شاع مصطلح "الثقافة الرقمية" خلال الفترة الأخيرة, ويعنى الإشارة إلى معطيات ثقافية جديدة من جراء استخدام التكنولوجيا الالكترونية الجديدة, وما نتج عنها من هوة فاصلة بين الدول المتقدمة والدول الفقيرة التي تعرف ب "الفجوة الثقافية".

فالصورة بشعة, والفجوة بين الدول الغنية والفقيرة مخيفة. منذ قرنين كانت الفجوة ضيقة, متوسط الدخل في أمريكا وأوروبا, يكاد يقارب الدخل في الصين. وعلى أثر الثورة الصناعية بدأت تتسع الفجوة, حتى أصبحت 72 مثل في عام 1992م.. واستمرت.

وهو ما دفع العقل العربي المعاصر النظر إلى ضرورة التوقف والبحث في جوهر "القضية". فالحضارة بكل معطياتها ليست ظاهرة "غربية", وهو ما ردده "أوجسنت كونت" الألماني من قبل, مؤكدا أنها ظاهرة كونية (عاش الإنسان من الفوضى إلى الانعزال إلى الانتظام إلى الاتصال_ وهى المرحلة التي تعيشها البشرية الآن, وزادت بعد كونت).

ويدعو "حسن حنفي" إلى توظيف جوهر "العولمة" و"المعلوماتية" للكشف عن الماضي بشقيه التراثي والتاريخي, بل يعده مطلبا ثوريا في وجداننا المعاصر.

إلا أن "كمال أبوديب" له رؤيته في كون "الحداثة" بكل معطياتها ودلالاتها, حيث يتسع نطاقها إلى الأدب والفن والتكنولوجيا.. لا تاريخية, وأن مكونتها لا زمانية, وهو بذلك يميل إلى مرجعتها العلمية "الغرب".

في المقابل, هناك أقلام غربية/أمريكية منهم "صموئيل هانتيجتون" في مقاله "الغرب", يرفض أن العالم يسير نحو ثقافة واحدة, وأن انتشار السلع الاستهلاكية لا يعنى غلبة الثقافة والفكر الغربي.. لأن البلدان تلوذ ب "ثقافتها الخاصة, ودياناتها الخاصة", ومن حاول العكس يمزق, ثم ضرب بمثل دولتي الاتحاد السوفيتي القديم وتركيا.

بينما يرى"د.نبيل على" الاعتماد على الأخذ بعدد من الأفكار:

.. فكرة الدمج بين الثنائيات.. مثل "العولمة والمحلية" أي "فكر وأفعل عولميا ومحليا", وهى تجربة ماليزيا الناجحة.. وأيضا الجمع بين الاقتصاد التقليدي واقتصاد المعرفة, وهى أيضا تجربة الصين والبرازيل.. ثم هناك التنافس والتعاون, وهو الملاحظ بين شركات التجارة الالكترونية الآن.. وفى التعليم الجمع بين التعليم الرسمي (النظامي) واللانظامى في مراكز التدريب وفى أماكن العمل.. وفى الإعلام, الإعلام التنموي والترفيهي معا…الخ.

.. فكرة تخص مقترحات للتنفيذ.. مثل إقامة تكتل عربي معلوماتي, بعد أن تعذر ذلك فعليا و"المدخل المعلوماتى" كبديل للمدخل الاقتصادي أو الأمني, نقطة بداية للإصلاح العربي من منظور معلوماتي, وأيضا وجب التوقف أمام فكرة التحدي الاسرائيلى المعلوماتى, البحث عن مجال للتميز العربي, سواء البرمجيات التعليمية أو الثقافية أو الحيوية, وتصميم الشرائح الالكترونية المتخصصة.. الألوية للعنصر البشرى أو مواجهة الفجوة التعليمية..وغيرها بالإضافة إلى حصر عدد من التوجهات الإستراتيجية العامة الواجب مراعتها بل وتنفيذها في كل الوطن العربي, منها:

..صناعة محتوى عربية, لا صناعة محتوى عربي.. وهو ما يعنى أن يكون المحتوى عربيا وغير عربي, وبلغات غير عربية وعربية. وهو ما يعنى الاستعانة بالمحتوى الأجنبي, ومخاطبة غير العربي بالمحتوى الجديد, وخصوصا العرب والمسلمين خارج العالم العربي. .. عدم الفصل بين المحتوى الرقمي والتقليدي, حتى يتم إحلال الرقمي محل التقليدي..وهو ما نجح في المجتمعات المتقدمة.

