مهيب عبد أبو القمبز
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا»، رواد أبو داود.
معظمنا يعرف أن مجتمعنا العربي أكثر ما يعانيه هو أمراض نفسية تراكمية نتيجة القهر والإحباط.. هذه المقدمة لم تأت بجديد، ربما هي فقط ضرورية لكي تبدأ مقالًا من هذا النوع!
وقبل أن أبدأ في الهجوم الكاسح على المراء، ينبغي أن أوضح الفرق بين المراء والجدال..فباختصار شديد؛ المراء هو استخراج غضب المجادل، وذلك من خلال الطعن في كلام غيره لإظهار خلله واضطرابه!
ما زلت أعاني من حوارات الطرشان التي "أراها" في كل مكان. وما زلت أعاني من أولئك الذين يصرون على أنهم دائمًا على حق وما سواهم حثالات يستحقون الرجم حتى الموت...ولماذا؟ لمجرد أن خالفوهم الرأي.
بين أبناء جيلي من هو مستعد للمراء ساعات وساعات لكي يقنعك بأن ما رآه بالأمس كان ذبابة وليس نمر جاغوار. وثمة آخرون يقسمون أغلظ الأيمان أن النور الذي رأوه ليلة أمس ليس مصباح علاء الدين، بل طبق طائر قرر سائقه أن ينير منطقتنا لمدة نصف ساعة!
وغيرها وغيرها من الحوارات الجدلية العقيمة...فكيف نتخلص من هذه العادة السقيمة؟ (التخلص من العادة وليس الشخص!..قد يبدو في بعض الأحيان التخلص من الشخص فكرة ممتعة!!!).
وحيث إنني شخصيًّا عانيت كثيرًا من هذه العادة القميئة فكنت أجادل حتى علمت أنه من ترك المراء ولو كان محقًّا فسيكون الرسولُ الكريم، صلى الله عليه وسلم، زعيمًا له ببيت في ربض الجنة، كما سمعت من الحديث..
فإليكم عشر نصائح ذهبية في هذا المجال...وأنتظر نصائح أخرى لكي تثري الموضوع:
الخطوة الأولى: النية الصادقة:
يجب أن تكون نيتك خالصة من أجل إظهار الحق وليس الهوى. ويجب أن تعلم دومًا أن الجدال لا يأتي بخير دائمًا.
الخطوة الثانية: آذان كبيرة:
اسأل نفسك...لماذا يصرخ محاورك ولماذا تصرخ أنت أكثر منه؟ وسوف تكون الإجابة بشكل لا تتوقعه...لأن كلًّا منكما يرغب في أن يسمعه الآخر!
كلنا يعلم أن الجدال عادة موصلة جيدة للحرارة والكهرباء والماء! مثل الموصلات الكهربية (conductors). الموصلات لا توصل الماء؟ كلا توصله..ضع قليلًا من الماء على طرفه واتركه يمشي فسوف يصل إلى الطرف الآخر! لهذا يلجأ المتجادلون إلى الصراخ ظنًّا منهم أن الطرف الآخر لا يسمعه.
خلق الله سبحانه وتعالى لنا أذنين ولسانًا واحدًا. وهذه إشارة لنا لكي نسمع أكثر. وكلنا يعرف المقولة التي تقول: إذا تكلمت كثيرًا فإنك ستفقد كثيرًا من العلم الذي كان يمكنك سماعه لو صمتّ! فليس كثرة الكلام في الحوار دليلَ قوة.
بل استمع وتأكد من أنك تفهم وجهة نظر الطرف الآخر بشكل جيد قبل أن تحاوره.
الخطوة الثالثة: الحقيقة مُرَّة!
إذا أردت أن تقتل محاورك غيظًا، فابن حوارك معه بناءً على مشاعرك! هذا الخطأ الساحق الماحق الذي أكاد أجزم أن أكثر من 99% من المجادلين يقعون فيه هو السبب في إطالة عمر الجدال وعدم الوصول إلى حلّ.
إننا نصور آراءنا بناءً على مشاعرنا، وليس على معلومات حقيقية. لا تجادل طوال الليل بأن الأرض بالفعل لا تدور حول الشمس لمجرد أنك تشعر بأن هذا ليس منطقيًّا...هل قرأته في مرجع علمي موثوق؟ هل حدثك به مدرس الفيزياء الرائع؟.
