قصة نوح عليه السلام |
|
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكرت عنده أم سلمة وأم حبيبة تلك الكنيسة التي رأينها بأرض الحبشة، ويقال لها مارية، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، ثم صوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل". والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض وعم البلاء بعبادة الأصنام فيها، بعث الله عبده ورسوله نوحاً عليه السلام نوحاً عليه السلام، يدعو إلي عبادة الله وحده لا شريك له، وينهي عن عبادة ما سواه. فكان أول رسول بعثه الله إلي أهل الأرض، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي حيان عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة، قال: "فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلي ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: ربي قد غضب اليوم غضباً شديداً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي أذهبوا إلي غيري، أذهبوا إلي نوح. فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلي أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلي وما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلي ربك عز وجل؟ فيقول: ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي" وذكر تمام الحديث بطوله، كما أورده البخاري في قصة نوح. فلما بعث الله نوحاً عليه السلام، دعاهم إلي إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وألا يعبدوا معه صنماً ولا تمثالاً، ولا طاغوتاً، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنه لا إله غيره ورب سواه، كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل هم كلهم من ذريته. كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ ٱلْبَاقِينَ } (سورة الصافات:77( . وقال فيه وفي إبراهيم: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } (سورة الحديد:26) . أي كل نبي من بعد نوح فمن ذريته، وكذلك إبراهيم. قال الله تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } (سورة النحل:36) . وقال الله تعالى: { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } (سورة الزخرف:45) . وقال تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } (سورة الأنبياء:25) . ولهذا قال نوح عليه السلام: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } (سورة الأعراف: 59) . وقال: {قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * {أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } * {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } * {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } * {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } * {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } * {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } * {ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } * {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } * {يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } * {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } * {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } * {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً }(سورة نوح:2ـ14) . فذكر أنه دعاهم إلي الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار والسر والإجهار، بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى، وكل هذا لم ينجح فيهم، بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام والأوثان، ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان، وتنقصوه وتنقصوا من آمن به وتوعدهم بالرجم والإخراج، ونالوا منهم، وبالغوا في أمرهم. (قال الملأ من قومه) أي: السادة الكبراء منهم: { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } (سورة الأعراف:60) . { قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } (سورة الأعراف:61) . أي: لست كما تزعمون من أني ضال، بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين، أي: الذي يقول للشيء كن فيكون: { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } (سورة الأعراف:62) . وهذا شأن الرسول أن يكون بليغاً، أي: فصيحاً ناصحاً، أعلم الناس بالله عز وجل. وقالوا له فيما قالوا: وتعجبوا أن يكون بشراً رسولاً، وتنقصوا من اتبعه ورأوهم أراذلهم. وقد قيل: إنهم من أفناد الناس وهم ضعفاؤهم، كما قال هرقل: وهم اتباع الرسل، وما ذاك إلا لأنه لا مانع لهم من اتباع الحق. وقولهم: (بادي الرأي) أي: بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية. وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضي الله عنهم، فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلي روية ولا فكر ولا نظر، بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحاً للصديق: "ما دعوت أحداً إلي الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر، فإنه لم يتلعثم"، ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضاً سريعة من غير نظر ولا روية، لأن أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه، قال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" رضي الله عنه { وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } (سورة هود:27( . أي: لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مزية علينا: { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }*{ قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } (سورة هود:27ـ28) . وهذا تلطف في الخطاب معهم، وترفق بهم في الدعوة إلي الحق. كما قال تعالى: { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } (سورة طه:44) . وقال تعالى: {ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ َ } (سورة النحل:125) . يقول لهم: { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيۤ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } (سورة هود:28) . أي: النبوة والرسالة: (فعمت عليكم) أي: فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها، (أنلزمكموها) أي أنغصبكم بها ونجبركم عليها؟ (وأنتم لها كارهون) أي: ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه. { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } (سورة هود:29) . أي: لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم، إن أطلب ذلك إلا من الله ثوابه خير لي، وأبقى مما تعطونني أنتم. وقوله: { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } (سورة هود:29) . كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه، ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك، فأبى عليهم ذلك وقال: (إنهم ملاقو ربهم) أي: فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلي الله عز وجل، ولهذا قال: { وَيٰقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } (سورة هود:30) . ولهذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنه ضعفاء المؤمنين، كعمار وصهيب وبلال وخباب وأشباههم، نهاه الله عن ذلك كما بيناه في سورتي الأنعام والكهف. { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } ( سورة هود: 31) . أي:بل أنا عبد رسول، ولا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به، ولا أقدر إلا على ما أقدرني عليه، ولا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، (ولا أقول للذين تزدري أعينكم) يعني: من أتباعه { لَن يُؤْتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيْراً ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِيۤ أَنْفُسِهِمْ إِنِّيۤ إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ } (سورة هود:31) . أي: لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة، الله أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كما قالوا في الموضع الآخر: { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } * { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } * { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } (سورة الشعراء:111ـ115) . وقد تطاول الزمان والمجادلة بينه وبينهم كما قال تعالى: { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } (سورة العنكبوت:14) . أي: ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم. وكان كلما انقرض جبل وصوا من بعدهم بعدم الإيمان به ومحاربته ومخالفته. وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه، وصاه فيما بينه وبينه، إلا يؤمن بنوح أبداً ما عاش ودائماً ما بقى. وكانت سجاياهم تأبى الإيمان واتباع الحق، ولهذا قال: { وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } (سورة نوح:27) . ولهذا: {قَالُواْ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } (سورة هود:32ـ33) . أي: إنما يقدر علي ذلك الله عز وجل، فإنه الذي لا يعجزه شيء ولا يكترثه أمر، بل هو الذي يقول للشيء كن فيكون، أي: من يريد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، وهو العزيز الحكيم، العليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة. {وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } (سورة هود:36) . وهذه تعزية لنوح عليه السلام في قومه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، وتسلية له عما كان منهم إليه: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) أي: لا يسوء لك ما جرى فإن النصر قريب والنبأ عجيب عجيب. {وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } (سورة هود:37) . وذلك أن نوحاً عليه السلام لما يئس من صلاحهم وفلاحهم، ورأى أنهم لا خير فيهم، وتوصلوا إلي أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق، من فعال ومقال، دعا عليهم دعوة غضب لله عليهم، فلبى الله دعوته، وأجاب طلبته. قال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ ٱلْمُجِيبُونَ } * {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } (سورة الصافات: 75ـ76) . وقال تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ ٱلْكَرْبِ ٱلْعَظِيمِ } (سورة الأنبياء:76) . وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ }*{فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }(سورة الشعراء:117ـ118) . وقال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } (سورة القمر:10) . وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } (سورة المؤمنون:26) . وقال تعالى: {مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } * {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } * {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } (سورة نوح:25ـ27) . فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نبيهم عليهم. فعند ذلك أمره الله تعالى أن يصنع الفلك، وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها ولا يكون بعدها مثلها. وقدم الله تعالى إليه أنه إذا جاء أمره وحل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه، فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنه ليس كالمعاينة. ولهذا قال: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } * {وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} (سورة هود:37ـ38) . أي: يستهزئون به استبعاداً لوقوع ما توعدهم به، { قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } (سورة هود:38) . أي: نحن الذين نسخر منكم، ونتعجب منكم في