.. صناعة الثقافة, أصبحت من أهم الصناعات في عصر المعلومات, بل وأكثرها ربحية. كما أن صناعة الثقافة العربية, هي ركيزة لم الشمل العربي.

.. تنمية كوادر فنون الكمبيوتر.

.. الاستفادة من الخدمات المجانية المعلوماتية, مثل مواقع الأمم المتحدة والتي ينشر بعضها باللغة العربية.

.. الاهتمام بالبحث المعلوماتى على شبكة الانترنت, مع الاهتمام بالترجمة.

أما في مجال الاتصالات, حيث الاتصال شرط من شروط بقاء الكائن البشرى, بل ومن ضمن حقوق الإنسان مؤخرا, كانت التوصيات, التي منها:

..الانطلاق من مفهوم الاتصال إلى التواصل.

.. البحث في شروط الخصخصة الواجبة, مع توفير جوانب نجاحها, خصوصا أن الطرف الآخر أكثر خبرة في هذا المجال عن الموظفين الحكوميين.

.. توفير فرص النفاذ لمحدودي الدخل, بتقليل كلفة إعطاء التراخيص, لتوفير الخدمات.. مع مرونة في التسعير, وطرق سداد تلك الخدمات.

"خصوصية الشعوب والغزو الرقمي"

أطلقوا على المجتمع الرقمي الجديد عدد من المسميات: "مجتمع المعرفة" حيث تصبح المعرفة أهم مصادر التنمية, ويصبح إنتاج المعرفة من أهم مصادر الدخل القومي – "مجتمع المعلومات" حيث توفر كم هائل من المعلومات, مع محاولات لتوظيفها لصالح المجتمع – "مجتمع التعلم" حيث راجت فكرة التعلم الذاتي بواسطة شبكة الانترنت.

إلا أن السؤال: هل متطلبات المجتمع المعلوماتى الذي نسعى لتحقيقه(في عالمنا العربي), هو كل ما يمكن أن ينسخ عن المعلومات والثقافة الغربية/ الأمريكية؟؟ لا شك أن المجتمعات الرقمية الآن وفرت قدر هائل من المعلومات, إما عن طريق هيئات علمية أو مدنية أو أيديولوجية, عن عمد أو غير عمد, خصوصا بعد تقدم التقنيات التكنولوجية الفائقة التقدم.. أو عن طريق وسائط المعلوماتية التي يمكن حملها ونقلها من بلد المصدر إلى أي مكان آخر في العالم.. وفى كلتا الأحوال ليست كل تلك الهيئات أو الوسائط فوق مستوى الشبهات.

كما أن هناك جانب معرفي, لا يمكن الوصول إليه البتة, وهو ما يمكن أن نطلق عليه المنابع الأصيلة للمعرفة, سواء في المعلومات أو تطبيقاتها, وغير مسموح لنا بذلك (نحن المجتمع الأقل تقدما).ليتجدد السؤال: ماذا علينا أن نفعل الآن في بلدان العالم العربي؟

أما وقد انتهت مرحلة الدهشة, وأصبح في العالم العربي عدد غير قليل من المتخصصين, والعارفين للكثير من أسرار ملامح المجتمع الجديد… فلا حيلة إلا بالوقوف مع النفس وإعادة تقييم الحالة.. قد تعد الفوارق المعلوماتية الآن, أو ما يعرف بالفجوة الرقمية الآن ومستقبلا, مقارنة بيننا وبين المجتمعات الرقمية, من هنا تبدأ المنطلقات الواجب وضعها في عين الاعتبار. كما أن المزيد من الخصوصية للشعوب والبلدان, مع مزيد من الانفتاح على المعطيات الرقمية الجديدة, دون إغفال أحدهما, أو غلبة أحدهما على الآخر. أصبح التعبير "الحفاظ على خصوصية وملامح المجتمعات".. لتصبح القضية: مزيد من الانفتاح على العالم, مع المزيد من رعاية خصوصية الجماعات.

