بين عامي 1898 و1973 عاش الشاعر عزيز أباظة، وعندما رحل عن خمسة وسبعين عامًا، كان قد خلّف خمس مجموعات شعرية، أولاها ديوانه «أنات حائرة» الذي نشره في حياته، ويضم قصائده وبكائياته في زوجته الأولى التي هيأت له حياة سعيدة وعلاقة حب من طراز نادر (وهو أول ديوان في الشعر العربي يخصصه صاحبه لبكاء زوجته وقد تابعه في هذا الأمر شاعران هما عبدالرحمن صدقي وطاهر أبوفاشا)، أما المجموعات الأربع الأخرى فقد جمعها ونشرها صديقه الفنان أنور أحمد - بعد رحيله بعام واحد - وهي: «من الشرق والغرب، وتسابيح قلب، وفي موكب الحياة، وفي موكب الخالدين»، بالإضافة إلى مجموعة أخيرة أبدعها في أخريات أيامه وعنوانها: «إشراقات من السيرة العطرة».
ولعزيز أباظة تسع مسرحيات شعرية حققت له مكانة في إبداع المسرح الشعري، باعتباره القمة أو القامة الثانية بعد شوقي الرائد الأول لهذا الفن الشعري في العربية، وصنع أباظة صنيع أستاذه ومثله الأعلى أحمد شوقي في استلهام التاريخ ليكون إطارًا لمسرحياته، وهي: قيس ولبنى (على غرار مجنون ليلى لشوقي)، والعباسة، والناصر، وشجرة الدر، وغروب الأندلس، وشهريار، وقافلة النور، وقيصر. أما «أوراق الخريف» فمسرحية عصرية.
وفي هذه المسرحيات يتجاوز عزيز أباظة الأفق الدرامي لأحمد شوقي، ويتفوق في إحكام رسم الشخصيات المسرحية، والتعمّق في تصويرها، وتحرره من الوحدات التقليدية الثلاثة: الزمان والمكان والحدث.
وإن لحقت به التهمة التي وجّهت من قبله إلى شوقي وهي طغيان النزعة الغنائية. لكن شوقي يحتفظ بفضْل السبق والريادة وصُنع النموذج والمثال. ولقد أتيحت لعزيز أباظة ظروف حياة رخيّة، في ظل أسرة كبيرة ميسورة، وتعليم أوصله إلى التخرج من كلية الحقوق، وحياة اجتماعية أدبية حافلة، أتاحت له أن يكون قريبًا من رموز عصره من الكتاب والشعراء والمفكرين - أصدقاء أعمامه - من أمثال الشيخ عبدالعزيز البشري وشاعر النيل حافظ إبراهيم ومحمد السباعي، ومثله الأعلى في الشعر وأستاذه فيه أحمد شوقي، الذي كان يعده خليفة له، كما كان يأخذ بيده ويوجهه في سنوات إبداعه الأولى، عندما لمس فيه نبوغه المبكر وموهبته الشعرية البازغة، وتمكّنه من لغته التي يبدع بها ويعبر عن أشواقه وخلجات وجدانه، نتيجة لاطلاعه الواسع، وتمثله لكتابات كبار الأدباء والشعراء القدامى والمحدثين. وستلازمه هذه الصفة المميزة (تمكنه من اللغة)، وبخاصة بعد عضويته في مجمع اللغة العربية، ومشاركاته في قضايا اللغة والثقافة العربية طوال سنواته المجمعية على مدار أربعة عشر عاماً، تناول فيها قضايا المسرح الشعري ولغة الشاعر والفصحى والعامية من زاوية جديدة كما قدّم دراسة عن المستعرب الألماني إنّو ليتمان عندما خلفه في عضوية المجمع. وقد استقبله العقاد الذي سبقه إلى المجمع بقوله: «إنه اهتم بالقدرة ولم يهتم بالتقدير، فلم يعرف الراصدون هذا الكوكب إلا وهو في برجه الأسمى، قد جاوز جانبي الأفق، وأصعد في سمت السماء».
