جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الإصلاح السياسى فى مصر والعالم العربى
مهندس / مختار حسن الغباشى
كفر الشيخ سليم - مركز طنطا - محافظة الغربية
رئيس الوحدة المحلية لقرية برمـا
بسم الله الرحمن الرحيم
فى إطار توجه الدولة نحو الإصلاح بمحاوره المختلفة ، وعلى ضوء ماطرحه السيد الرئيس / محمد حسنى مبارك من رؤى وتصورات لمفهوم الإصلاح فى خطابه بمكتبة الأسكندرية يوم 12/3/2004م ، وعلى ضوء مشاريع الإصلاح التى طرحتها دول وقوى خارجية ، وموقف الحزب الوطنى الديمقراطى تجاه هذه المشروعات ، فإننا نقدم فى هذه الدراسة :
& مقـدمـــة .
& رؤيتنا عن المبادرة الأمريكية للإصلاح فى الشرق الأوسط .
& العلاقة بين التحرر الاقتصادى والديمقراطية .
& نبذة عن تحدى الإصلاح السياسى فى مصر .
& مبادرات الحزب الوطنى الديمقراطى فى مجال الإصلاح السياسى والاجتماعى .
& بعض التوصيات التى نرى من وجهة نظرنا أنها تفيد بإذن الله تعالى .
مقـدمـــة :
مما لاشك فيه أن شعوبنا العربية آمنت بالحاجة إلى التحديث والتطوير ومواكبة روح العصر ، وبضرورة الاستفادة مما قدمته وتقدمه العولمة من فرص سانحة للقضاء على المشكلات الهيكلية الحقيقية القائمة فى البنيان السياسى والاقتصادى والاجتماعى للدول والمجتمعات العربية ولإحراز التقدم المطلوب فى تلك المجالات لطموحات شعوبها وتطلعاتها نحو مستقبل أفضل ، إلا أن هذه الجهود حتى الآن لم تنجح بعد فى سد الفجوة القادمة بين ما حققناه من تقدم من جهة ، وقدرتنا على التواؤم مع المتغيرات المتلاحقة على الساحتين الدولية والإقليمية من جهة أخرى .
ومن هنا ، فقد انعقد فى العالم العربى العديد من المؤتمرات والاجتماعات والندوات ، التى انصبت حول بلورة رؤية عربية واضحة لسد هذه الفجوة من خلال بذل جهد أكبر فى مجالات التحديث والإصلاح ، يقضى على سلبيات الماضى ، ويضمن الحفاظ على هويتنا وذاتيتنا وخصوصياتنا العربية والإسلامية المتميزة ، ونجحت تلك المؤتمرات - دون شك - فى إظهار اهتمام مجتمعاتنا العربية من المحيط إلى الخليج بوضع وتنفيذ سياسات تتطور باستمرار لتتفاعل مع المتغيرات والتحديات الدولية والإقليمية تحقيقاً لمصالحنا الذاتية .
مما لاشك فيه أن جميع حكومات وشعوب المنطقة العربية متفقة على أنه لتحقيق مستقبل أفضل لابد من التركيز على محورين رئيسيين هما :
أولا : الدفع بجهود التحديث والتطوير القائمة على الرؤى الذاتية للمجتمعات العربية وعلى أساس من التوافق والتلاحم بين الحكومات العربية وشعوبها .
ثانيا : الدفع نحو التوصل للسلام العادل والشامل فى منطقة الشرق الأوسط وإخلائها من كافة أسلحة الدمار الشامل لتوفير المناخ السياسى اللازم لانتشار مشاعر السلام والأمن والاستقرار كمكونات رئيسية تعزز من مجهوداتنا فى التطوير والتحديث ، وترسخ من توجهنا نحو مزيد من التعاون الإقليمى والدولى الفعال . وقد بذلت كل من دولنا العربية جهوداً كبيرة لتحقيق إصلاحات هيكلية وتنظيمية فى كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فى إطار يراعى تحقيق التوازن الدقيق بين الآثار الإيجابية والسلبية لعملية الإصلاح ، ويأخذ فى الحسبان تنوع الخصائص الثقافية والدينية والتركيبة السكانية لكل مجتمع ، وضرورة اتباع أسلوب إصلاحى لايؤدى إلى زعزعة الاستقرار ، ولا يسمح بتولى قوى التطرف والتزمت لزمام الإصلاح وتوجيهه وجهة لا تتفق مع رؤى المجتمع .
وعززت الدول العربية المختلفة تدريجياً من المشاركة الشعبية والمجتمعية فى جهود التحديث والإصلاح جنباً إلى جنب مع المجهودات الحكومية ، حتى تأتى النتائج محققة لآمال الشعوب وطموحاتها . ومن هنا ازدادت المسئولية الشعبية والمجتمعية - وخاصة مسئولية منظمات المجتمع المدنى ومنظمات رجال الأعمال - عن طرح الآراء والأفكار المبتكرة التى يجب أن تتخذها الحكومات كأساس لصياغة نهج قومى عام تجاه قضية الإصلاح والسعى لتنفيذها بالمشاركة الشعبية والمجتمعية الفاعلة ، بالإضافة للسعى لصياغة رؤية عربية أكثر شمولاً وتحديداً لقضايا الإصلاح فى العالم العربى .
عن المبادرة الأمريكية للإصلاح فى الشرق الأوسط
فى الآونة الأخيرة ظهرت هناك حالة من الجدل الشديد حول المقترحات الأمريكية والمعروفة باسم " مبادرة الشرق الأوسط الكبير " .
