<!--

<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

ثقافة عزل القاضي في تراثنا

نعيش هذه الأيام حالة من الارتباك والتخبط السياسي بسبب المناداة بتطهير مؤسسة القضاء، وتباينت الآراء ما بين مؤيد لهذه الخطوة ورافض لها ومتحفظ عليها، أما المؤيدون فينطلقون في رؤيتهم لضرورة اتخاذ هذه الخطوة المهمة من اعتقادهم أن مؤسسة القضاء – كغيرها من مؤسسات الدولة- طالها الفساد وشابها العوار الذي شاب كل شيء خلال العهد البائد، ويرون أن هذا الفساد يشكل حجر عثرة في سبيل الوصول إلى أحكام عادلة وقضاء نظيف، وأنه بدون اتخاذ هذه الخطوة لن يحقق المصريون أهداف ثورتهم، ولن يروا أحكامًا عادلة تروي غلتهم وتشفي صدورهم.

ونحن نعلم أن مؤسسة القضاء كغيرها من مؤسسات الدولة فيها الكثيرون من الشرفاء، لكن فيها أيضًا مَن هم غير ذلك، فلا توجد مؤسسة في الدنيا كلها صلاح، ولا مؤسسة كلها فساد، ونحن عندما نطالب بالتطهير والتغيير، إنما نطالب بإزاحة المفسدين، والشد على أيدي الشرفاء ليكونوا عونًا على اجتثاث الفساد من جذوره، وفي مقابل هذه الرؤية تعالت أصوات كثيرة تصف المنادين بتطهير القضاء بالجهل، وتتحدث عن حصانة موقع القاضي وأنه لا يجوز عزله ولا تستطيع جهة تنفيذية – مهما كانت سلطاتها- أن تصدر في حقه أي قرار يمنعه من مباشرة عمله.

ونريد في هذا المقال أن نبين للرأي العام وجه الصواب في هذه المسألة، ونعرف موقف تراثنا الإسلامي من مسألة عزل القاضي من عدمه ليكون الجميع على بينة من أمرهم، فنقول: إن الراجح في الشريعة عدم جواز عزل القاضي، غير أن الفقه فصل القول في ذلك إلى اتجاهات مختلفة:

الاتجاه الأول: ذهب إلى أنه لا يجوز لولي الأمر أن يعزل القاضي، وبه قال الحنابلة والشافعية في القول المرجوح عندهم، واحتجوا لذلك ب‍ما يلي:

1-       أن تقليد القضاء عقد لا يملك ولي الأمر نقضه بعزل القاضي لأن هذا العقد عقد من الخليفة لمصلحة المسلمين.

2-       أن القاضي تولى منصب القضاء لولاية عامة المسلمين لمصالحهم العامة [لأن الإمام إنما يولي القضاء نيابة عن المسلمين].

الاتجاه الثاني: ذهب إلى جواز عزل القاضي من ولي الأمر مطلقًا، وذهب إلى ذلك الحنفية والظاهرية والمالكية، وفي الراجح عند الحنابلة، وقد احتجوا لذلك ب‍ما يلي:

1-       أن القاضي وكيل أو نائب عن ولي الأمر الذي ولاه وظيفة القضاء، وإن الموكل يملك عزل الوكيل، وقد ذهب إلى ذلك المالكية والشافعية في الراجح عندهم، ويضيفون أن عقد تولية القضاء من العقود الجائزة لا اللازمة.

2-       أن لولي الأمر مطلق الحق في عزل القاضي حتى لو لم يظهر منه أي خلل أو انحراف في قضائه كما ذهب إلى ذلك الظاهرية.

3-       أن ولي الأمر هو الممثل عن عامة المسلمين وهو يصدر أمر التعيين للقاضي بهذه المثابة، كما خوله عامة المسلمين بالتعيين، فإنهم أذنوا له بالعزل دلالة بحسب ما يراه من مصلحة، ومن ثمّ يكون عزله بالنتيجة من عامة المسلمين كما يذهب إلى ذلك الأحناف.

4-       ثبت من خلال التاريخ الإسلامي أن الخلفاء عزلوا قضاتهم، فقد تم عزل قاضي البصرة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعين مكانه كعب بن سوار، وولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أبا الأسود الدؤلي ثم عزله، كما أن الخلفاء عزلوا القضاة الذين كان لهم منصب القضاء مع الولاية، فعزل القاضي الذي لا يملك إلاّ ولاية القضاء أولى بالجواز، وأن عزل القاضي لا ضرر فيه على الناس لأنه سيولى قاضيًا بدله.

