مقياس النيل أقدم نموذج للعمارة المائية الإسلامية في مصر
في أقصى الطرف الجنوبي من جزيرة منيل الروضة النيلية بالقاهرة يقبع أقدم مبنى اسلامي شيد من الحجر في مصر، فحسب الكتابة الكوفية المنقوشة على أحجاره فإن تاريخ بنائه يرجع الى عام 248هـ في عهد الخليفة العباسي المتوكل. إنه مقياس النيل، أعجب بناء اسلامي شاهد على براعة المعماري المسلم، وأقدم نماذج العمارة المائية الاسلامية في مصر والعالم العربي والاسلامي.
اختلف علماء الآثار حول شخصية المهندس الذي قام بانشاء هذا المقياس، فبعضهم يذكر أنه محمد بن كثير الفرغاني الذي ذكره كريزويل «عالم الآثار الاسلامية» بأنه ينتمي الى مدينة فرغانة احدى مدن أفغانستان، إلا أن البعض الآخر أجمع على أن مهندس المقياس هو أحمد بن محمد الحاسب الذي وجد قبره بجوار ضريح الإمام الليث بن سعد وكتب على شاهد قبره «أحمد بن محمد الحاسب مهندس المقياس».
وترجع أهمية مقياس النيل وتميزه بين الآثار الاسلامية الى الطريقة التي استخدمها المعماري في بنائه والتي دلت على براعته وتطبيقه للنظريات العلمية التي بنى عليها فكرة إنشائه، بحيث أضاف للمقياس عنصر الابهار، حينما استطاع أن يبني جسم المقاييس في ستة أشهر هي وقت التحاريق عندما يقل مستوى مياه نهر النيل قبل الفيضان، فكان لزاما عليه أن يبنى في تلك الفترة القصيرة، كما كان اختياره لموقع المقياس في الطرف الجنوبي من جزيرة الروضة أثرا في الحفاظ على جسم المقياس، فهذا الموقع تقل فيه شدة التيارات في النهر، وبالرغم من أن المقياس مبني من الحجر ومن المعروف أن المياه تشكل مصدرا خطرا على الأبنية المبنية من الحجر، إلا أن المهندس استخدم مادة للعزل تعمل على الحفاظ على الأحجار من التفكك والانهيار، ولهذه الأسباب يقف الآن المقياس متحديا كل العوامل التي قد تشكل عليه عنصرا من عناصر الخطورة كالزمن والمياه.
ولمقياس النيل أهمية كبرى من الناحية الأثرية فهو مبنى أصيل مازال يحتفظ بكل عناصره الأصلية ولم يتعرض لأي عوامل تقلل من قيمته الأثرية، وهو أقدم مبنى حجري بني في مصر خلال العصرالاسلامي، وأقدم مبنى يحوي كتابه بالخط الكوفي المزهر حيث يؤرخ علماء الآثار ظهور الكتابة الكوفية المزهرة على المباني بتلك الكتابات الموجودة بمقياس النيل، ومن ناحية العمارة الاسلامية هو أول مبنى استخدم فيه العقد المدبب والأعمدة المدمجة في الحوائط.
عمارة المقياس عند دخول المقياس ستبهرك عمارته وستشعر بالرهبة من عمق بئر المقياس وعاموده الرخامي ذي التاج الكورنيشي والمنتصب من أسفل على قاعدة خشبية مكونة من ألواح من جذوع النخل المختلط بالرمال ومن أعلى يلامس تاج العمود وتر خشبي ممتد بعرض المقياس، هذا العمود بثقله الذي يزن 20 طنا يستطيع مقاومة اندفاع المياه داخل المقياس وذلك بفضل القاعدة الخشبية المثبت بها من أسفل وهي تعطي له مزيدا من المرونة حتى تحميه من الإنكسار.
ويتكون المقياس من جزءين، الأول علوي يظهر فوق الأرض عبارة عن قبه تأخذ شكلا مخروطيا «قمة على هيئة القلم الرصاص» ذات طراز تركي، وهذه القبة من الداخل مزخرفة بزخارف نباتية كالأزهار والأوراق النباتية بالألوان المختلفة، وزخارف كتابية دعائية مذهبة باسم الخديوي عباس حلمي الأول الذي أقام هذه القبة، وبالقبة مجموعة من النوافذ المصنوعة من الخشب الخرط تحدها اطارات مذهبة.