فمن جانب فقد أثارت شكوكا فى بعض البلدان العربية ، بل وفى داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ، وكذلك بين الولايات المتحدة وحليفاتها من الدول الأوربية ، وفى حين استقبلها عدد من كبار المسئولين العرب بالانتقاد المستند أساسا إلى فكرة أن الولايات المتحدة الأمريكية لاتستطيع تصدير أنظمة ديمقراطية جاهزة إلى الدول العربية ، وواجهها البعض الآخر بالصمت .
وأمام سيل الانتقادات الذى وصل إلى حد اتهام هذه المبادرة بأنها ترقى إلى مستوى اتفاق " سايكس بيكو " الاستعمارية التى قسمت الوطن العربى بين بريطانيا وفرنسا فى مطلع القرن العشرين ، فى المقابل تكررت التأكيدات الأمريكية بأن المبادرة ليست تصورا مفروضا ، وإنما هى مجموعة من الاقتراحات للإصلاح ولمساعدة دول وحكومات الشرق الأوسط على اللحاق بالدول الأخرى التى تمكنت من تحقيق التقدم السياسى والاقتصادى والاجتماعى .
إن ردود الفعل المتفاوتة بين بلد عربى وآخر تجاه المبادرات الأمريكية يعكس التفاوت فى مستوى التطور السياسى والاجتماعى ، لكن مع الوضع فى الاعتبار أن السمة الغالبة هى وجود قدر متزايد من الشكوك الرسمية والشعبية العربية تجاه الدعوات الديمقراطية الأمريكية ، لاسيما وأن بعض ماقامت به الولايات المتحدة فى حربها ضد أفغانستان والعراق هو ضد كل قيم القانون والحريات وحقوق الإنسان كما تجسده حالة معسكر جوانتانامو وسجن أبو غريب والتى هى دعائم أساسية فى أى تحول ديمقراطى .
إن المشكلة الأساسية فى عمليات الإصلاح أنه دائما هناك مقاومين لها ، كما أن أحد أساليب الالتفاف على الإصلاح الحقيقى هو إطلاق مجموعة من المبادرات التى تميع القضية وتربطها بقضايا فرعية أخرى ومن ثم يضيع الهدف وتختل الوسائل ، ومن قبيل ذلك مايسمى بضرورة الإصلاح الثقافى والاجتماعى والأخلاقى أولا قبل أى قرار بالإصلاح السياسى .
وهناك حوارات كثيرة دارت فى الفترة الأخيرة داخل أروقة الحزب الوطنى الديمقراطى ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية وعدة منظمات غير حكومية ، وكل هذه الحوارات أثارت تساؤلات هامة حول ماهية الإصلاح المطلوب ومداخله والتى يمكن أن توفر ردا سليما تجاه التحديين الداخلى والخارجى وكيف يمكن أن تكون الاستجابة الوطنية بما فى ذلك مناهضة الاستراتيجية الأمريكية وأفكارها الخاصة بالتغيير فى العالم العربى .
من كل هذه الحوارات ظهر توافق عام على أهمية الإصلاح الشامل فى مصر والعالم العربى باعتبار أن الإصلاح بات ضرورة حتمية للخروج من عنق الزجاجة التى يحيط بمجمل العملية السياسية والاقتصادية فى البلاد ، لاسيما وأن هناك الكثير من المبادرات والأفكار المطروحة دوليا والتى تسعى إلى توجيه عمليات التغيير الداخلى فى البلدان العربية وبالطبع من بينها مصر ناحية أهداف معينة ليست بالضرورة متوافقة مع أهداف المجتمع المصرى الأصيلة فى التطور والديمقراطية .
العلاقة بين التحرر الاقتصادى والديمقراطية
من الضرورى ألا نسلم سريعا بالمقولات التى تجزم بوجود ارتباط حتمى بين التحرر الاقتصادي والانفتاح السياسى ، بل يجب النفاذ إلى جذور، تضع هذه المقولات فى ميزان نقدى ، أو توفر لها عمقا معرفيا أو إطارا ضابطا ، يجعل من الممكن ضمان ولو أدنى درجة عدم احتكار رموز التحرر الاقتصادى من رجال أعمال وغيرهم للممارسة السياسية ، الأمر الذي يضر بالتوازن المطلوب لنظام يقوم على التعددية ، ويفتح المجال أمام مختلف الفئات الاجتماعية للقيام بأدوار تغذى النزعة إلى الانفتاح السياسى ، بما يدفع باتجاه المستوى المأمول فى ديمقراطية سليمة ، تحتكم إلى إطار عام من القيم الاجتماعية القادرة على توفير مناخ صحي للممارسة السياسية ، وتحتمى بحزمة من الإجراءات التى تنقل المطالبة بحياة ديمقراطية سليمة إلى حيز التنفيذ العملى .
ونظرا لأن الفعل المرتبط بتطوير آليات العمل السياسى يكون فى الغالب الأعم صدى لأوضاع اقتصادية ومعطيات اجتماعية وثقافية وعلاقات خارجية ، فإن الديمقراطية كنهج سياسى فى الحكم لايُطلب لذاته وإنما لتحقيق أهداف ترتبط بنهوض المجتمع وتقدمه ، لايمكن النظر إليها على أنها عملية تحلق فى الفراغ ، إنما هى صيرورة تنتجها بنى أخرى بعضها ليس سياسيا . ومن ثم فإن الإسراف فى الحديث عن إصلاح النظام الانتخابى بوصفه تمهيدا إجرائيا لديمقراطية سليمة بقصره على تعديلات فى الشكل أو تنقيح النصوص القانونية التى تحكمه دون تناول شروط إنتاج هذه العملية الأساسية بالنسبة للتطور الديمقراطى يعد عملا منقوصا إلى حد كبير .