الاتجاه الثالث: ذهب الى عدم جواز عزل القاضي إلا بتحقق المصلحة، وذهب إلى ذلك الإمامية وبعض الجمهور؛ إذ ذهب الإمامية إلى أنه لا يجوز أن يُعزل القاضي اقتراحًا؛ لأن ولايته استقرت شرعًا, فلا تزول  تشهيًا, أما لو رأى ولي الأمر أو النائب عزله لوجه من وجوه المصالح، أو لوجود من هو أتم منه نظرًا, فإنه جائز مراعاةً للمصلحة, كما يرى بعض الجمهور جواز العزل مع تقييده بوجود المصلحة فيه, وعدم تعيين تولي القضاء على القاضي المراد عزله.

ونميل إلى الرأي الذي يرى عدم جواز عزل القاضي من ولي الأمر إلاّ مع تحقق المصلحة في ذلك وتقييدها في نطاق محدد وواضح، فإذا لم تكن هناك مصلحة ظاهرة ومعتبرة على وفق الشرع فإن العزل لا ينفذ، لأن ولي الأمر- وإن كان مبسوط اليد في أمر البلاد- مقيد بتحقيق مصالح العباد على وفق ما أمر به الله تعالى في أحكامه الشرعية، وأن القول بخلاف ذلك يؤدي إلى تعسف ولي الأمر في استعمال حقه خلاف الشرع الذي سوف يجر إلى المساس باستقلال القضاء؛ إذ يكون كل قاضٍ لا يلبي مصالح ولي الأمر وأهواءه عرضةً لأن تنتهك حرمة عمله من خلال العزل، وهذا يخالف تمامًا مقتضيات الشرع الشريف والعدالة الإسلامية.

كما أن الأدلة التي سيقت بمطلق حق ولي الأمر في العزل لا يمكن التعويل عليها؛ لأن القاضي يتولى القضاء لمصلحة المسلمين، كما أن عزل الخلفاء لقضاتهم كان منوطًا بتحقق المصلحة في ذلك، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأبي الأسود الدؤلي عند عزله: رأيت كلامك يعلو على كلام المتخاصمين، فعزلتك. وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشرحبيل بن حسنة: وجدت من هو مثلك في الصلاح وأقوى منك في العمل.

عزل القاضي الفاضل لتولية الأفضل:

كذلك فإن الفقه لم يهمل مسألة عزل القاضي الفاضل لتولية الأفضل، بل ناقشها واهتم بها، وفيها يرى بعض الفقهاء كالمالكية جواز عزل القاضي الفاضل لتولية الأفضل، ويرى بعضهم الآخر عدم جواز ذلك، لان هذا العزل يؤدي ـ برأيهم ـ إلى زعزعة القضاء ويكون مسوغًا لأصحاب الأهواء للإيقاع بالقضاة بحجة وجود الأفضل، فسدًا لذريعة هذا الفساد يمنع العزل بحجة وجود الأفضل.

لكن تبدو رجاحة القول بجواز عزل القاضي لتولية الأفضل، بل مقتضى الشرع وجوب العزل، لاسيما مع عظمة منصب القضاء الذي ينبغي أن يتولاه أفضل الناس وأكملهم شروطًا؛ لأن في ذلك- كما لا يخفى- صونًا لحقوق الناس وحرماتهم وإقامة عدل الله فيهم من خلال علم الأفضل بأحكام الشريعة أكثر من الفاضل؛ أما مَن يحتج بإمكانية الإيقاع بالقاضي من أصحاب الأهواء بدعوى وجود الأفضل، يرد عليها بأن معرفة الأفضل والتثبت من أفضليته لايكون من خلال من يريدون الإيقاع بالقاضي من أصحاب الأهواء، بل تكون من أهل التقوى والعلماء من الأمة، وهي مهمة ملقاة على عاتق ولي الأمر أولاً وأخرًا.

عزل القاضي بموت ولي الأمر أو عزله:

ناقش الفقه أيضًا مسألة انعزال القاضي بموت ولي الأمر أو عزله، ويرى بعضهم منع انعزال القاضي بموت ولي الأمر؛ لشدة الضرر وتعطيل الحوادث، ويرى بعضهم الآخر انعزال القاضي بموت ولي الأمر، فلو تصرف القاضي بعد موت ولي الأمر قبل علمه بذلك فلا يصح تصرفه؛ لأن ولايته قد بطلت، وكذلك لو حكم ثم نُعي ولي الأمر قبل التنفيذ فلا ينفذ لأن ولي الأمر شرط تنفيذ الحدود.

كما لا ينعزل القاضي إذا خُلع ولي الأمر أو تنازل عن منصبه جبرًا أو رضاءً أو اختيارًا، ولا ينعزل القاضي فورًا بعد صدور قرار العزل، بل لابد لنفاذه من أن يُعلم به، وقال أبو يوسف: لا ينعزل حتى يباشر خلفه، وذلك لصيانة حقوق الناس.