مظاهر "الفجوة الرقمية"

المقصود ب "الفجوة الرقمية" (حسب تعريف د.نبيل على): هي الهوة الفاصلة بين الدول المتقدمة والنامية في الوصول إلى مصادر المعلومات والمعرفة والقدرة على استغلالها.

بذلك تبدو الفجوة الرقمية مرتبطة بعدد من الملامح يمكن بها قياس مدى قوة وقدرة العطاء الرقمي وتوظيفه في المجالات المختلفة.. الاقتصادية التجارية/ المعلوماتية العلمية والمعرفية/ وغيرها. بالتالي تتبدى القدرة على امتلاك تلك القوة الجديدة في عدد المستخدمين, وعدد أجهزة الكمبيوتر, وغيرها.

بداية تؤكد الإحصاءات أن عدد أجهزة الكمبيوتر في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.. يفوق عدد الأجهزة المتاحة في دول العالم أجمع. يمكن الإشارة إلى أن نسبة عدد من لدية جهاز كمبيوتر في الدول المتقدمة هو 315 جهاز لكل ألف فرد في المجتمع. بينما عدد من لدية جهاز كمبيوتر في أفريقيا (الجزء جنوب الصحراء الكبرى) هو 75, - أي أقل من الواحد الصحيح لكل ألف فرد في المجتمع. أما عن عدد المستخدمين: نمت الانترنت منذ عام 1995 إلى 2005م.. من 400 مليون مستخدم إلى مليار مستخدم. وفى بحث مستقبلي أشار إلى أن الدول الثمانية الكبرى سوف تحتكر 80% من نسبة المستخدمين لأغرض المختلفة, بينما ستظل أفريقيا في القاع ولا يزيد نصيبها عن 1% من مستخدمي العالم.

أين رؤية العرب من المجتمع الرقمي؟

أما وقد تأكد الآن من وجود "فجوة رقمية", على رأس الهرم منها الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتل ثلثي الهرم, بينما المجتمع الأوروبي واليابان وبعض الدول المتقدمة تحتل السواد الأعظم من البقية الباقية, أليس من المجدي الآن قبل غدا حول رؤية عربية تجاه تلك المعضلة, التي يحتمل زيادة فجوتها لا تقصانها, خصوصا أن ملامح المجتمع الرقمي تفرض وجودها يوما بعد يوم, وهو ما يفرض واقعا جديدا سيفرض عناصر قوة جديدة, ومؤثرات أخرى, أهمها تلك التي تلعب دورا في التنمية؟؟

بداية تأكدت رؤى مختلفة تجاه الفجوة الرقمية, وباتت على عدة وجوه. فقد نظر إليها السياسيون (بوصفها ضمن قضايا الاقتصاد السياسي, ولا حل لها إلا بالتشريعات السياسية التي تحمى المجتمع من الفوضى المعلوماتية).. ويراها الاقتصاديون (أنها نتيجة عجز عن تحقيق اقتصاد المعرفة, والحل هو تحرير السوق أمام تدفق المعلومات والسلع والخدمات ورؤوس الأموال, ويرون ضرورة الإلزام بالاندماج في الاقتصاد العالمي, وحماية الملكية الفكرية).. كما قال التربويون: ( أنها قضية تعليمية وحلها في توفير القدرة على التعلم الذاتي لاستقلال الإمكانيات التي يوفرها الانترنت وغيره).. والمتخصصون في الاتصالات قالوا: أنها بسبب عدم توافر شبكات اتصال, ويقول رجال حقوق الإنسان: أنها تعبر عن انتهاك حق الإنسان في التنمية, وهو الرأي القريب من رأى الرافضين للعولمة, وأن الفجوة الرقمية تعبر عن قلة الفرصة المتاحة للدول النامية للحاق بالدول المتقدمة. وقد حسم أصحاب الفكر الايديولوجى نظرتهم ما بين القول بأن الفجوة الرقمية شكل من أشكال إمبريالية التكنولوجية, ورأى مدافع عن تلك التكنولوجيا.