وهناك سياقان مهمان يمسان الرابط المشترك بين الاقتصاد والديمقراطية ، يفرضان نفسيهما على الأوضاع فى مصر وغيرها فى الوقت الراهن هما :
1 - الحديث المسهب عن دور سياسى لرجال المال والأعمال فى مصر ، وهذا يدعو إلى ضرورة عدم الركون عند مستوى الأقاويل المستهلكة عن هذا الموضوع بوصفه مجرد فعل اجتماعى عادى ، بات واقعا يزداد رسوخا مع الأيام ، بل يجب النفاذ إلى جذور ، قد تضع هذه التجربة الوليدة فى ميزان نقدى ، أو توفر لها عمقا معرفيا أو إطارا ضابطا ، يجعل من الممكن - ضمان ولو أدنى درجة - عدم انحرافها إلى طريق ينأى بها عن التوجه الديمقراطى ويتركها تنحدر إلى طريق احتكار الممارسة السياسية ، الأمر الذى يضر بالتوازن المطلوب لنظام يقوم على التعددية ، ويفتح المجال أمام مختلف الفئات الاجتماعية للقيام بأدوار تغذى النزعة إلى الانفتاح السياسى ، بما يدفع باتجاه المستوى المأمول فى ديمقراطية سليمة ، تحتكم إلى إطار عام من القيم الاجتماعية القادرة على توفير مناخ صحى للممارسة السياسية ، وتحتمى بحزمة من الإجراءات التى تنقل المطالبة بحياة ديمقراطية سليمة إلى حيز التنفيذ العملى .
2 - ما تطرحه الولايات المتحدة الأمريكية حاليا من مشروع منطقة التجارة الحرة فى منطقة الشرق الأوسط ، والذى يتزامن مع مطالب أمريكية صريحة بضرورة إجراء إصلاح الأنظمة السياسية الحاكمة فى المنطقة . وهذا يعنى فى وجه مهم منه أن واشنطن ترى أن الطريق إلى هذا الإصلاح السياسى يمكن أن يعْبر على أكتاف قرار اقتصادي من زاوية الفهم المتداول لطبعية العلاقة بين التنمية الاقتصادية والديمقراطية ، والذى ثار بشأنه ، ولا يزال جدل كبير بين النخبة الغربية . فربما ينظر الأمريكيون إلى أن تحرير التجارة الشرق أوسطية يمكن أن يفكك العديد من الأوضاع التقليدية المتكلسة التى تحول دون فتح النوافذ لتهب رياح تغيير سياسى حقيقى طال انتظاره ، بدلا من أن يتم ذلك بقوة السلاح حسبما حدث بالنسبة للعراق ، خاصة أنه من الصعب على واشنطن أن تجد ذرائع لدول عربية أخرى تشابه تلك التى أوجدتها للعراق ، وبررت بها اجتياحه عسكريا .
وبالطبع فإن الأوضاع الاقتصادية تأتى فى مقدمة البنى التى تؤثر فى الديمقراطية وتتأثر بها ، ابتداء من اختبار المقولات والرؤى التى تربط الديمقراطية بالرأسمالية ، وانتهاء بتناول الأسباب التى تحول دون أن يؤدى التحرر الاقتصادي إلى الانفتاح السياسى، مرورا بتبادل المنافع بين الديمقراطية والتنمية ، وعلاقة التحرر الاقتصادى بتوزيع الموارد السياسية ، ومدى إمكانية أن يوفر تكافؤ الفرص الاقتصادية مناخا يفضى إلى التعددية السياسية .
وفى سبيل فحص هذه العلاقات الارتباطية تجيب تلك الدراسة على خمسة تساؤلات رئيسية يمكن سردها تباعا على النحو التالى :
1 ـ ما هي طبيعة العلاقة بين الديمقراطية والتحرر الاقتصادي والتنمية ؟
2 ـ هل يقود التحرر الاقتصادي إلى توزيع القوة (الموارد السياسية) دخل المجتمع ؟
3 ـ ما هي أهمية توزيع الموارد السياسية بالنسبة للديمقراطية ؟
4 ـ لماذا يضر احتكار الإمكانات الاقتصادية بسلامة الديمقراطية ؟
5 ـ ما الذي يحول دون أن يؤدى التحرر الاقتصادى إلى انفتاح سياسى ؟
وقد لا تحسم الإجابة على هذه التساؤلات إشكالية العلاقة بين الاقتصاد والديمقراطية ، فى شقها الذي تجسده معادلة مفادها أن (توزيعا عادلا للثروة الاقتصادية = توزيعا عادلا للموارد السياسية = ديمقراطية سليمة) ، لكنها تقدم اقترابا نظريا يتقوى بأمثلة أمبريقية حيال قضية لم تحظ بالاهتمام الكافى فى أدبياتنا السياسية حول الديمقراطية التى ركزت أكثر على الجوانب المتعلقة بنزاهة الانتخابات وحرية التعبير ، مع أن هذين الرافدين المهمين للديمقراطية لايعملان بكفاءة دون تحقق شروط مادية معينة .
أولا: الديمقراطية والتنمية .. منفعة متبادلة وليس ارتباطا حتميا .
تعتبر الديمقراطية فى قيمها الأصلية وإجراءاتها المحددة محكا لاختبار مدى تأثير الاقتصاد على السياسة ، بل تتعدى ذلك فى بعض المجتمعات لتصل إلى النقطة التى يمكن عندها الإجابة على تساؤل مفاده : هل يصنع الاقتصاد السياسة ؟، وهل هو الذى يسير دفتها ويحدد أهدافها ؟. وهذا لا يعنى بالطبع التسليم بأن الاقتصاد فقط هو العنصر الفعال فى تركيبة الحياة السياسية – الاجتماعية ، لكن القول بأنه العنصر الأكثر أهمية لا يجافى الحقيقة ولا يقفز على الواقع .
