في حساب الربح والخسارة بعد إعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد الذي أقرته حكومة مجرمي الحرب في تل أبيب يتضح دون خلاف بين المراقبين أن أكبر الخاسرين هي مصر والرئيس مبارك، وأن إيران سجلت نقاطا كبيرة لصالحها أيا كان الاختلاف أو الاتفاق معها.
مصر بعد 3 أسابيع من حرب مجنونة على غزة تهدف إلى كسر إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني وإخضاع حماس لـ "عباس" وإسكات منصات الصواريخ التي تنهمر على مدن ومستوطنات جنوب فلسطين وتصيب الصهاينة بالهلع ليس من صوت الصواريخ أو من الدمار البسيط الذي تحققه أو الإصابات الطفيفة ولكن من المستقبل، إذا امتلكت المقاومة ما هو أكبر أو صمدت في معركة الإرادة أو في المواجهة مع دول مازالت تتمنع في وجه المشروع الصهيوني وفي ظل توازن قوى وردع متبادل ونظام صاروخي باليستي وتغيرات ديموجرافية على الأرض تنذر بطرح أسئلة من نوع: كيف تستمر إسرائيل في الحياة؟ (مجلة التايم) أو "حرب المائة عام" (الايكونومست) أو "مستقبل إسرائيل" (النيوزويك)
ماذا كان تصور مصر خلال تلك المواجهة؟ كانت ضد المقاومة ومع التسوية، كانت تراهن على وحدة الصف الفلسطيني خلف (محمود عباس)، كانت تراهن على الإبقاء على علاقتها الحميمة مع الكيان الصهيوني على أمل أن تستفيد بتلك العلاقات فوق الطبيعية لتخفيف المعاناة عن الفلسطينيين أو الإسراع بعملية التسوية (وطبعا لأسباب أخرى لا تخفى على أحد تتعلق بانتقال السلطة إلى الوريث).
قمعت مصر التأييد الشعبي في القاهرة التي يحتشد فيها الإعلاميون وسمحت به في المحافظات، واعتقلت حتى الآن حوالي الألف من الإخوان وأنصارهم في حادث ليس له مثل في أي بلد عربي أو إسلامي أو عالمي، فلم نسمع حتى في الضفة الغربية أو الأردن مثلا عن اعتقالات بسبب التضامن مع غزة أو تحقيقات في النيابة بذريعة إمداد غزة بالإغاثة الإنسانية أو تأليب الجماهير على التظاهر دعمًا لغزة واستغلال مشاعرها، وهي الاتهامات التي تم توجيهها إلى العشرات الآن وقبل أن تصمت المدافع وتكف الطائرات عن الأزير في سماء غزة أو ترحل الدبابات عائدة إلى حظائرها في القواعد الصهيونية بدات مصر تشعر بالإهانة وبدت مثخنة بالجراح. فهل تلملم مصر جراحها؟ وهل يبتلع الرئيس مبارك الإهانة التي ألحقها به أولمرت وليفني وباراك؟ لا أعتقد.
فها هو الرئيس في خطابه المتلفز يوم السبت 17/1 يدعو "أولمرت" من جديد إلى لقاء مع "عباس" بحضور "ساركوزي" لماذا؟
هل للخروج من المأزق؟ أو للعتاب الذي لا يفسد للود قضية ويبقى الود ما بقى العتاب!!
لقد كانت سخرية "أولمرت" من "مبارك" قاسية وهو يعلن أنه استجاب لندائه بوقف إطلاق النار الذي أطلقه عبر التليفون.
قرار معلن منذ أيام، ويدعي العدو أنه اتخذه بعد تحقيق كافة أهدافه (التي لم يعلن عنها أبدا كي لا يتعرض أثناء التحقيق للحساب العسير) واتخذه من جانب واحد دون أي اعتبار للزيارات المكوكية "لعاموس جلعاد" للقاهرة والمفاوضات الشاقة التي بذلت مصر وعمر سليمان جهودا هائلة للضغط على حماس وإجبارها على المرونة وقبول التنازلات رضيت عنها مصر أخيرًا، وبعد توريط مصر في اتفاق أمني صهيوني ـ أمريكي، على حساب مصر ويلزمها بما لا يجب أن تلتزم به أبدًا ويتهمها أنها شريكة في تهريب السلاح وهي التي أفسدت أمنها القومي بالضغوط المستمرة على أهلنا في سيناء بسبب الاتهامات التي يوجهها لهم العدو بأنهم يدعمون أهل غزة عبر التهريب المستمر للغذاء والدواء والسلاح بينما يظهر الآن حديث جديد حول التهريب عبر البحر لأسلحة إيرانية متطورة كانت سببًا رئيسيًا في صمود المقاومة ويجرى حديث غريب عن بناء جدار عازل تحت الأرض على الحدود المصرية الفلسطينية لمنع التهريب.
ولم يتحدث أحد من أبواق الإعلام أو يتساءل عن عدم هروب الفلسطينيين تحت القصف من غزة إلى رفح أو العريش، ولم يتح اجتياح الحدود، بل صمد أهل غزة خلف قيادتهم والمقاومة في وجه العدوان، وقدموا الشهداء قوافل والجرحى بالآلاف ولم يتألموا أو يصرخوا إلا في وجه الذين خانوا قضيتهم وباعوهم للعدو بثمن بخس.
على مصر تلملم الآن جراحها وتحاول أن تستعيد ثقتها بنفسها، بدلا من الهجوم المستمر على قطر والجزيرة وإيران.
علينا أن نلتفت إلى أنفسنا ونلملم جراحنا ونستعيد الثقة بأنفسنا فنحن نشكل أكثر من 90% من الأمة الإسلامية ولدينا قدرة على النهوض إذا امتلكنا الإرادة القوية والفهم السليم والتضحية اللازمة والوفاء المطلوب والمعرفة الصحيحة بمنهج النهوض.
والآن هل يبتلع الرئيس مبارك إهانة العدو أم يرد له الصاع صاعين بدعم المقاومة والتحول الكبير في استراتيجية مصر نحو فلسطين والمنطقة والعالم؟
إذا كان تليفون الرئيس ونداءه هو الذي أوقف العدوان فلماذا لم يتصل مبكرًا؟
وإذا كان اتصل بالفعل ووجه النداء تلو النداء فلماذا لم يستجب العدو إلا الآن؟
أم أن التليفونات كانت مفقودة والحرارة ضائعة والصوت لا يصل.
يعيد الرئيس طرح مبادرته التي أهدرها العدو واستهزأ بها بينما تجاوبت معها حماس ورحبت بها وتعاملت بمرونة على قمة دولية في "شرم الشيخ" يرأسها معه "ساركوزي" وهذه بالتالي تعيد إلى الأذهان القمة المأسوف عليها في نفس المكان أيضا عام 1996م والتي رأسها "كلينتون" وحضرها "بيريز" و"عرفات" وسموها "ضد الإرهاب" وكانت نتيجتها ما حدث في "نيويورك" و"أفغانستان" و"العراق" و"الصومال" و"لبنان" و"فلسطين" وإزاحة عرفات من المشهد بالسم
ساحة النقاش