يبدو أنه حتى الآن لم تحدد رؤية واضحة للمتخصص العربي, وان برز صوت هنا وآخر هناك, يعبر عن اجتهادات فردية, ولا يعبر عن وجهات نظر فئوية أو جماعية. في المقابل بدى صاحب القرار السياسي هو الأعلى صوتا والأكثر قدرة على تقديم ما يلزم, أو حتى التعبير عنه.. قبولا أو رفضا. فمستخدمو التكنولوجيا الرقمية على أبسط أشكالها (توظيف شبكة الانترنت).. مازال توظيفا محدودا, فرديا.. وليس توظيف منهجي لوضع الخطط والمناهج في ضوء الإحصاءات والتقارير المتاحة.. (يكفى الإشارة إلى نشاط الاقتصاد الرقمي الذي لم يبرز في المجتمعات العربية بعد).

ولا يبقى إلا تجديد السؤال بسؤال آخر.. هل يجب على العرب أن تكون لهم وجهة نظر تجاه الفجوة الرقمية حتى نبدأ في تجاوزها, ولنتأهل للمجتمع الرقمي الجديد؟

أظن أن الإجابة ب "نعم", وهو الأمر الذي سيتيح للجميع فرصة المشاركة, وربما الفهم أو على الأقل محاولة الفهم لمفردات هذا المجتمع من مصطلحات.. ثم البدء في توفير أجهزة الكمبيوتر بأسعار مناسبة, العمل على زيادة عدد المستخدمين له ولفنونه, مع العمل على توفير الثقافة الرقمية. بذلك سوف تقل الهوة المتزايدة.

"العرب في مواجهة بناء اقتصاد المعرفة"

هناك العديد من التجارب الدولية في بناء اقتصاد المعرفة, ويلاحظ أن العرب عموما أقل فاعلية في هذا المجال باستثناء دولة الإمارات (دبي) التي لها تجربتها المتميزة, حتى قيل أنه يصعب نسخها في بلدان عربية أخرى.

التجربة الهندية:

نظرا لاقتراب الأحوال الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الهندي مع المجتمعات العربية, تعد التجربة الهندية من أهم تجارب البلدان التي شاركت في بناء الاقتصاد الرقمي. قيل أن الهند استفادت من النموذج السوفيتي للتنمية العلمية, حرصا منها على اختصار مراحل زمنية تمهيدية, والاستفادة بما تم انجازه قبلها.

بدأت الهند بالصناعات الاستهلاكية, ثم الصناعات الوسيطة وأخيرا انتقلت إلى الصناعات الثقيلة, وهو المنهج المخالف للنموذج التقليدي في بناء مجتمع المعلومات واقتصاد المعرفة الذي يركز على إرساء البنية التحتية للاتصالات.

نجحت الهند في جعل قطاع المعلومات قائم بذاته, حتى أصبحت قوة حقيقية في تصنيع وتصدير البرمجيات إلى بقية بلدان العالم.. وهو ما تحقق خلال عشر سنوات فقط. نجحت الهند في حصد عائد من البرمجيات خلال عام 2002م ستة ونصف مليار دولار, ومخطط أن تحصل على خمسين مليار دولار خلال عام 2008م.

وجاء تقديم خدمات المعلومات عن بعد في المرتبة التالية, سواء في مجال خدمات المحاسبة والاتصالات وحجز تذاكر الطائرات لكثير من الشركات الأوروبية والأمريكية.

التجربة الماليزية:

بفضل بناء اقتصاد المعرفة, حققت ماليزيا انجازا ملموسا على أرضها, بحيث تحولت من المجتمع الزراعي البسيط, إلى مجتمع اقتصادي معقد.