وعلاقة الاقتصاد بالديمقراطية تبدأ من المنشأ وتنتهى عند صناعة واتخاذ القرارات داخل المجتمع ، مرورا بتوزيع الأدوار والأنصبة أو الأوزان السياسية بين القوى التى تتزاحم أو تتنافس أو تتكتل فى سبيل أن تجد لها موقعا على خريطة صنع القرار .
فمن حيث المنشأ ، فإن هناك من يعيد الديمقراطية إلى جذورها الرأسمالية ، باعتبار أن الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية متلازمتان ، إن لم يكن فى لحظة الانطلاق ، فعلى الأقل فى اللحظة الراهنة . وهذا الربط التقليدي بين الاثنين يستند إلى برهان تاريخى ينزع إلى المركزية الأوروبية ، وهو يقوم على أن الديمقراطية نشأت فى المجتمع الأوروبى إثر انهيار الإقطاع وميلاد طبقة تجارية جديدة قادت العمل الاقتصادى ، ونحتت لها أدوارا سياسية من أجل خدمة مصالحها . فاقتصاد السوق أوجد نمطا من العلاقات الاقتصادية الجديدة أنتجت بدورها شكلا مختلفا من المجتمعات الإنسانية يقوم على التنافس والتعدد وتوافق المصالح ، الأمر الذى تمت ترجمته فى الديمقراطية كنظام سياسى .
وهناك مثال واحد لكنه معبر إلى أقصى حد عن هذا الارتباط التاريخى ، فنشأة البرلمان فى إنجلترا تكاد تكون مرتبطة بتطبيق مبدأ لا ضريبة دون تمثيل نيابى ، والتى تعنى أن الملك ليس من حقه أن يفرض ضرائب جديدة دون موافقة ممثلى دافعى الضرائب ، وهم نواب البرلمان . ومعنى هذا أن دافع الضريبة ، التى تعد تعبيرا عن أحد مظاهر تدخل الدولة فى إدارة الاقتصاد ، يوظف الديمقراطية السياسية فى خدمة مصلحة اقتصادية ، خاصة أن هذه الحقبة لم تكن تعرف كلمة مواطن التى تقوم عليها الديمقراطية الحديثة ، بل كانت الكلمة التقليدية ذائعة الصيت فى هذا الوقت هى دافع الضرائب ، الذى كان بمثابة المادة الخام للنظام الديمقراطى الوليد . لكن من المعروف أن وجود ارتباط بين الرأسمالية والديمقراطية لم تستقر أركانه أو يتمتع بشرعية اجتماعية ملموسة خلال الثورة الصناعية فى أوروبا . ففى الولايات المتحدة وهولندا فقط ، كان هناك شكل من أشكال الديمقراطية التمثيلية ذات الوظائف القائمة على أساس قاعدة رأسمالية تجارية وليست صناعية .
ويصل الأمر بـ " آلان تورين " فى تناوله لارتباط الديمقراطية بالتحرر الاقتصادي إلى القول بأن اقتصاد السوق والديمقراطية السياسية وجهان لعملة واحدة ، لأنهما يشتركان فى الحد من السلطة المطلقة للدولة . وليس معنى ذلك أن هناك انسجاما كاملا بين الاثنين ، لكن يوجد على الأقل اتفاق واضح المعالم حول مصالح مشتركة ، فالديمقراطية ورأسمالية السوق تشبهان شخصين مرتبطين فى زواج عاصف يمزقه التنازع ، ولكنه يستمر لأن كلا من الطرفين لايرغب فى الانفصال عن الآخر ، حسب تعبير " روبرت دال ".
ويبنى " دال " حجته هذه على أن كلا من الديمقراطية واقتصاد السوق فى حاجة إلى بعضهما البعض ، فالأسواق الحرة لا تريد أن تخضع لتنظيم صارم ، وترفض أى إجراءات تحد من انتقال العمالة ورأس المال ، ولا تقبل وصايا تمنع المستهلكين من أن يختاروا السلع التى يرغبون فى شرائها ، أو عقبات تحول دون وصول الموارد الأساسية إلى المصانع ، أو تدَخُّل يحد من حرية التنافس بين المنتجين ، والديمقراطية السياسية تلبى كافة هذه الاحتياجات . فى المقابل هناك من يرى أن اقتصاد السوق يساعد أكثر من غيره على تحقيق التنمية التى تتم ترجمتها فى تعزيز التعليم وزيادة درجة الاتصال الاجتماعى وسهولة تبادل المعلومات ، الأمر الذي يزيد من درجة الوعى السياسى والاجتماعى لدى المواطنين بكافة حقوقهم ، ومن ثم يتمسكون بالديمقراطية ، إذا كانت متواجدة ، وينادون بها إذا كانت غائبة . وهذه المنفعة المتبادلة جعلت " دال " يقول إن الدول التى تديرها حكومات ديمقراطية تتجه إلى أن تكون أكثر رخاء من الدول التى تقودها حكومات مستبدة ، وإن خبرة القرن التاسع عشر تبين أن الأولى كانت ثرية ، والثانية كانت فقيرة فى الغالب الأعم . وقد تكرست هذه الصورة فى النصف الثانى من القرن العشرين ، بشكل يشد الانتباه .
