( السماع والكتابة )

 
 فالإنسان لا يعلمُ حتى يكثُرَ سماعُه ولا بُدَّ من أن تكون كتبُه أكثرَ من سَمَاعِه ولا يعلمُ ولا يجمع العلم ولا يُخْتَلَف إليه حتى يكون الإنفاقُ عليه من ماله ألذَّ عندَه من الإنفاق من مال عدوِّه ومَن لم تكن نفقتُه التي تخرج في الكتب ألذَّ عنده مِن إنفاق عُشَّاق القيان والمستهتَرين بالبنيان لم يبلغ في العلم مبلغاً رضِيّاً وليس يَنتفِع بإنفاقِه حتَّى يؤثِر اتِّخاذَ الكتبِ إيثارَ الأعرابي فرسَه باللبن على عياله وحتَّى يؤَمِّل في العلم ما يؤَمِّل الأعرابي في فرسه حرص الزنادقة على تحسين كتبهم . وقال إبراهيم بن السِّنديّ مرة : ودِدْتُ أنَّ الزنادقة لم يكونوا حرصاء على المغالاة بالورق النقيِّ الأبيض وعلى تخيُّر الحبرِ الأسودِ المشرِق البرَّاق وعلى استجادةِ الخطِّ والإرغاب لمن يخطّ فإنِّي لم أَرَ كورَق كتبِهم ورقاً ولا كالخطوط التي فيها خطّاً وإذا غرِمتُ مالاً عظيماً مع حبِّي للمال وبُغْضِ الْغُرْم كان سخاءُ النفس بالإنفاق على الكتب دليلاً على تعظيمِ العلمِ
 وتعظيمُ العلم دليل على شرف النفس وعلى السلامَة من سُكْر الآفات قلت لإبراهيم : إنّ إنفاقَ الزنادقةِ على تحصيل الكتب كإنفاق النصارى على البِيَع ولو كانت كتبُ الزنادقةِ كتبَ حكمٍ وكتبَ فلسفة وكتبَ مقاييسَ وسُنَنٍ وتبيُّنٍ وتبيين أو لو كانت كتُبهم كتباً تُعرِّف الناسَ أبوابَ الصِّناعات أو سُبُلَ التكسُّب والتجارات أو كتبَ ارتفاقاتٍ ورياضاتٍ أو بعض ما يتعاطاه الناسُ من الفطن والآداب وإنْ كان ذلك لا يقرِّب من غِنًى ولا يُبْعِد من مأثَم لكانوا ممَّن قد يجوز أن يُظَنَّ بهم تعظيمُ البيان والرغبةُ في التبيُّن ولكنَّهم ذهبوا فيها مذهبَ الدِّيانة وعلى طريقِ تعظيم المِلّة فإنّما إنفاقهم في ذلك كإنفاق المجوس على بيت النار وكإنفاقِ النصارَى على صُلْبان الذهب أو كإنفاق الهند على سَدَنةِ البِدَدَة ولو كانوا أرادوا العلمَ لكان العلمُ لهم مُعرضاً وكتبُ الحكمة لهم مبذولةً والطرقُ إليها سهْلةً معروفة فما بالُهُم لا يصنعون ذلك إلاّ بكتُب دياناتهم كما يزخرفُ النصارى بيوتَ عباداتهم ولو كان هذا المعنى مستحسَناً عند المسلمين أو كانوا يرون أنّ ذلك داعيةٌ إلى العبادة وباعثةٌ على الخٌشوع لبلَغُوا في ذلك بعَفْوهم ما لا تبلُغُه النصارى بغاية الجَهْد .

 

المصدر: كتب الحيوان للجاحظ ، تحقيق عبدالسلام هارون .
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 155 مشاهدة
نشرت فى 19 يونيو 2015 بواسطة mohammedelaskar

عدد زيارات الموقع

23,570