتلو قوله: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ﴾[القمر:54]. وكانت جنازته ضخمة حافلة من أكبر الجنازات التي شهدتها دمشق، فرحمه الله رحمة واسعة.
ساحة النقاش