وقد دفع هذا الوضع كثيرا من الباحثين إلى التساؤل عما بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية من ارتباط . " فتورين " يرى أن الديمقراطية والتنمية تسميتان لمسمى واحد ، ثم يعود ويوضح أن التنمية ليست سبب الديمقراطية ، إنما هى نتيجة لها . لكن محاولة دمج المفهومين أو توحيدهما لم تلق قبولا عاما ، بل انقسمت الآراء حولها ، لدرجة اعتبار البعض أن هناك علاقة تنافر وتضارب بين الديمقراطية والتنمية ، لأسباب اقتصادية وسياسية .
فاقتصاديا يرى هؤلاء أن النمو يحتاج إلى وفورات مالية تتاح للمستثمرين بما يمكنهم من إقامة مشروعات تنهض بعملية التنمية . لكن هذه الوفورات من الممكن أن تذهب إلى الاستهلاك وليس إلى الاستثمار . وهنا يصبح الطريق الوحيد أمام زيادة الفوائض المالية هو تقليل الإنفاق الاستهلاكى . وتعجز الأنظمة الديمقراطية عن فرض خطوة من هذا القبيل ، لأن المستهلكين فى النهاية ناخبون وبإمكانهم أن يعاقبوا الساسة ، الذين طالبوهم بضغط الإنفاق ، فى أقرب فرصة تتاح لهم من خلال صناديق الانتخابات . ومن ثم يهتم القائمون على الأمر فى الأنظمة الديمقراطية بتلبية الاحتياجات قصيرة الأمد والملحة للمواطنين ، وهذا توجه يضر بالاستثمار .
وسياسيا فإن التنمية - من وجهة نظر هذا الفريق - فى حاجة ماسة إلى الاستقرار . وفى ظل الدولة الديمقراطية يكون الباب مفتوحا أمام المؤسسات والجماعات الصغيرة لتسبب إزعاجا أو تنغيصا دائما للسلطة من خلال الضغوط التى تمارسها لتحقيق مصالحها ، الأمر الذى يشيع جوا من البلبلة الاجتماعية ، بما يضر بالتنمية الاقتصادية . أما فى ظل التسلطية فإن المجتمعات تستقر ، ومن ثم تتفاعل عملية التنمية فى هدوء وثقة .
وعلى النقيض من ذلك ، هناك من يؤكد أن التسلطية تضر بعملية التنمية ، لأنها تعطى الدولة صلاحيات كبيرة للتدخل فى شئون الأفراد ، بما يمنع من قيام اقتصاد حر ، يبنى أساسا قويا لتنمية مستدامة . وإذا كان التذرع بأن الإنفاق على الاستهلاك يعوق التنمية كما تقدم ، فإن جزءا كبيرا من النفقات يذهب إلى قطاعات التعليم والصحة ، وهى ضرورية لعملية التنمية ، أو بمعنى أكثر تحديدا فإنها تشكل استثمارا فى البشر ، أى توفر الدعائم الرئيسية للتنمية ، بوصف الإنسان هو صانع التنمية وهدفها فى الوقت ذاته .
وفى إطار تبادل المنافع هناك من يؤكد أن التنمية الاقتصادية عامل مسهل لقيام نظم ديمقراطية ، وذلك استنادا إلى عدة اعتبارات ، منها أن التنمية الاقتصادية تقود إلى تغير فى القيم المجتمعية يخدم التوجهات الديمقراطية . فالتنمية توفر قدرة على قيام عملية تعليمية شاملة ، وتعميق التعليم يجذر فى عقول المواطنين ونفوسهم قيم التسامح والاعتدال والعقلانية واحترام الآخر . كما أن التنمية الاقتصادية تؤدى إلى انتعاش الدخل القومى بما يحقق الأمن الاقتصادي للمواطنين ، ويحد من الصراع الطبقى بينهم بما يمكنهم من تكريس وقت أطول لبلورة رؤية سياسية ذاتية . وتبرهن تجربة بعض دول العالم الثالث على صحة هذا الرأي إلى حد كبير ، فانشغال الناس بتحصيل ما يقيم أودهم ، فى الدول التى تحقق معدلات نمو منخفضة ، يجعل العمل العام بالنسبة إليهم ترفا لا يقدرون عليه ، واحتكار السلطة الحاكمة فى بعض الدول لمقدرات الثروة وتوزيعها حسب أهوائها يجعل مواطنيها يتحولون إلى مجرد رعايا لامواطنين . وغياب المواطنة يعنى فى النهاية غياب الرافد الأساسى ، الذي يغذى الديمقراطية ويحافظ عليها .
وتساهم التنمية الاقتصادية كذلك فى اعتدال موقف الطبقات الدنيا من الشرائح الاقتصادية - الاجتماعية العليا، بما يجعل الأخيرة تطمئن إلى أن الشرائح الدنيا لا تشكل خطرا عليها ، وأنها تستحق ممارسة الحقوق السياسية ونيل نصيبها من القوة فى المجتمع . كما أن الوفورات المالية التى تحققها التنمية تزيد من تواجد الطبقة الوسطى ، التى تضفى بدورها طابعا وسطيا على التنافس أو الاختلاف السياسى عن طريق مساندة الأحزاب الديمقراطية والمعتدلة والتخلى عن الجماعات الراديكالية سواء كانت يسارية أو يمينية . وتوافر الثروات المالية ، أو على الأقل بلوغ حد الكفاية ، يوسع هامش الاختيارات أمام الطبقة العاملة والمهمشين ، بحيث يصبح بإمكانهم أن يستخدموا وسائل ضغط سلمية للحصول على حقوقهم ولا ينحدرون إلى التطرف السياسى . وفى المقابل فإن هذا يقلل من احتياج السلطات الحاكمة إلى استخدام البطش فى مواجهة أى احتجاج من أجل الحفاظ على درجة مناسبة من الاستقرار .