كما امتلأت حياة عزيز أباظة بما جعله شديد الانغماس في حياة المجتمع والقيام بدور كبير في حياته الثقافية والأدبية والإدارية، فبالإضافة إلى عضويته في مجمع اللغة العربية، اختير عضوًا في المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وحصل على جائزة الدولة التقديرية. واتسعت هذه الحياة ليكون عضواً في مجلس النواب، ومديراً للقليوبية والفيوم والمنيا ومحافظاً وحاكماً عسكريًّا لمنطقة القناة، ومديراً للبحيرة ثم أسيوط، وعضواً في مجلس الشيوخ، بالإضافة إلى مشاركاته في مهرجانات الشعر العربي في مصر وفي خارج مصر، ودوره في توجيه الحياة الشعرية حين أصبح رئيساً للجنة الشعر بعد رحيل رئيسها الأول عباس محمود العقاد، واستمراره في المحافظة على المبادئ والأسس التي كانت تحكم نظرة العقاد إلى الشعر. وربما بسبب هذا الموقف المحافظ لعزيز أباظة، الذي لم يكن مرحِّباً بحركة التجديد في الشعر - شأنه شأن العقاد، وبسبب ارتباط اسمه ارتباطاً شديداً بشوقي ونهجه في كتابة المسرح الشعري، فقد لحق به كثير مما كان يوجه إلى العقاد وشوقي من نقد واتهامات في العقود التي توسطت القرن العشرين بالإضافة إلى بروز العنصر اللغوي في شعره، وهو ما كان يحول بين انتشار هذا الشعر وذيوعه لدى الجمهور العام للشعر، الذي وجد في كثير من قصائده حرصاً على استدعاء المعجم الشعري التراثي للقصيدة العربية الكلاسيكية، في الوقت الذي كان شعراء المهجر وجماعة أبولو والشعر الجديد قد هيّأوا الذائقة الشعرية للغة أكثر يُسْراً وعصرية وأقرب إلى لغة الحياة العامة.
لكن هذا الأمر لم يحل بين نماذج من شعر عزيز أباظة والناس، حين اختار محمد عبدالوهاب قصيدته «همسة حائرة» ليتغنى بها، الأمر الذي جعلها واحدة من كلاسيكيات الغناء الحديث. والطريف أن القصيدة في الأصل جاءت على لسان قيس بن ذريح في مسرحية عزيز أباظة «قيس ولبنى»، لكنها أصبحت في الغناء قصيدة تتكلم عن شط النيل وهمسات الماء ولقاء الحبيبين على الضفاف، بعد أن كانت تدور حول ليل الصحراء ومفرداتها وأوابدها في المسرحية، ونجح الشاعر في أن يضفي على قصيدته جوّ الحب العصري بعد أن كانت قصيدة صحراوية في المسرحية. يقول عزيز أباظة:
يا منية النفس ما نفسي بناجيةٍ
وقد عصفْتِ بها نأْيًا وهجرانا
أضنيْتِ أسوان ما ترقى مدامعه
وهجْتِ فوق حشايا السهد حيرانا
يبيت يودع سمع الليل عاطفة
ضاق النهار بها ستْرًا وكتمانا
هل تذكرين بشط النيل مجلسنا
نشكو هوانا فنفنى في شكاوانا
تنساب في همسات الماء أنّتُنا
وتستثير شجون النهر نجوانا
وحولنا الليل، يطوي في غلائله
وتحت أعطافه نشوى ونشوانا
لم يشهد الرافد الفضيُّ قبلهما
إلفيْن ذابا تباريحاً وأشجانا
نكاد من بهجة اللقيا ونشوتها
نرى الدُّنا أيْكةً، والدهر بستانا
ونحسبُ الكون عُشَّ اثنين يجمعنا
والماء صهباءَ، والأنسام ألحانا
لم نعتنق والهوى يغري جوانحَنا
وكم تعانق روحانا وقلبانا
نُغضي حياءً، ونُغضي عفّةًَ وتُقىً،
إن الحياء سياجُ الحبِّ مذ كانا
ثم انثنيْنا، ومازال الغليل لظًى
والوجدُ محتدمًا، والشوقُ ظمآنا
هذه الغنائية المتدفقة، وجمال التقطيع، والفواصل التي تشكل وقفات نفسية وإيقاعية، هي بعض خصائص شعر عزيز أباظة العاطفي، وبعض سمات شعره في التأملات والرحلات والبكائيات والوطنيات، وشعر التجليات والرؤى الروحية والكونية.