استمراركم على كفركم وعنادكم؛ الذي يقتضي وقوع العذاب بكم وحلوله عليكم، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } (سورة هود:39) . وقد كانت سجاياهم الكفر الغليظ والعناد البالغ في الدنيا، وهكذا في الآخرة فإنهم يجحدون أيضاً أن يكون جاءهم من رسول. كما قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجئ نوح عليه السلام وأمته، فيقول الله عز وجل: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب. فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي. فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول محمد وأمته فنشهد أنه قد بلغ" وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } (سورة البقرة:143) . والوسط: العدل، وهكذا رواه. فهذه الأمة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق، بأن الله قد بعث نوحاً بالحق، وأنزل عليه الحق وأمره به، وأنه بلغه إلي أمته على أكمل الوجوه وأتمها، ولم يدع شيئاً مما ينفعهم في دينهم إلا وقد أمرهم به، ولا شيئاً مما يضرهم إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه. وهكذا شأن جميع الرسل، حتى إنه حذر قومه المسيح الدجال، وإن كان لا يتوقع خروجه في زمانه، حذراً عليهم وشفقة ورحمة بهم منه. كما قال البخاري: حدثنا عبدان، حدثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال سالم: قال ابن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: "إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني أقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور" وهذا الحديث في الصحيحين أيضاً من حديث شيبان بن عبد الرحمن، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أحدثكم عن الدجال حديثاً ما حدث به نبي قومه؟ إنه أعور، وإنه يجئ معه بمثال الجنة والنار، فالتي يقول إنها الجنة هي النار، وإني أنذركم كما أنذر به نوح قومه" وقد قال بعض العلماء: لما استجاب الله له؛ أمره أن يغرس شجراً ليعمل منه السفينة فغرسه وانتظره مائة سنة، ثم نجره في مائه أخرى، وقيل في أربعين سنة، فالله أعلم. قال محمد بن إسحاق عن الثوري: وكانت من خشب الساج، وقيل من الصنوبر؛ وهو نص التوراة. وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعاً. وهذا الذي في التوراة على ما رأيته. وعن ابن عباس: ألف ذراع في عرض ستمائة ذراع. وقيل: كان طولها ألفي ذراع، وعرضها مائة ذراع. قالوا كلهم: وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات؛ كل واحدة عشرة أذرع، فالسفلي للدواب والوحوش، والوسطى للناس، والعليا للطيور، وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها. قال الله تعالى: {قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } * {فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } (سورة المؤمنون:26ـ27) . أي: بأمرنا لك، وبمرأى منا لصنعتك لها، ومشاهدتنا لذلك، لنرشدك إلي الصواب في صنعتها. {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } (سورة المؤمنون:27) . فتقدم إليه بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه، أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها لبقاء نسلها، وأن يحمل معه أهله، أي: أهل بيته، إلا من سبق عليه القول منه، أي: إلا من كان كافراً فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد، ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد، وأمره أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعانيه من العذاب العظيم؛ الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد؛ كما قدمنا بيانه قبل. هذا أمر بأنه عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين. وفي كتاب أهل الكتاب: أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج، وما لا يؤكل زوجين: ذكر وأنثى. وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق: (اثنين) إن جعلنا ذلك مفعولاً به، وأما إن جعلناه توكيداً لزوجين والمفعول به محذوف فلا ينافي. والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف نطمئن؟ أو كيف تطمئن المواشي ومعنا الأسد؟ فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض. ثم شكوا الفأرة، فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا؛ فأوحى الله إلي الأسد فعطس، فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها" وقوله: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ } (سورة هود:40) . أي: من استجيب فيهم الدعوة النافذة ممن كفر، فكان منهم ابنه "يام" الذي غرق كما سيأتي بيانه. { وَمَنْ آمَنَ } (سورة هود:40) . أي: واحمل فيها من آمن بك من أمتك، قال الله تعالى: {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } (سورة هود:40) . هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم، ودعوتهم الأكيدة ليلاً ونهاراً بضروب المقال، وفنون التلطفات، والتهديد والوعيد تارة، والترغيب والوعيد أخرى. وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة. فعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفساً معهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفساً. وقيل: كانوا عشرة. وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية. بل هي نص في أنه قد ركب معه من غير أهله طائفة ممن آمن به، كما قال: وقيل: كانوا سبعة. وأما امرأة نوح وهي أم أولاده كلهم: وهي حام، وسام، ويافث، ويام ويسميه أهل الكتاب كنعان وهو الذي قد غرق، و"عابر" فقد ماتت قبل الطوفان، وقيل إنها غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها. وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك، أو أنها أنظرت إلي يوم القيامة، والظاهر الأول؛ لقوله: {htt
عدد زيارات الموقع فى اغسطس 2009م الجولة الثانية
فى اغسطس 2009م الجولة الثانية
|
ساحة النقاش