كما ينظر الكثير من الدارسين على التجربة الماليزية, أنها قد تميزت عن التجربة الهندية, بفضل الرؤية الاجتماعية في التطبيق الاقتصادي. حيث شمل التغير بل والتطوير كل مناحي الحياة واهتمامات المجتمع على الأرض الماليزية. أي أنها جعلت من تجربتها وسيلة للتطور الاجتماعي بالتوازي مع التطور الاقتصادي. (فيما بدت التجربة الهندية منحازة أكثر إلى الصفوة).

تجربة "دبي":

تميزت تجربة دبي عن التجربتين السابقتين, في كونها ارتكزت على نموذج الصناعات الخفيفة لاقتصاد المعرفة, مع الاندماج السريع والمباشر في العولمة اقتصاديا واجتماعيا. قد تكون دبي استفادت كثيرا من عائدات البترول, لذا قيل أنه يصعب تمثلها لأي بلد أخرى, إلا أنها استفادت أيضا من موقعها الجغرافي.

نجحت دبي في إنشاء شبكة اتصالات عالية الكفاءة منذ عام 1997م, مع توفيق الأوضاع القانونية والتشريعية في مجال البنوك والضرائب وتأشيرات الدخول والخروج.. وغيرها. كما نجحت في إنشاء المؤسسات الرائدة في مجال اقتصاد المعرفة.

المتابع الآن يلمح ما انعكست عليه التجربة على الحياة الاجتماعية والاقتصادية, كما في مجال التجارة الالكترونية, والحكومة الالكترونية, والتعليم الالكتروني..وغير ذلك.

بالنظر إلى التجارب الثلاث, يتضح أن إمكانية المشاركة في التجارب التقنية والعلمية العالمية, ليست بعيدة المنال.. بل ممكنة للدول العربية الأخرى. (ويرى د.نبيل على أن الجمع بين التجارب الثلاث السابقة, يمكن أن يحقق نجاحا, بل ويعد ضرورة لتحقيق القفزة الاقتصادية والمعرفية والاجتماعية للدول العربية عموما.)

"المعرفة الرقمية وإسرائيل"

لقد استفادت إسرائيل بهذه المفاهيم والآليات الجديدة, واستطاعت توظيفها في توجهاتها السياسية, مثل تشويه الملامح الحضارية الإسلامية/العربية التراثية, ذيوع وصف المقاومة الفلسطينية بالإرهاب, تغيير الملامح العربية للقدس..الخ.

السؤال الآن, ليس في تفوق الآخر, بل حول مدى انتباه الأمة العربية, حتى لا تصبح رهينة تلك القوى الخبيثة اللينة.

قال "حاييم بيريز" رئيس وزراء إسرائيل السابق يوما: "المعلومة أقوى من المدفع". كما قال "إسحاق نافون" رئيس إسرائيل السابق: "تبادل الثقافة والمعرفة لا يقل أهمية عن أي ترتيبات عسكرية".. وهو ما يشير بقوة إلى مكانة عناصر القوى الجديدة هناك, ولا يبقى سوى التعرف على مظاهر تلك القوى في إسرائيل. تحتل إسرائيل المرتبة الأولى في حجم الإنفاق على البحوث العلمية.. صادرات السلاح إلى الدول الأخرى.. وتطوير نظم حماية المعلومات في مواقع الانترنت (أنتي فيرس)… هذا على مستوى العالم.

ولمزيد من التعرف على الصورة في إسرائيل, نورد المعلومات التالية, مقارنة بالعالم العربي:

 عدد المالكين لأجهزة الكمبيوتر 47% من مجموع الشعب, بينما في العالم العربي 4%.

 عدد الكتب المترجمة إلى العبرية سنويا 100كتاب لكل مليون مواطن, بينما في العالم العربي 3كتب لكل مليون مواطن.

 عدد الشركات العاملة في مجال تطوير التقنيات الرقمية حوالي 2000شركة, وهو رقم أكبر من كل الشركات العاملة في كل البلدان العربية.