علاوة على ذلك فإن التنمية الاقتصادية تتيح فرصا كبيرة لقيام العديد من الهيئات الاجتماعية التطوعية المستقلة " مؤسسات المجتمع المدني " ، والتى لا تكتفى فقط فى بعض الأحيان بممارسة دور رقابى غير رسمى على أداء الحكومة ، بل تشجع على قيام مشاركة سياسية ، وتعمل جاهدة على إيجاد رأى عام يتمتع بدرجة مناسبة من الوعى والمهارات السياسية اللازمة لقيام نظام حكم ديمقراطى .
وقد أعطى " هنتجنتون " هذا التصور بعدا " إمبريقيا " فى كتابه " الموجة الثالثة للديمقراطية " ، حيث قال إن متابعة التحولات الديمقراطية فى العالم خلال الفترة من 1974 إلى 1990، أظهرت أن المناطق التى شهدت مثل هذه التحولات قد حققت معدلات تنمية اقتصادية فوق المتوسط ، وخرج من ذلك بنتيجة مفادها أن الفقر يمثل عقبة كبيرة أمام التطور الديمقراطى ، وأن تعزيز الديمقراطية يعتمد على تحسين مستوى التنمية الاقتصادية ، وأن العقبات التى تقف فى وجه التنمية هى عقبات فى طريق الديمقراطية . وإذا كانت تجارب التحول فى دول جنوب شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية وتايوان تشير إلى أن التحرر الاقتصادي يسبق الانفتاح السياسى ، فإن تجارب دول أوروبا الشرقية بعد انهيار نظمها الشيوعية يبين أن الاثنين يمضيان معا . كما أن خبرة العالم الثالث فى تحوله التدريجى نحو الديمقراطية تبرهن على أنه ليست هناك شروط مسبقة لهذا التحول ، ومن ثم لا ينهض البحث عن الأسباب التى تقود إلى الديمقراطية ، سواء كانت اقتصادية أم اجتماعية وثقافية ونفسية أو ترتبط بعوامل خارجية ، ببناء قانون عام للتحول الديمقراطى .
ومن أجل حل هذا الاختلاف ، فَكَّ البعض التلازم بين النمو الاقتصادي والديمقراطية . فقد انتهى "دال " إلى القول أنه يبدو أنه لا يوجد ارتباط بين النمو الاقتصادى ونوع الحكم أو النظام فى الدولة ، إذ لا توجد حتميات فى هذا الشأن وليس هناك أقدار مسبقة ، أو طريق مرسوم سلفا لتطور طبيعى نحو الديمقراطية فى البلدان التى طالها التحديث إلى الاستبداد فى البلدان التى لم تحقق مستويات تنمية كبيرة . وفى المقابل فإن كانت الديمقراطيات تعنى توافر مجتمعات منفتحة سياسيا ، فإن هذا لا يقود بالضرورة إلى إيجاد اقتصاد مفتوح قائم على حرية التجارة وليس الحمائية أو التخطيط المركزى ، ولا يعنى أن الديمقراطيات ذات كفاءة اقتصادية أكثر من النظم غير الديمقراطية ، خاصة خلال فترة التحول الاجتماعى الذاتى نحو الديمقراطية .
وإذا كان من الممكن القول بأنه ليست هناك ديمقراطية دون اقتصاد سوق ، فتوجد بلدان عديدة ذات اقتصاد سوقى لكنها ليست ديمقراطية . ومن السهولة بمكان دحض المقولات التى تربط النمو الاقتصادى بوجود الديمقراطية من خلال تجارب عملية واضحة جهارا نهارا . فالهند مثلا لم يؤد تراجع نموها الاقتصادى إلى تردى وضعها الديمقراطى . وفى المقابل فإن دولة مثل سنغافورة لم يجلب لها انتعاش حالتها الاقتصادية نظام حكم ديمقراطيا . والصين رغم أنها حققت خلال الفترة من 1965 حتى 1994 تقدما فى معدل النمو الاقتصادي فاق ضعف وأحيانا ثلاثة أمثال ما حققته الهند فإن الأولى لم تقدم على انفتاح اقتصادى .
وإذا كان ليس هناك ارتباط لا يقبل الدحض بين التنمية والديمقراطية ، ولا يمكن القطع بأن الرخاء الاقتصادى يؤدي إلى الانفتاح السياسى أو العكس ، فعلى الجانب الآخر نجد أن عدم الاستقرار الاقتصادى لا يقود بالضرورة إلى تغيير سياسى ينزع نحو الديمقراطية . فمن الممكن أن تقود أزمة اقتصادية طاحنة مجتمعا إلى حل سياسى ديمقراطى أملا فى تغيير الأحوال المتردية ، لكن الأزمة نفسها من الممكن أن ترتد بنظم ديمقراطية إلى الاستبداد ، بدعوى الحيلولة دون تهديد سلامة المجتمع ، وقد تجعل أنظمة ديمقراطية تسقط وتحل محلها نظم ديكتاتورية . فالأزمة الاقتصادية تنال من شرعية الحكومات سواء كانت ديمقراطية أم استبدادية ، وتؤثر سلبا على الاستقرار السياسى فى أي منهما . وتقدم الخبرة الأوروبية ذاتها مثالا واضحا على هذا ، فعدم الاستقرار الاقتصادى الذي شهدته أوروبا عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، وتحديدا فى الفترة من 1919 إلى 1945، هدد الأنظمة الديمقراطية ، لأنه وضع صعوبات جمة أمامها فى تحديد الأولويات الاجتماعية والاقتصادية ، التى تعد المهمة الرئيسية للحكومات ، ومن ثم أثر سلبيا على شرعيتها .
