يحب الرجل بفطرته أن يبدو بمظهر الرجال, ومع تباين المجتمعات - باعتبار التغير الزماني والتغاير المكاني - يبقى سلوك الرجل هو العنصر التكويني لمفهوم الرجولة, ولكن ما هو هذا السلوك المبرز لهويته؟ أو الذي يجدر بالرجل أن يلقى مجتمعه متباهيا برجولته؟ وبما أن أنظار الرجال اختلفت للتفاوت العقلي - علما وثقافة - في ماهية هذا السلوك إدراكا وتطبيقا فمن الضروري جدا - لمن أراد التجرد من الادعاءات والمزاعم في رجولته - وزن كافة سلوكياته بميزان الرجولة الصحيحة, والتحاكم إلى ذات تشخص كمال الرجولة وتمامها.
الأمر الذي لا نجده إلا في من امتزج الكمال بطـيـنـتـه الإنسانية قبل رجولته النوعية, ألا وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وبمـقــارنة بعض السلوكيات التي يراها البعض أنها معايير الرجولة بسلــوك النبي صلى الله عليه وسلم يجد رجل اليوم نـفــسه متخبطــا في دائرة من الأوهام والدعــاوى يقع مفهوم الرجـولة الصحيح خارجا عن محيطها, فنرى على سبيل المثال تحريض الأب ابنه الصغير على الأخذ بالثأر إذا ما اعتدى عليه أحد في المدرسة أو غيرها, ممهدا أو خاتما تحريضه بأن الأخذ بالثأر من الشجاعة التي هي من خصائص الرجال دون النساء, فينشأ الابن مركبا من أغاليط امتزجت بتكوينه الذاتي مخلطا مفهومي الشجاعة والانتقام ببعضها على أنه المعيار الرجولي, فأين هذا من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما عرف التاريخ مثلا للشجاعة يفوقه في حين أنه لم يثأر لنفسه قـط على كثرة إيذائه وشدة وطأة الظـلـم عليه ــ, إذن فمتى يفتخر رجل اليوم بالعفو والصفح كما يفتخر للأسف بالانتـقام؟.
التنازل عن الحقوق الشخصية وعدم المطالبة بها خدشة في وجه رجل اليوم, في حين أن رجولة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي إسقاط الحق والتنازل ضاربة أروع الأمثال لسمو النفس وترفعها عن سفاسف الدنيا, على أنني لا أنكر مطالبة الحق, ولكن أرى أن عدها من معايير الرجولة مغالطة عصرية.
مجاراة السفهاء في سفاهتهم ومقابلة الفحش بالفحش بدلا من تحاشيهم ومداراتهم أمر يرفضه رجل اليوم, لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتذمر من فحش السفيه قائلا (بئس أخو العشيرة) فإذا ما قابله انبسط وبسط الكلام له, لا عن جبن وإنما اتقاء فحشه وصونا للعرض كي لا يدنسه من لا وزن له في كفة الإنسانية, كل ذلك بمداراة وسياسة الرجل الحكيم مع هؤلاء المرضى نفسيا, إذن فمفهوم الرجولة يفتقر إلى العقلانية لا إلى الحماقة.
يروق للبعض حفظ النصوص الشرعية الخادمة لمصالحه الشخصية, فما من زوج إلا ويحفظ قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء),
ولكــن البعض لا يتكـلف عناء البحث أو الســؤال عن تـفـسيره ثـقـة بثقـافـاتـهـم وخبـراتهم اللامـتـنـاهـيـة في نظرهم ــ, فكل يفــسر قــوامة الرجل على المرأة بما يمهــد له أسرع الانتصارات في ملحمة الزوجـيـن الأزلية السرمدية, فالبــعض يفـسـرها بحقية الضرب والشتم, والبعض بعدم استشارتها فـضلا عن العمل برأيها, والبعض بوجوب تقـيـيد أنوثتها بأعمــال البيت والحـيـلـولة بين الأطفال وراحة الزوج مع حـرمـانها من فــرص الـثـقـافـة والـتـنـور الذهني, والبعض بحـقـيـة نـهب راتبها الوظـيـفـي, والبعض بفرض الرأي وقبوله بلا مناقشة, فأين هــذه الـتـفـاسير الـمـنـبـعـثـة من أنـقـاض رجل الجاهلية الأولى من السلوك الحضاري في رجولة النبي صلى الله عليه وسلم التي تصـفـها السيدة عائشة رضي الله عنها بــأنه لم يضرب امرأة ولا خادما قط, تلك الرجولة التي ثقفت زوجاته حتى صارت حجرهن مدارس يرتادها طلاب العلم, تلك الرجــولة التي لم تـسـتـنكف من مشاركتهن في عمل البيت واستشارتهن والجبر بخواطرهن.
تلك الرجولة التي كانت تصبر على نبض العرق الأنثوي لديهن, من تتبع مفهوم الرجل الزوج في مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته وهي كثيرة يجزم بتجاهل زوج اليوم عن الأسلوب الحضاري في معاملة المرأة تحت غطاء القوامة.
الحياء عند البعض من غرائز النساء, والمرأة نقيض الرجل, فكل ما كان من غرائزها فهو نقيضه, فينتج من هذا الـقـياس أن الحياء نـقـيـض الرجل, والنقـيـضان يستحيل عـقـلا اجتماعهما, ولتفعيل هذه النتيجة يتكلف البعض من الرجال الوقــاحة والصفاقـة قــولا وفعلا استجابة للـنداء الباطني برجــولته, فــأين هؤلاء المنطـقـيـون من ذلك الرجل الذي كــان أشد حياء من العذراء في خدرها وكــان قـلـما يقابل المرء في وجــهه بما يكرهه وكــان كثيرا ما يطــرق بنـظره حياء, مـبـررا سلـوكــه بـقـولـه (الحياء من الإيمان), فهل يا ترى اجتمع النقيضان أم لم يكن هناك تناقض أصلا إلا في خيالات المتمنطـقـيـن من الرجـال؟
إذن ينبغي أن يعتقد الرجل الحياء عددا يقبل القسمة على الرجل والمرأة.
ما أجمل بـرجـل الـيـوم أن يستشعر الفارق العـقـلي بينه وبين المرأة, ويستدل لكمال عـقـلـه كـرمـز لـرجـولـتـه بأمور غير تلك التفــاهات التي ذكرت بعضا منها وتركت الكثير لا لأنها غير جديرة بالذكر ولكن خجلا وأسفا من أنها معدودة في معايير رجل اليوم.
الرجولة يا معشر الرجال قبل أن تكون مفخرة للذكر من نوعي الإنسان هي مفخرة الإنسانية نفـسـهـا, وقبل أن تقـهـر لـقـواعد الاصطلاح والتصنيف هي خاضعة لقـــواعد الأخــلاق الرفيعة والآداب النفيسة والمعاني السامية التي إن فقدها أحد أو جهل محالها فليفــتش عنها في رجــولة النبي صلى الله عليه وسلم يجد الأمر كما قلت.
ساحة النقاش