تتعدد الملامح وتفاصيل الصورة, كلها في صالح إسرائيل!!

ويقول "د.نبيل على و"د.نادية حجازي" في كتابهما "الفجوة الرقمية" في تحذيرهما للعرب من الوقوع في الصدمة, كل المطلوب وجوب الانتباه أولا, ثم محاولة البدء فورا لتجاوز ما فات, مع عدم الانبهار بما أنجزته إسرائيل لإمكانية التمثل بت وتجاوز بالعمل الدءوب الجاد. ثم أكدا على التحذير الثالث.. وهو عدم الانسياق وراء مقولة تتردد في بعض المحافل الآن, حول إمكانية التطبيع مقابل العلوم والتكنولوجيا.. أي يقدم العرب أنفسهم أعنى علاقاتهم المختلفة في كافة المجالات تمتد إلى إسرائيل, في مقابل أن تمدهم الأخرى ببعض من فتات العلوم والتكنولوجيا.

لقد كانت التجربة في مجال المعرفة الرقمية, في كل من "ماليزيا" و"الهند" مثلا يحتذي.. ولكل منهما أنساقه وخصوصيته, ومع ذلك يعدا أو كانا يعدا من الدول الفقيرة أو دول العالم الثالث (قبل الثورة الرقمية), أصبحا من الدول الفاعلة والمؤثرة في الاقتصاد العالمي, خصوصا في اقتصاد المعرفة الرقمية.

سؤال حول فجوة "المحتوى"

أما وقد تشكل المجتمع المعلوماتى من عنصري:شبكة اتصالات متكاملة, وهى البنية التحتية من إنشاءات ومبان وتجهيزات من أجهزة ومعدات.. ثم العنصر الآخر الذي هو "المحتوى", أي تلك المعلومات والإحصاءات والمعارف وغيرها, تلك المخزنة داخل الاسطوانات. هذا المحتوى يتضمن العديد من العناصر الواجب توافرها, وبالتالي يمكن قياس فجوة المحتوى بالنظر إلى مقدار توافرها, وهى: مقدار النشر الورقي الالكتروني, الإنتاج الاعلامى والسينمائي, البرمجيات التطبيقية مثل العاب الأطفال وغيرها, مواقع تقديم الخدمات وخدمات صناعة المحتوى على الانترنت..

كذلك معدل توافر الموارد الخام لصناعة المحتوى.. وتشمل قواعد البيانات وبنوك الصور والأرشيفات الورقية والالكترونية, مع حجم مقتنيات المكتبات التقليدية والرقمية, والمتاحف وتركيباتها.

كما يمكن القياس بمدى توافر أدوات إنتاج المحتوى, ويشمل ذلك أدوات تصميم البرامج وصفحات الويب وأدوات النشر الالكتروني وآلات البحث, مع الوسائل الرقمية لانساق الرموز المختلفة من نصوص وصور وأشكال وتراث.. وأخيرا مدى توافر العنصر البشرى المدرب في التخصصات المختلفة لصناعة المحتوى, وتوافر الاتصال ذات السعة العالية.

الآن وبالنظر إلى تلك المؤشرات, يمكن التعرف على أسباب فجوة المحتوى, وحتى في مجملها: أسباب تكنولوجية, حيث يحتاج المحتوى لعدد من الصناعات المتقدمة, والمهارات العالية والدقيقة.

ثم أسباب اقتصادية, فصناعة المحتوى في حاجة إلى تكنولوجيا كثيفة وأيضا رأس مال كثيف, وهو رأس المال الذي يحتاجه "المحتوى" للإنتاج والتوزيع.

أما السبب الثالث لفجوة المحتوى, مع ضرورة الوعي بها لتلافيها, فهي أسباب تشريعية وتنظيمية.. مثل غياب سياسة واضحة لحشد الموارد من أجل انجاز تلك الصناعة, ثم عدم توافر قوانين وتشريعات تحتاجها تلك الصناعة.