 ونستخلص مما سبق النقاط التالية:

1-    أن القضاء أمر لازم لقيام الأمم وحياتها حياة طيبة ولنصرة المظلوم وقمع الظالم، وقطع الخصومات، وأداء الحقوق إلى مستحقيها، وللضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد؛ كي يسود النظام في المجتمع، فيأمن كل فرد على نفسه وماله وعلى عرضه وحريته، فتنهض الدولة ويتحقق العمران ويتفرغ الناس لما يصلح دينهم ودنياهم، فإن الظلم من شيم النفوس، ولو أنصف الناس لاستراح قضاتهم ولم يحتج إليهم.

2-    أن القاضي لا يأخذ شرعيته إلا بتعيين من ولى الأمر أو نائبه وذلك حفاظًا على وحدة المسلمين وصيانة دمائهم، فالقضاء كما هو معلوم منصب من مناصب الدولة لا يجوز لغير ولي الأمر تعيينه إلا في حالة الضرورة، كما لو لم يوجد حاكم في بلد ما فإن لأهل العلم والرأي تعيين قاض يحكم بينهم، على أنه في حالة وجود حاكم بعد ذلك فلابد من إذنه.

3-    تمنع نصوص الشريعة وقواعدها العامة ولاة الأمور في الأمة من التدخل في القضاء أو التأثير في أدائه بأي وجه من الوجوه، من أجل ذلك أحاط رؤساء الدولة الإسلامية القضاء بكل مظاهر الإجلال والتكريم، وصانوه عن التدخل ضمانًا للحق وإرساءً للعدل، فلم يسعوا إلى تحويل الأحكام لصالحهم، أو لصالح من يحبون، وانما امتثلوا لأحكام القضاء بالاحترام والتنفيذ.

4-       أن مبدأ عدم قابلية القاضي للعزل هو من المبادئ المهمة والأساسية في إقرار استقلال القضاء وحمايته من خلال منع السلطة التنفيذية من التدخل في عزل  القاضي؛ لأن مخالفة هذا المبدأ يؤدي إلى أن تبادر هذه السلطة إلى أن تجعل من إمكانية عزل القاضي وسيلة ضغط لتملي إرادتها عليه، وقد تحيد به عن تطبيق القانون كما ينبغي، وفي هذه الحالة يكون القاضي خائفًا على الدوام من أن يفقد منصبه في حال عدم رضا السلطة التنفيذية عنه.

5-  القول باعتماد مبدأ عدم قابلية العزل على إطلاقه ليس صحيحًا ولا يتوافق مع ضرورات الواقع القضائي وما ترافقه من حالات تطرأ على ساحته وتكون بحاجة إلى معالجة من خلال اتخاذ إجراءات بحق القاضي- ومنها العزل- ليكون إحدى الوسائل التي يبتغى منها تدعيم مركز العدالة من خلال اجتثاث القضاة غير الجيدين وغير الجديرين بشغل وظيفة القضاء.

6-       ولما كان مركز القاضي في المجتمع مركزًا مهمًّا وخطيرًا لأنه هو الذي يفصل بين الناس، فينبغي أن يكون محل ثقة واحترام الناس لتطمئن إلى عدالته في الحكم، ولا يستطيع القاضي أن ينال هذه المنزلة عند الناس إلا بالدليل الملموس الذي يقدمه للناس في سلوكه المرضي البعيد عن الشبهات وفي صرامته في التمسك بعدالة الحكم بين الخصوم؛ لذا نبه الفقهاء إلى ما ينبغي أن يبتعد عنه القاضي في سلوكه وسيرته وأعماله، والقاعدة العامة في سلوكه هي أن يكون مُرضيًا لا تثار حوله الشكوك والريب.

7-       يجوز عزل القاضي من قبل ولي الأمر أو نائبه إذا اقتضت مصلحة الناس ذلك، كتسكين فئة، أو وجد الإمام مَن هو أقوى منه وأفضل وأصلح للقضاء، أو ظهر عجزه وعدم كفاءته، أو أقر بأنه حكم بجور متعمدًا أو ثبت عليه ذلك بالبينة، أو فعل أفعالاً تخل بالمروءة والشرف، كقبول الرشوة، أو المعاونة على الظلم والرضا به، فإنْ عزله ولي الأمر لغير مصلحة أو بدون سبب معتبر فإنه لا ينعزل.

8-       يجوز نقل القضاة إلى وظائف غير قضائية إذا ثبت عدم صلاحيتهم لمنصب القضاء لأسباب غير صحية، أو ثبت أن أعمالهم دون المتوسط أو لم تحقق العدالة المطلوبة.

وأرجو أن تكون هذه السطور قد نجحت في بيان ثقافة عزل القاضي في تراثنا الإسلامي وتوضيحها لإزالة الالتباس الحادث عند الكثيرين على الساحة السياسية الآن، فالعلم بهذه الأمور من شأنها المساعدة في إبداء الآراء بصورة صحيحة واتخاذ المواقف المناسبة والمتوافقة مع منطوق الشريعة وصحيح القانون.

   د/ محمد علي دبور

أكاديمي وباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

[email protected]

 

المصدر: مقال شخصي

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

77,826