لا شك في أنّ مسامحة الغير على أمر مسيء بحقّنا ليس بالأمر السهل إطلاقاً. بين الأفكار الخاطئة المتعلّقة بمفهوم المسامحة ومختلف مكوّناته ودوافعه، تُعتبر المسامحة مغامرة خاصة. في ما يلي بعض العناصر التي تساعد في فهم هذه الظاهرة وتعلّم تطبيقها.

يرى الشعراء والأدباء أن المسامحة تقود إلى راحة كبيرة وتعطي سلاماً داخلياً، وتُعتبر عاملاً أساسياً لعيش حياة سعيدة وهادئة. لكن يصعب التوصّل إلى هذه الراحة في حالات كثيرة. يمرّ كلّ فرد طبعاً بلحظة يحتاج فيها إلى المسامحة للتقدم في الحياة من دون عقد أو مشاكل عالقة. لا بدّ من مسامحة أيّ شخص ارتكب بحقّنا أعمال خيانة أو إزعاجاً أو مضايقة لاستعادة صفاء النفس والهدوء النفسي. تمثّل المسامحة قبل كلّ شيء موقفاً في مواجهة الحياة وهي تفيد في تحرير المشاعر السلبية المدمِّرة كالبغض والكره. لكنّ التوصّل إلى المسامحة يتطلّب جهداً كبيراً.

مفهومها

تفيض الأفكار والنظريات المتعلّقة بمفهوم المسامحة، لكن يجب تصحيح الكثير منها. يرى علماء النفس أنّ المسامحة لا تعني النسيان ولا نكران ما حصل. حين نسامح، لا ننسى الإساءة التي ارتُكبَت بحقّنا. تساعد المسامحة حصراً في تخفيف الألم الذي شعرنا به لا في محوه. لو كانت المسامحة تعني النسيان، ماذا سيحلّ بالأشخاص الذين يتميّزون بذاكرة ممتازة؟ لن يتوصّلوا إلى المسامحة أبداً. يرى الخبراء أن الأشخاص الذين يقولون إنهم سامحوا لكن لم ينسوا يتمتّعون بصحّة عقلية سليمة. يمكننا إذاً مسامحة الغير من دون الخوف من نسيان ما حدث. لكن إذا نسينا الإساءة حقاً، فهل يعني ذلك أننا في حالة نكران؟

غالباً ما يعمد الشخص الذي يتعرض لضربة قاسية إلى حماية نفسه عبر تنشيط دفاعاته النفسية التي تكبح العواطف وتمنع الانفعال. نتيجةً لدرع الحماية هذا، قد ينكر ما حصل معه. من الطبيعي إذاً ألا تعطي المسامحة مفعولها الحقيقي طالما يرفض الشخص المعنيّ الاعتراف بالإساءة التي تعرّض لها والمعاناة التي رافقتها. يُعتبر النكران إذاً عائقاً أمام المسامحة الفعلية. صحيح أنّ المسامحة لا تعني النكران، لكنها لا تعني أيضاً اختلاق الأعذار. يرى الخبراء أن خلق الأعذار لتبرير تصرّف الآخر يعني تجريده من أي مسؤولية معنوية عما حصل، ولا علاقة لذلك بمفهوم المسامحة. اعتبار المعتدي غير مسؤول عن أخطائه أقل وطأة من الاعتراف بأنه سبّب الأذى بكامل وعيه وإرادته. مثلاً، إذا نسي الزوج مناسبة عيد زواجه، تفضّل المرأة التفكير بأنه لم يجد وقتاً للاحتفال بالمناسبة بسبب ضغوط العمل على الاعتراف بأنه نسي المناسبة ببساطة. في الحالة الأولى، تختلق المرأة الأعذار؛ وفي الحالة الثانية، تسامح زوجها.

على صعيد آخر، لا يجب أن تترافق المسامحة مع الإرغام. لا معنى لإجبار أحد على مسامحة الآخر إذا لم يقم الفرد بذلك من قلبه، لأن مجرد التفوّه بعبارة “أسامحك” لا يعني بالضرورة صفاء النوايا فعلياً. إمّا أن تكون المسامحة إرادية أو لا تكون! لا بدّ من حريّة الاختيار في هذا المجال. لكنّ القرار بالمسامحة يتطلّب السير على طريق طويل قبل التوصّل إلى تحقيقه.