أما السبب الأخير لفجوة المحتوى, هي أسباب ثقافية.. القصور الواضح في التعامل مع الفنون ذات الصلة بالتكنولوجيا مثل فنون الغناء والفنون التشكيلية والفنون الحركية. ليبرز السؤال في النهاية:

أين نحن العرب من فجوة المحتوى, وما السبل لتلافيها ومواجهتها؟

لابد من توافر الكوادر البشرية الفنية والمتخصصة, وهى كوادر ذات كفاءة خاصة في مجال العلوم الحديثة والتقنيات الدقيقة.. يلزم وضع التشريعات من قوانين ولوائح وآليات تنفيذية ومتابعة, والتي من شأنها تسهل إنشاء البنية التحتية (المشار إليها سلفا), دون عوائق جمركية أو ضريبية.. ضرورة تنشيط وسائل الإعلام التقليدية والمتاحة من أجل زيادة الوعي الثقافي والمعرفي بكل جوانب "المحتوى", مع أهمية التعامل معه والتعرف عليه.

كل ما سبق وغيره, في حاجة ماسة إلى رأس مال كثيف يضخ في اتجاه تجاوز كل العوائق المادية المالية وانجازها سريعا.. ثم دور الحكومات العربية, لتجاوز أغلب تلك العوائق التشريعية والمالية والفنية.

حقوق النشر على الإنترنت!!

أما وقد راجت حاليا في العالم العربي النشاطات الرقمية والمعلوماتية على شبكة "الانترنت" كما هي رائجة على الشبكة في العالم المعلوماتى المتقدم, تلاحظ عدم احترام حقوق النشر على العكس من النشر الورقي. أصبحت المواد الإبداعية وغيرها على المشاع, تتخطفها الأفراد بل والهيئات والمؤسسات, وحتى الصحف اليومية والدوريات.

تحضرني حكاية طريفة عرفت عن "سرفانتس" صاحب الطواحين الهوائية. فقد كان الرجل ضابطا بالجيش وأحيل إلى التقاعد بعد أن نالت منه إصابة أعجزته, ونمت على إثرها موهبة الإبداعية, وأطاح خياله بكل الحواجز.

كل آماله أن تستمع له جماعة الأصدقاء والجيران, نجح واستمعوا له وأنصتوا, ثم عبروا عن سعادتهم, وهو أقصى ما كان يحلم به. إلا أن أحد الشطار كعادة الشطار دائما, نجح في تسجيل كل ما يقال, ويسافر إلى المدينة القريبة, فينشر تلك الحكايات مسلسلة!

راجت الحكايات, وذاع صيتها, حتى وصل الخبر إلى سرفانتس, الذي ذهب إلى المدينة وقابل صاحب المطبعة ليعرف الحقيقة كاملة. ومنذ ذاك اليوم بدأت تصدر "دونكيشوت" باسم مؤلفها الحقيقي.

لعل سرفانتس أكثر حظا عن مبدعي وكتاب اليوم, فشبكة الإنترنت ثرية بالمواد المختلفة, ولا ضابط للنيل منها, بلا حقوق أدبية أو مالية.. سواء للموقع الناشر, أو للمبدع. فلا أكثر من أن تكتب اسمك في الباحث الإلكتروني, حتى تصدمك المفاجأة ولا من مغيث!

أليست قضية تستحق المناقشة.. القانونية والفنية, بل ورجال الأخلاق والفلسفة, لعلنا نصل إلى حل يرضى جميع الأطراف, مع الوضع في الاعتبار أن المادة على شبكة الإنترنت أكثر خطورة وتأثيرا من "الكتاب" التقليدي" وهذه قضية أخرى, ولا تنفصل عما نراه ضروريا لحفظ حقوق المبدع والناشر, بل ضروريا للتوثيق العلمي والمسئولية الأخلاقية.

المصدر: ديوان العرب
  • Currently 177/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
59 تصويتات / 1044 مشاهدة
نشرت فى 11 ديسمبر 2009 بواسطة moneelsakhwi

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,167,379