وفى الوقت الراهن ، نلمس غياب هذا الارتباط فى ضآلة تأثير الاختلافات فى إدارة العملية الاقتصادية بين الدول التى تنتج صناعات هاى تيك ، وهى الولايات المتحدة واليابان والبلدان الأوروبية ، على مخرجات أنظمتها السياسية الديمقراطية . فهذه البلدان احتفظت بنظم ديمقراطية تقوم على إجراءات متشابهة وحزمة من القيم متطابقة ، إلى حد كبير، رغم أن النظام الإدارى الأوروبى واليابانى يقوم على إعطاء صلاحيات أكبر للمديرين البيروقراطيين ويميل إلى المساواة النسبية فى توزيع الثروة ، بينما يقوم نظام الولايات المتحدة على إعطاء فرص أوسع للممولين وليس للمديرين ويجنح إلى التوزيع غير المتكافئ للثروة .
لكن عدم وجود ارتباط يصل إلى درجة القانون العلمى أو يقوم على قاعدة منطقية تؤدى مقدماتها إلى نتائج محددة بين الديمقراطية واقتصاد السوق ، أو بين التنمية والديمقراطية ، لا ينفى أمرين مهمين تثبتهما الخبرة العملية .
الأول هو أن الرأسمالية أثرت تاريخيا فى أنظمة الحكم بما ساهم فى ميلاد الديمقراطية ، وأن النظم الديمقراطية تحمل مقومات أكثر من غيرها على تحقيق تنمية اقتصادية حقيقية ، وأن التحرر الاقتصادي قد لا يفضى بالضرورة إلى ليبرالية سياسية على المدى القريب ، لكنه قد يؤثر فى ذلك المضمار على المدى البعيد ، حال حياد العوامل الأخرى ، كما سيتم شرحه لاحقا .
والأمر الثاني هو أن الاقتصاد كبنية وعمليات وإجراءات وعلاقات يؤثر على الديمقراطية من عدة زوايا:
أولاها تتعلق بتأثير الإنجاز الاقتصادى فى العملية الانتخابية . فهناك اعتقاد شائع بين الساسة فى العديد من الدول الديمقراطية ، إن لم يكن فى جميعها ، مفاده أن التركيز على الإنجاز الاقتصادى يمثل جواز مرور الحزب الذي يتولى الحكم إلى الجماهير ، لأنها تصوت لصالح من يحقق لها درجة أفضل من الرخاء الاقتصادى . والعكس صحيح ، فالجماهير تعاقب الحزب الذي يخفق فى هذه المهمة عبر صناديق الانتخابات ، ومن ثم تعتمد قدرة أى حزب سياسى على الاستمرار فى السلطة على ما يحققه من الرفاهية الاجتماعية .
والزاوية الثانية ترتبط بكون الاقتصاد يستخدم أداة لتشجيع الديمقراطية أو الحض عليها ، إما بطريقة سلبية عن طريق تهديد الدول الديمقراطية الكبرى لنظيرتها غير الديمقراطية بقطع المعونات الاقتصادية أو فرض عقوبات أو تضييق الخناق عليها فى المؤسسات المالية الدولية المانحة للقروض حتى تتخذ خطوات ديمقراطية ، أو تعود إلى الديمقراطية إذا حدث ارتداد عليها ، وإما إيجابيا عبر زيادة المعونات الاقتصادية والحصول على القروض والمنح .
أما الزاوية الثالثة، فتتمثل فى الدور الذى يعوله البعض على العولمة الاقتصادية فى دفع مجتمعات ذات نظم حكم تسلطية أو شمولية إلى الديمقراطية . وقد اختبر باحثون أثر التجارة الدولية على التحالفات السياسية فى بعض الدول ، فألفوا أن التغير فى معدل المكسب والخسارة الناجم عن حركة التجارة العالمية يؤثر على مصادر القوة للتحالفات الاجتماعية داخل الدول ، ويوجد طبقة وسطى تجارية تكافح لتجذير قيم الديمقراطية ، لأن هذا يحقق مصالحها ، من خلال توفير مناخ من الاستقرار السياسى يضمن لها مواصلة أعمالها وزيادة حجم أرباحها .
وفى المقابل، تخص الزاوية الرابعة ترسب قيم وإجراءات الديمقراطية داخل البنى الاقتصادية ذاتها ، بحيث تكون الديمقراطية هي العنصر الفاعل والاقتصاد هو العنصر القابل أو المتلقى للفعل . وهنا يظهر مفهوم الديمقراطية الصناعية التى تعد من إفرازات التوجهات الفوضوية والحركة النقابية والنزعة الاشتراكية ، حيث مشاركة العمال فى اتخاذ القرارات الخاصة بشروط العمل ، مع بقاء السيطرة الفعلية فى يد صاحب العمل . وقد استفادت الحركة النقابية فى دول عديدة من التوجهات الديمقراطية ، حيث توفرت لها وسائل للتعبير الحر، وتمكنت من إجراء الانتخابات الداخلية التى تدفع إلى الأمام عناصر تحقق مصالح العمال سواء فى مواجهة أرباب العمل أو التصلب أمام أى قرارات تتخذها السلطات ويرى العمال أنها تؤثر سلبا على مواقعهم ومكتسباتهم . وفى الدول التى تحكمها أنظمة تسلطية أو شمولية وجدت الحركة النقابية نفسها تعانى من آثار غياب الديمقراطية ، حيث تدس الحكومة أنفها فى الشأن النقابى لمنع وصول عناصر معارضة أو تدجين النضال النقابى ، بما لا يسبب أى إزعاج للسلطة .