وهو في تقديمه لقصيدته «يا حبيبي» يشكو من «تداول كلمة» ياحبيبي «على ألسن الناس حتى لكادت من قدسيتها أن تبتذل»، يقول:
لجَّ بي طاغٍ من الوجـ
د، وللوجد أوارُ
فإذا نفسيَ حرَّى،
وفؤادي مستطارُ
ومآقيَّ يجول الد
مع فيها ويحارُ
أيُّ إعصارٍ من الشـ
وق وقد بان المزارُ
كلما طفْتُ ودارت
بي جِواءٌ وبحارُ
ثم ضمّتني من
المدْنِ صغارٌ وكبارُ
كلُّ جنات بلادٍ - عطـ
لتْ منكِ - قفارُ
لا أرى فيهنَّ إلا
أنتِ والخلقُ كِثارُ
أنـت هـمّي مـا دجا
الليل، وما لاح النهارُ
***
تنساب موسيقاه هادئة ناعمة، كأنها تلامس العمق أو القرار، فتحدث تأثيرها المدغدغ للحواسّ، وتنشر عطرها الفوّاح في كلِّ زاوية وموضع، وكأنها موسيقى تُلمس وتُشمُّ وتضُمّ، لأنها تساوقُ حياة شعرية مفعمة، وتنطق بها لغة شعرية مُحكمة، يقول في قصيدته: «كيف أدعوكِ؟»:
كيف أدعوكِ لا أقول منى النَّفْـ
ـسِ، ونعْماءَها، فإنكِ نفسي
وأنا أنتِ، إنّ روُحيَ في رُوحِـ
ـكِ تفنى، وإن حِسَّكِ حِسِّي
ما خلوْنا إلا تساءلْتُ هل هَمْـ
ـسُكِ هذا القدسيُّ أم هو همْسي
لفَّ أعراقَنا الهوى، وطوانا
فأمِنّا سُعارَ جِنْسٍ لجِنْسِ
حسْبيَ النظرةُ الشهيةُ، تُلقى
لُمَعَ النور في غياهبِ يأسي
وحديث كأنه من صلاة الـ
ـلهِ ذو طابَعٍ وعَرْفٍ وجَرْسِ
***
أتراءاكِ والدُّجى مُسْبَلُ السِّتْـ
ـرِ، على الكونِ مُستسرُّ الجفونِ
في زُها البدر، في حياء الثريّا
في صلاة الأطيار فوق الغُصونِ
في سقيط النّدى يُطلُّ به النَّبْـ
ـتُ، فَيروي عن سرِّه المكنونِ
نور عيني، مذ وادع الدمعُ عيني
غِبَّ نومٍ مُرْدٍ ورُزءٍ طحُونِ
كنتِ برْداً لقلبيَ المحزونِ
ثم كُنتِ الحياةَ حاليةَ الأَفْـ
وافِ ريّا الأعطافِ شتَّى الفنون
قِبلتي أنتِ حيث أضربُ في الأر
ـضِ، فصوني أمانتي واذكريني!