مكوّناتها الأساسيّة

من منّا لا يرغب في الانتقام بعد التعرض لإساءة كبيرة؟ في البداية، تسيطر علينا غريزتنا لكن يجب التحكم بها قبل فقدان السيطرة على أنفسنا. تقضي الخطوة الأولى على طريق المسامحة باتخاذ قرار صارم بعدم الانتقام، وهو القرار الأصعب. تقود مسيرة المسامحة إلى حالة من الاستبطان. تُعتبر الإساءة سبب الانقلابات الداخلية وتؤدي إلى الشعور بارتباك كبير، وسرعان ما يتفاقم الوضع حين تستيقظ الجراح القديمة العالقة. لا بدّ إذاً من تحرير الذات للتمكن من تحرير المعتدي علينا من مسؤوليّته، ومن الدخول إلى أعماق الذات لاكتشاف المشاعر التي تسكننا والتوصل بالتالي إلى إدراك حالتنا تماماً. تُعتبر هذه المرحلة الأصعب لكن لا غنى عنها، لأن مسامحة الآخر يجب أن تمرّ أولاً بمسامحة الذات. بعد التخلّص من مشاعر الألم القديمة، يتمكن الفرد من عيش حاضره كما يجب والتخطيط لعلاقات جديدة مستقبلاً مع الشخص الذي أساء إليه. بالتالي، تساعد المسامحة على إعطاء نظرة جديدة للعلاقات الإنسانية والتخلّص من مشاعر البغض تجاه من أساء إلينا. قد نجد في هذا الأخير شخصاً ضعيفاً وطيّباً وشبيهاً لنا.

يرتبط مفهوم المسامحة بعالمين: العالم الإنساني والعالم الديني. من الخطأ التفكير بأنه عمل ينبع من الإنسان وحده، بدافع من الخوف أو الشفقة، بل تؤدي القيم الدينية في هذا المجال دوراً أساسياً أيضاً كونها تحثّ على المسامحة. الارتباط وثيق إذاً بين اتّباع التعاليم الدينية ومبادرة الإنسان الشخصية.

باختصار، المسامحة مسألة معقّدة. لا بدّ من التحلّي بالصبر والنضج والرغبة في عيش حياة أفضل لتحقيقها فعلياً. كذلك، تُعتبر المسامحة عنصراً أساسياً لعيش حياة متناغمة تعمّها السعادة. ليس الأمر سهلاً، لكن ألا تكمن متعة الأمور في صعوبة تحقيقها؟ أَوَليس تخطّي هذه المصاعب طريقة للتقدم في الحياة؟

فائدتها

تعني المسامحة أن نعطي أنفسنا الحق في طيّ صفحة مؤلمة والسيطرة على حياتنا. وتعني أيضاً عدم السماح لمن أساء إلينا بعرقلة طاقاتنا الحيوية وإعاقة مسارنا نحو السعادة. بالتالي، تتيح لنا المسامحة خوض علاقات سليمة والبدء باختبار حياة هانئة على مختلف المستويات، بعيداً عن أهوال البغض والانزعاج والمرارة. إنها مشاعر مدمّرة بكلّ معنى الكلمة! فهي تضعف الإنسان وتحرمه من القوة التي يحتاج إليها للوصول إلى السعادة وتحقيق ذاته والانطلاق سعياً وراء أحلامه.

حين نختار السلام والمسامحة، نختار في الوقت نفسه متعة الحياة والمشاركة ونستقبل الحياة برحابة صدر. أمّا الحقد، فهو يطيل المعاناة ويجعلها جزءاً دائماً من الحياة، لأن المشاكل الداخلية العالقة تنعكس على أفكارنا وطريقة عيشنا وتصرّفاتنا. من هنا تنشأ الحاجة إالى التوصّل لسلام داخلي ومداواة الجراح القديمة.

يمكن مسامحة أي نوع من الألم أو الإساءة. ينجح كثيرون في مسامحة من أساء إليهم، مع أنهم كانوا ضحايا لأفعال مريعة، بفضل القوة الهائلة الكامنة في كلّ شخص منّا. المهمّ هو البحث عنها وإيجادها.

المصدر: بي بي سي
  • Currently 150/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
50 تصويتات / 1745 مشاهدة
نشرت فى 25 سبتمبر 2009 بواسطة moneelsakhwi

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,167,439