الإسلام والسياسة – تصحيح مفهوم

إننا في ظل هذا العهد الجديد والثورة المجيدة في حاجة ماسة لغربلة العديد من المفاهيم المغلوطة التي عششت في رءوس الكثيرين منا، وظننا – مع طول الوقت وصمت أهل الحق عن البيان والتوضيح- أنها أصبحت من المسلمات في حياتنا الفكرية والثقافية، والحقيقة أنها جزء من الرواسب الفكرية الخاطئة التي خلفها الاستعمار وأذنابه من بني جلدتنا ممن يدعون الإسلام على طريقتهم لا على الطريقة والمنهج الذي ارتضاه لنا رب العالمين.

وكان من أهم هذه المفاهيم (علاقة الإسلام بالسياسة)، فالمتابع لإعلامنا المسموع والمقروء يلحظ أن الكثيرين يتحدثون عن السياسة وكأنها رجس من عمل الشيطان، أو أنها عورة أو عار، وأنها مرادفة للكذب والخداع والتحايل والرشوة والحرص على المصلحة الشخصية، وهؤلاء في تصورهم هذا محقون طبقًا للواقع العملي الذي يعيشه المسلمون الآن؛ لأنهم لم يعيشوا إلا هذه الأجواء السياسية المغلوطة، ولم يعرفوا عن السياسة إلا هذه المترادفات التي غلبت على ثقافتنا، وصارت واقعًا لا يمكن الفكاك منه.

وغاب عن هؤلاء أن هناك ما يُعرف باسم (السياسية الإسلامية)، تلكم السياسة التي تأخذ عناصرها وتستمد مقوماتها من مبادئ الإسلام وقيمه، وهي سياسة نقية بعيدة كل البعد عن الكذب والغش والخداع والتحايل، إنها (السياسة النظيفة) التي لا تعرف إلا الصدق والأمانة والأخلاق النبيلة دستورًا لها، إنها (سياسة الإسلام).   

وهذا المفهوم سيستغربه الكثيرون وينكرونه؛ لأنهم أصبحوا أسرى لكثير من حملات التغريب والتزييف التي سيطرت على إعلامنا وتعليمنا لقرون عديدة مكَّنت لترسيخ مصطلحات باطلة في ثقافتنا، ووارت المصطلحات الصحيحة والمفاهيم الحقيقية عن واقع المسلمين، وسنحاول في السطور التالية إزالة جزء من الضبابية التي غلفت علاقة الإسلام بالسياسة، وحاولت الانتقاص من شمولية هذا الدين العظيم. 

فهل الإسلام يَعْرِفُ السياسة؟ أو بصيغة أخرى: هل السياسة جزءٌ من الإسلام؟ أم أنهما متضادان لا يمكن الجمع بينهما كما يرى الليبراليون والعلمانيون في مجتمعنا؟

إن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، ولم يترك جانبًا من جوانب حياة المسلمين إلا ووضع له من القواعد والنظم ما يضبط حركته وفاعليته في المجتمع الإسلامي، فهو دين ودولة، عقيدة وعمل، عبادات ومعاملات، وليس مجرد شعائر تقام، أو مجرد عبادة وذكر لله في المساجد وفقط، ورغم أن هذه الشمولية هي أولى المسلمات الكبرى في حياة المسلمين إلا أن مسألة علاقة الإسلام بالسياسة، أو علاقة الدين بالدنيا ما زالت تثار بين الحين والآخر وتشغل أقلام الكثيرين، فالبعض يجتهد لإثبات هذه العلاقة بالأدلة التاريخية والبراهين، والبعض الآخر ينبري لنفيها وسلخ الإسلام عن السياسة أو سلخ السياسة عن الإسلام.

إن الإسلام دين يرتكز على مجموعة من المبادئ والمثل والقواعد والأسس والتشريعات والنظم التي يراد منها أن تكون أدوات ووسائل لتنظيم السلوك الإنساني في هذه الحياة من ناحية التفكير والاعتقاد والحركة والسكون والعبادة والعادة والمعاملة والسلوك، وبما يحقق مطالب الروح والجسد، ويؤمِّن حقوق الفرد والجماعة، ويرتب علاقات الأفراد والجماعات والشعوب.  

وهو من أجل ذلك دين ودولة، وعبادة وقيادة، وعقيدة وشريعة، ولذلك لا يمكن لعاقل أن يتصور دولة إسلامية بغير دين، كما لا يمكن أن يتصور إسلامًا كهنوتيًّا جامدًا جافًّا بعيدًا عن توجيه المجتمع وسياسة الأمة.

وعلى هذا يجب أن يقال إن الإسلام: صلة بين العبد وربه، وصلة بين العبد ونفسه، وصلة بين العبد ومجتمعه، وصلة بين العبد وبيئته، وصلة بين العبد وسائر الكائنات الحية التي تحيط به، وصلة بينه وبين الأشياء كلها حتى لو كانت جامدة؛ لأن الإسلام قد وضع للإنسان مبادئ وتعاليم تنظم علاقته بكل ناحية من نواحي الحياة هذه.

إن الكثيرين ممن ينعتون أنفسهم بالمفكرين أو المجددين من أبناء الإسلام وغيرهم يريدون أن يحصروا الإسلام في إطار المسجد فقط، فإذا ما خرج المسلم من مسجده، فإن عليه أن يترك إسلامه داخل المسجد، ويحظر عليه أن يتعامل به خارج هذا الإطار، أي خارج إطار المسجد، فإن للحياة وللحكم وللسياسة – من وجهة نظرهم – قوانين وتشريعات أخرى لا علاقة للإسلام بها، وليس مؤهلاً للوصول إليها والتعامل معها.    

إن الإسلام في نظر هؤلاء لا يتجاوز الصلاة والصيام والزكاة والحج، وليس في مقدوره أن يتجاوز هذا الإطار الضيق، إنه – من وجهة نظرهم – لا يتعدى أن يكون مجموعة من العبادات والطقوس يؤديها المسلم داخل المسجد وكفى.

لقد استكثر هؤلاء على الإسلام شموليته وعبقريته في إيجاد نظام سياسي شامل، وأوغر صدورهم أن تكون السياسة جزءًا لا يتجزأ من مفهوم الإسلام نفسه، فاجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد في أن ينزعوا عنه مثل هذه الشمولية، وأن ينكروا كل صلة له بالسياسة.                      

إنه ليس من المتصور في ظل شمولية الإسلام لكل جوانب الحياة أن يترك أو يهمل أو يغفل شئون السياسة وما يتعلق بها من شئون الدولة والحكم، بل إن نظام الحكم جزء لا يتجزأ من الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية.   

                                 

د/ محمد علي دبور

[email protected]

المصدر: مقال شخصي
  • Currently 35/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
11 تصويتات / 992 مشاهدة
نشرت فى 18 يونيو 2011 بواسطة mohammeddabbour

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

77,825