وفي قصيدته «أشواق» عوْد إلى المعجم الشعري الذي تأثر به عزيز أباظة في تكويناته وقراءاته الأولى، والتفات إلى لغة شعرية عامرة بالبيان الساطع والصياغة الجزلة والأداء المحكم، حين يقول:
خميلةٌ في حواشي النيل مونقةٌ
يلفُّها الضاحكانِ: الروضُ والماءُ
منضورة طلْقةُ الأعطاف راوحها
بالضمِّ صبحٌ وبالتقبيل إمساءُ
كأنما من شعاع الراحِ، نَمْنَمها
مُجوِّداً، عبقريُّ الفنِّ وشّاءُ
تُمسي، وتُضحي بها سمراء لاعبةٌ
كأنها فتنة يقْظَى وإغراءُ
تمشي، تهادي دَلالاً، خطْوَ مُترفةٍ
لفَّاء، وهي هضيم الكشْحِ، هيفاءُ
إذا انتشت عند صدر الليل فهي رَشًا
وحين تجلو هواديه فَرقْطاءُ
تُلقي الحديثَ، خفيفَ الجرْسِ، مُنْخَزلا
كأنما يعتريها فيه إغفاءُ
وقد تُساعفُ عيناها فتكملهُ
إن البلاغة تكسيرٌ وإيماءُ
يا جارة النيل في عُليا زمالكهِ
حيث الضحى ذهبٌ والليلُ لألاءُ
أبثُّكِ الشوقَ مشبوباً، تُساقطه
على مغانيكِ أرواحٌ وأنداءُ
تُرى، أعهديَ مرعيٌّ، أم انبعثتْ
تمضي إلى لذة التغيير حواءُ
وإن حواء والدنيا بفتنتها
سحرٌ، وعرْفٌ، وأنغامٌ، وصهباءُ
طِلَّسْمُ دهرٍ، فلن تُجْلَى له حُجبٌ
ونحن للضعف والأهواءِ أنضاءُ
إليكِ أشكوكِ، والشكوى لذي جَنفٍ
ضراعة يتحاماها الأعزّاءُ
لم تهْفُ لي منكِ مذْ بِنّا مُحبّرةٌ
كأنها من نشيد الخلدِ أجزاءُ
مخمورة الشوق جالت في رقائقها
يدٌ مُقبلةُ القفّاز بيضاءُ
مسْكيّةٌ الرَّقْم تَسْنى في غلالتها
كأنَّ أحرفها السوداءَ أضواءُ
أطالعُ الصبح مطويًّا على شجنٍ
فإن دجا الليلُ فالظلماءُ رمضاءُ
وأسأل البرْقَ، هل وافت نوابضُه
والطائراتِ أفيها عنْكِ أنباءُ
وصولاً إلى قوله:
زيدي جفاءً وحسبي أنني رجلٌ
أنتِ الهواءُ له، والشمسُ، والماءُ
وأنَّ عيني ترى الأيامَ مُحسنةً
إذا تراءتْـكِ، والأيـامَ أعداءُ
وأنَّ قلبي، وإن صارمْتِ مُتَّلهٌ
وأنَّ أذُني إذا عابوكِ صمّاءُ
هذا شاعر كبير القامة والمقام. لم ينصفه عصره، وهو صاحب الإنجاز المسرحيّ الشعري الباذخ، والمجموعات الرصينة البديعة من الشعر الغنائي، لم يلتفت إليه أصحاب النقد الجديد، الذين رأوا في الاقتراب منه مُصانعة للأرستقراطية، ولم يُشغل به أصحاب النقد الإيديولوجي رفضًا منهم لطبقته الاجتماعية وهم العاكفون على الكادحين والمستذلين، ولم يقرأ له البنيويون صفحة واحدة من مسرحياته الشعرية أو دواوينه، فسقط في المابيْن، لكنّ زمنًا قادمًا سوف يُنصفه.
فاروق شوشة
ساحة النقاش