ثانيا: ما بين توزيع الموارد وإنتاج الديمقراطية من اتصال .
تشير التجربة الأوروبية فى القرن التاسع عشر ، وفى بدايات تطبيق النظام الرأسمالى ، إلى أن السلطة السياسية لم تكن تتمتع مطلقا باستقلال أصيل ، وإنما كانت موجهة من قبل من بيده المقدرات الاقتصادية ، فالرأسماليون كانوا يقبضون على الخيوط الأساسية التى تشد الحكام ، ويوجهون الدولة إلى إصدار قرارات تهدف فى النهاية إلى تحقيق مصالحهم . لكن هذه العلاقة لم تمت بانقضاء القرن التاسع عشر ، إنما يعاد إنتاجها بأشكال مختلفة فى دول كثيرة بعالمنا المعاصر .
ففى المجتمعات التى تكون فيها مصادر القوة ، وفى مقدمتها القوة الاقتصادية ، مركزة فى يد حفنة قليلة من البشر ، تكون السلطة السياسية هى الأخرى مملوكة لزمرة من الناس . وعلى العكس من هذا فإنه فى المجتمعات التى تنتشر فيها مصادر القوة وتوزع على نطاق واسع تكون القوة السياسية مائلة إلى أن تكون منتشرة بين أيدى عدد كبير من النخبة . وهذه العلاقة الطردية بين توزيع الموارد الاقتصادية وانتشار القوة السياسية جعلنا بصدد معادلة تقربها التجارب العملية من أن تكون قانونا اجتماعيا ، تقوم على أن تركز القوة أو الموارد الاقتصادية يقود إلى الأوتوقراطية ، وانتشار هذه الموارد يفضى إلى الديمقراطية السليمة .
فالمؤسسات السياسية فى النهاية تمثل وسيلة لكفاح البعض من أجل التواجد والاستمرار . وفى هذا الكفاح ، الذى يصل إلى حد الصراع أو على الأقل التنافس الحاد ، يجنح كل طرف إلى استخدام كل ما يتوافر لديه من موارد متاحة ، ولأن الموارد الاقتصادية تأتى فى المقدمة ، إذ أنها الأكثر فاعلية فإن السلطة السياسية لا تبدو مستقلة عن القوة الاقتصادية . بل أكثر من ذلك فإن هذه المعادلة يتم عكسها تماما فى كثير من المجتمعات بحيث تصبح السلطة السياسية وسيلة للحصول على القوة الاقتصادية . ففى البلاد المتخلفة لا تطلب المناصب لذاتها ، إنما للاستئثار بمزايا اقتصادية .
فى ظل هذه المعادلة يصبح ترديد التصور المثالى للديمقراطية ، الذى طرحه المبشرون الأوائل بها ، والذى يعرفها بأنها حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب ، هو إصرار على الإغراق فى الطوباوية ، التى قد تمثل غاية الديمقراطية ، لكنها لا تشرح لنا ما يحدث فعلا فى الواقع . فالتمعن فى المفهوم الإمبريقى للديمقراطية ، يشير إلى أنها عملية لا يمكن فصلها عن التوازنات الاقتصادية داخل المجتمع ، بأى حال من الأحوال . فالديمقراطية فى صيغتها الممارسة ، هى عملية يتم بواسطتها المفاضلة بين خيارات عدة ، بحيث تكون هناك حرية للاقتراح وتقويم البدائل ، وتتوافر آليات لاتخاذ قرار المفاضلة هذا ، ثم تتاح القدرة على ترجمة هذا القرار فى الواقع ، ومراقبة تنفيذه . فهذه الخيارات وتلك الآليات واختيار طرق العمل وامتلاك القدرة على تنفيذ القرارات ، تتطلب وجود إمكانات مادية للجماعات (الأحزاب وغيرها) المنوط بها القيام بهذه العملية ، وتفوق إحداها فى تلك الإمكانات يجعل فرصها أكبر فى توسيع الخيارات وزيادة عدد البدائل .
وحال احتكار أى من القوى السياسية للإمكانات المادية ، فإننا لن نكون بصدد نظام حكم ديمقراطى حتى لو ادعى من يستأثرون بالمناصب السياسية ذلك ، بل أقصى ما يمكن الحصول عليه فى هذه الحالة هو نظام تسلطى مغلف بمسوح ديمقراطية ، تشبه مساحيق التجميل ، التى ليس باستطاعتها مهما كانت درجة جودتها أن تصلح ما أفسده الدهر . فقد تعطي المعارضة ، التى لا تتعدى فى هذه الحالة كونها مجرد قلائد تعلقها السلطة فى أعناقها للزينة أمام العالم الخارجى ، حق النباح من خلال انتقاد الحكومة ، دون تجاوز خطوط حمراء معينة ، وسيسمح لها بالطبع بخوض الانتخابات البلدية والتشريعية ، لكنها لن تحصل على النصيب الذي تستحقه ، أو الذى يمكنها من التأثير الفعال فى إدارة العملية السياسية بالبلاد . وفى العادة تعزو المعارضة سبب فشلها فى تحقيق نتائج مشرفة فى الانتخابات إلى عمليات التزوير ، لكن فى الحقيقة ، ف�
المصدر: مهندس / مختار حسن الغباشى
كفر الشيخ سليم - مركز طنطا - محافظة الغربية
رئيس الوحدة المحلية لقرية برمـا
ساحة النقاش