ماذا لو كان الطرف الآخر يحدِّثك عن رأي شخصي في شخصية عامة؟ فإذا كان هو يحاول مثلًا أن يثبت أن فلانًا حرامي، بينما أنت تستميت لكي تثبت أنه لص! فبكل هدوء، اسأل عن مصدر رأيه. هل هناك كتيب ذكر فيه أن فلانًا كان لصًّا؟ وهل ثمة شرح لماذا هو هكذا؟ وهل لديك دليل أنه لصّ؟
أفضل طريقة لإفحام محاورك بهدوء وليس بصدمة، هو سؤالك إياه عن مصدر رأيه، ولماذا يعتقد أنه هكذا...اطلب منه أن يعدد خمسة أسباب وجيهة تجعله يمقت فلانًا بهذه الدرجة. هذا ربما يجعله يتلعثم، فاعلم أنه حينئذ قد فقد القدرة على المناورة.
لذلك، ناقش وحاور بناءً على معلومات حقيقية....حتى يستوعب الحقيقة المرة الطعم!
الخطوة الرابعة: وعاء المصادر:
كلما حفظت مصادر معلوماتك، كلما كنت قويًّا في الحوار، وابتعدت عن الجدال. لهذا إذا ما قرأت كتابًا فيه معلومات ما، حاول على الأقل تذكُّر اسم الكتاب والمؤلف. لن يسألك محاورك الثائر الذي يهدر كالبحر الهائج عن رقم ISBN الخاص بالكتاب..صدقني لن يفعل ذلك لأنه مشغول بأمور أخرى (ربما يفكر في سحقك أو إذابتك في محلول قلويّ)...يمكنك أن تطمئن!
الخطوة الخامسة: التفادي:
إن التفادي فن. هل رأيت كيف يتفادى لاعبو الكاراتيه الضربات المميتة التي يوجهها إليهم خصومهم؟ إذا وجه إليك الطرف الآخر كلمات جارحة، تفادها! أي إما أن تنتصر للحق وتستمر في محاورته، أو أن تنسحب لو كان في انسحابك انتصار للحق. لا تجعل محاولته لحرفك عن الموضوع الأصلي تثنيك عن مواجهته بالدليل الدامغ والكلمة الطيبة. إن الضعفاء حينما يفشلون في إقناع الآخرين يبدؤون في تغيير دفة الموضوع، حتى أنك لَتَحار حينما تترك شخصيين يتحاوران عن الأمن القومي، لتعود إليهما فتجد أحدهما يصرخ بأن طبيخ البامية ألذ من الملوخية في حين يصر الآخر إصرارًا حديديًّا على أن طبيخ الملوخية ألذ، خاصة إذا كانت ملوخية بالأرانب!
الخطوة السادسة: الانسحاب الآمن:
ما أذكى المحاور الذي يعمل على تأمين انسحاب آمن لمحاوره. ثمة أناس يجيدون الحوار لكنهم يفشلون في ترك ممر آمن يمكِّن الطرف الآخر من الانسحاب، فتجد الطرف الآخر حتى بعدما تبين له الحق، فإنه يستمر في الجدال والمراء!
يمكنك أن تترك بابًا مواربًا للانسحاب بإظهار احترامك لرأي محاورك. قل له مثلًا: صدقني أنا أحترم وجهة نظرك، أنت إنسان طيب، وأكثر من أحترمه بين الناس..قل ذلك له حتى لو كنت تتمنى دق عنقه! إن ذلك يذيب جدران مقاومته إلى أبعد حد.
بين له أنك لن تسخر منه إذا عاد إلى جادة الصواب. فكثير منا بعدما أقنع الطرف الآخر يبدأ في المنّ والأذى..(ألم أقل لك من البداية أنك مخطئ! لولا أنا لما كنت الآن مقتنعًا! وغيرها من العادات السيئة).
اترك له بابًا مواربًا لكي يتراجع عن وجهة نظره، ولا تراجعه بعد تغيير وجهة نظره، ولا تُظهر له المنّ.
