ذكروا أن النعمان بن المنذر كان له ثلاثة إخوةٍ؛ عمروٌ، ومالكٌ وكانا أخوين لأبٍ، وأم، وكانا ابني مهيرة- وكان النعمان وأخٌ له يسمى علقمة لأم ولدٍ، فهلك مالكٌ، فجزع عليه عمروٌ. وكان مالكٌ مرجواً عند أهل مملكتهم لحوادث الأيام ، وبوائق الدهر، فمات مالكٌ، فدخل على أخيه عمرو من الحزن ما كاد يقضي عليه ؛ فلما رأى علقمة ما بأخيه ، استأذن النعمان في تعزية عمروٍ وموعظته ، وسأله أن يجمع له رؤساء أهل مملكته ، وحلماءهم وعلماءهم ؛ فأجابه إلى ذلك.
فلما اجتمع الناس أذن لهم النعمان على قدر منازلهم ، فقام علقمة بن المنذر ، فثنيت له نمرقة الشرف ، على منبر الكرامة عن يمين النعمان ، وهو مقام عظماء المتكلمين ؛ فقال: يا عمرو ، يا ثمرة الرأي ، ومعدن الملك : إنما الخلق للخالق ، والشكر للمنعم ، وإنما التسليم للقادر ، ولا بد مما هو كائنٌ ، وإنه لا أضعفَ من مخلوقٍ ، ولا أقوى من خالق ، ولا أقدر ممن طلبته في يديه ، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه ؛ والتفكر نورٌ ، والغفلة ظلمةٌ ، والجهالة ضلالةٌ ، وقد ورد الأول ، والآخر سائقٌ متعبٌ ، وفي الأشياء عبرٌ ، والسعيد من وعظ بغيره ، وقد جاء ما لا يرد ، ولا سبيل إلى رجوع ما قد فات وذهب عنك ما لا يرجع إليك ، وأقام معك ما سيذهب عنك ، فما الجزع مما لا بد منه؟ وما الطمع فيما لا يرجى؟! وما الحيلة لبقاء ما سيفنى؟ وإنما الشيء من مثله، وقد مضت قبلنا أصولٌ نحن فروعها، فما بقاء فرعٍ بعد أصله؟