أما الجزء الثاني من المقاييس فهو البئر وتوجد أسفل الجزء الأول تحت سطح الأرض نصل اليها عن طريق مجموعة من السلالم تبدأ من قمة البئر الى القاع، وتأخذ بئر المقياس من الداخل شكل المثلث المقلوب «هرمي»، حيث ينقسم مسقطه الى ثلاثة مستويات، الأول مسقط دائري ثم يعلوه مسقط مربع طول ضلعه أكبر من محيط الدائرة «المستوى الأول» ثم المستوى الثالث ومسقطه مربع طول ضلعه أكبر من طول ضلع المربع الأول، وبهذه المستويات الثلاثة وبجدران بئر المقياس توجد مجموعة من النوافذ التي يدخل عن طريقها ماء نهر النيل الى البئر ويقاس منسوبه عن طريق عامود المقياس وكلما كانت نسبة مياه النيل مرتفعة، دخل الماء من النوافذ العلوية الموجودة ببئر المقياس، ويبلغ طول عامود القياس 12.5 متر، وهو مقسم الى عدة تدريجات تعطي في مجموعها دلالة على ارتفاع أو نقصان مياه النيل، وهذه التدريجات تصل الى 18 زراعا وكل ذراع مقسم الى 24 أصبعا وذلك للحفاظ على قراءة صحيحة على عامود القياس والتي يتحدد على أثرها أهمية اقتصادية كبرى وهي معرفة مساحة الأراضي الزراعية التي سوف يتم زراعتها وأنواع المحاصيل التي سوف تزرع وبالتالي حجم الخراج الناتج عن جباية الضرائب عن هذه المحاصيل وبالتالي تقدير المشروعات المستقبلية.
النظريات العلمية والمقياس :
يقول د. مختار الكسباني استاذ العمارة والفنون بكلية الآثار جامعة القاهرة ان مهندس المقياس استخدم مجموعة من النظريات العلمية عندما شرع في بناء المقياس وبالتالي كان لها أثر في تصميمه المعماري والشكل النهائي الذي وصل اليه، مما جعل مقياس النيل أدق مقياس يعطينا قراءة صحيحة لمنسوب المياه في نهر النيل منذ أن عرفت مصر هذا النوع من المنشآت حيث وصلتنا نماذج منها تعود الى العصور الفرعونية والبطلمية.
أما النظريات العلمية المطبقة في عمارة المقياس فهي:
أولا: نظرية ضغط السوائل والتي تنص على أن للسوائل ضغطا يكون عاليا في أسفلها وقليلا في أعلاها وعلى ذلك جاء اختيار موقع المقياس على رأس جزيرة الروضة بحيث تكون مساحة الكتلة البنائية للمقياس عند القاعدة أكثر اتساعا منها عند القمة مما يجعل قطاع المقياس يأخذ شكلا شبه منحرف وكان الغرض من ذلك من وجهة نظر المهندس هو مقاومة جدران المقياس خاصة من أسفل لضغط ثقل المياه المحيطة بجسم المقياس في النيل.
ثانياً: نظرية التواتر السطحي للسوائل، لذلك عمل المهندس على وقف حركة المياه المندفعة الى بئر المقياس، لكي يعمل على ثبات سطح المياه في داخل البئر حتى تعطي قراءة صحيحة على عامود القياس، واستخدم المهندس النوافذ الواقعة على جدار المقياس ودرج السلم الهابط الى قاع البئر للوصول الى هدفه وهو ثبات حركة المياه.
ثالثاً: نظرية الطفو والتي تنص على أن للسؤال مقاومة للاجسام التي توضع فيها وينطبق ذلك على عامود القياس الرخامي بوزنه الثقيل، لذلك عمل المهندس على تثبيت هذا العمود على دكة من جذوع النخيل التي تمتاز بخاصية فلينية مع الرمل مما ساعد على الحفاظ على عامود القياس دون أن يميل أو ينكسر
بعد 1180 سنة هجرية، سترد القاهرة الاعتبار إلى المهندس المعماري الأوزبكستاني أحمد الفرغاني، الذي صمم مقياس النيل الشهير في منيل الروضة في القاهرة في عصر الخليفة المتوكل عام 247 هجرية. ووافق الدكتور عبد العظيم وزير محافظ القاهرة على إقامة تمثال له وفاء لذكراه، واعترافا بدوره في انجاز أحد أهم المشاريع التي ساهمت في الحفاظ على ثروة مصر المائية. وقال المحافظ في تصريحات صحافية أمس، إن إقامة هذا التمثال يأتي في إطار تفعيل التعاون العلمي والثقافي بين مصر وأوزبكستان، مشيرا إلى أن التمثال سوف يقام بمنطقة مقياس النيل في المنيل، بعد مشاورات وتفاهم مع الجهات الأخرى المسؤولة مثل وزارة الثقافة والري واللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية حتى يكون شاهدا على عملية تدعيم العلاقات الثقافية بين مصر وأوزبكستان. وأشار وزير إلى أن التمثال سوف يشترك في تنفيذه فنانون من مصر وأوزبكستان. وسيتضمن لوحة تذكارية تحوي تعريفا للمهندس الفنان احمد الفرغاني. يذكر أن الفنان احمد الفرغاني، سمي بهذا الاسم نسبة إلى مدينة فرغانة، إحدى مدن أوزبكستان، والتي ولد فيها عام 789 ميلادية وتوفي في القاهرة عام 856 ميلادية. وكان احد أبرز علماء بغداد في عصر الخليفة المأمون وحضر إلى مصر بتكليف من الخليفة المتوكل على الله لإنشاء مقياس النيل الرابع في مصر.
|
|
|
|
|
ساحة النقاش