الخطوة السابعة: اللين:
(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (آل عمران: 159)
هذه الآية الكريمة من كلام الله تبارك وتعالى تبين لنا أهمية اللين، وكيف أن الإنسان لو كان فظًّا؛ أي غليظ اللسان، فسوف ينفض عنه الناس.
وانظر ماذا قال الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ، وَلا نُزِعَ مِنْ شَيْءٍ إِلا شَانَهُ». (حديث مرفوع/الإمام أحمد)
فاللين حثَّ عليه الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم، وحثَّّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف.
سبحان الله، وقد حدثت معي قصة قبل عدة سنوات، حينما فوجئت بشخص يشتمني على الإنترنت، بسبب وجهة نظري في موضوع ما. وبدأ في الصراخ والشتم، وأنا أكظم غيظي، وما إن تعب من الصراخ حتى سألته: هل فرغت من شتمي؟ قال كلا: قلت إذن واصل، أنا سأتركك تتحدث ثم أقرأ ما كتبته من شتائم! بعد قليل سألته، هل فرغت؟ قال نعم! قلت ماذا استفدت؟ بدأ يتلعثم..ثم سألته فورًا هل أقنعتني بوجهة نظرك؟ كلا قطعًا...أنت لم تجن إلا أطنانًا من الذنوب سوف أخاصمك بها أمام الله يوم القيامة. ثم بدأت في محاورته بكل لين، وقلت له أن وجهة نظره أتفهمها، وأنه ليس كل شيء يقرؤه أو يسمعه صحيح ووو...وبدأ يتراجع بشكل رائع..ويقول لي: والله ماذا أفعل! أنا لم أفهم الموضوع تمامًا، إلخ...وبعد فترة بفضل الله تغيرت وجهة نظره السلبية، وأصبحنا أصدقاء.
الخطوة الثامنة: التركيز:
ركز على نقد وجهة النظر وليس الشخص. الضعفاء هم الذين حين تضعف مناعتهم الدفاعية في المحاورات يبدؤون في نقد الشخص وليس الفكرة. وهذا ما يسبب الصراخ والسباب، ومن ثم الاشتباك بالأيدي..
لو نظرنا إلى أحد البرامج الجدالية التي نراها على شاشاتنا، فسنجدها عبارة عن مراء وصراخ وشتم تحت عنوان: (برنامج الحوار الهادئ)!
الخطوة التاسعة: الانسحاب المفاجئ:
لو شعرت أن محاورك يماري بدون أي دليل، ويصرخ ويشتم، فقم بعملية انسحاب مفاجئة. لأن الجدال مع مثل هؤلاء هو مجرد مضيعة للوقت. هو يقسم بالله أنه لن يقتنع بك في عقله الباطن، فلماذا تتعب نفسك؟
انسحب فجأة وقل له: أشكرك على وقتك. أعتذر لأنه لا يمكنني الجدال بهذ الطريقة. قد يسخر منك ويتهمك بأنك هُزمت، فلا تلتفت له.
الخطوة العاشرة: الصورة المزدوجة!
هل هذه صورة أرنب أم صورة بطة؟ صرخ أحدهم.. أرنب...وهتف آخر محمولًا على الأكتاف.. بل بطة، أيها الرعديد! واستمر الجدال لوقت طويل! هذا يحدث كثيرًا...تجد شخصين يتجادلان حول وجهة نظر متطابقة، لكن بسبب قناعات وصور ذهنية مختلفة يعتقد كلاهما أن الآخر مخطئ. كلاهما مصيب..الصورة يمكن تفسيرها بأكثر من رأي..لهذا يجب أن يتوقف الإنسان ويفكر لثوان معدودة...ربما نحن كلانا على حق!
هذا يوفر ساعات كثيرة من النقاشات العقيمة في دائرة مقيتة لا أول لها ولا آخر.
لكن الكثير منا يحب الجدال..لهذا حتى وبعد أن يكتشف أن كلاهما محق، يبدءان في ورطة أخرى..لذة العتاب (ألم أقل لك؟ كلا بل قلت لك..ثم يعودا تارة أخرى للجدال فيمن سبق الآخر في الفهم!).
إذا اكتشف الطرفان أن كلاهما على حق، فليتصافحا فورًا ولا يناقشا هذه الفكرة مرة أخرى..!