الرئيـس محمد نجيب في أيامه الأخيرة
ماتت زوجته و أولاده و عاش وحيداً مع القطط و الكلاب
طاهر البهي من القاهرة:
( 1 )
هذا العام مرت الذكرى الخامسة والعشرون
على رحيل اللواء أركان حرب ، محمد نجيب ، أول رئيس
لمصر بعد الثورة ، و الأب الروحي للضباط الأحرار..
و لكن للأسف لم تتذكره الصحف ، ولا حتى في مناسبة كهذه ،
و هذا ليس غريباً في سياق سوء الحظ الذي لازم هذا الرجل حياً و ميتاً..
وان كان الرئيس مبارك قد أنصفه فى حياته.
(2)
يمثل لي الرئيس ( الأول ) محمد نجيب ، حالة خاصة من ( وجع القلب )
أرى فيه نموذجاً – لا يحتذي – لسوء الحظ ( الخام ) ال pure !
و أنا عاشق القصص المأسوية ، بنفس قدر عشقي لقصص النجاح و الصعود !
و .. محمد نجيب (الرئيس الأول في تاريخ مصر) اجتمعت فيه الصفتان : الصعود ثم السقوط السريع إلى حد ( الانبطاح ) بفعل غدر الزمن .
كنت في مراهقتي – العام 1975 و ما حولها – في مدرسة متواضعة خاصة ، و إذا بزميل لي يقول : ألا تريد أن ترى محمد نجيب ، و لما استفسرت عرفت أنه يقصد (الرئيس الأسبق) محمد نجيب ، و كونه الرجل الذي وضع رقبته تحت المقصلة ، عندما ذهب إلى ملك مصر و السودان فاروق المعظم ، يطلب منه مغادرة مصر على مركب " المحروسة "
هتفت من قلبي : هو عايش ؟
قال زميلي الذي علمت أنه جار رئيس مصر : عايش و يشير لنا كل يوم بيده !
كدت أن أحتضن زميلي ، الذي يرى و ( يشاور ) لأول رئيس لمصر بعد الثورة و اتفقنا على الذهاب في اليوم التالي ....
لم أجرؤ على قصّ الحكاية لأبي ، و لكني أخبرت والدتي .. فرفضت ، و لعلها استشعرت بأن في الأمر مخاطرة .. أو شبهة ( سياسة) و العياذ بالله .
هل تحولت زيارة مواطن من أفراد الشعب إلي رئيس جمهوريته إلى عمل سياسي؟
هل ( المشاورة ) إلى اللواء أركان حرب ( هو رفض رتبة الفريق ) محمد نجيب ، أمر ينطوى على تمرد ؟
في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة ( حزين) ، كلي حزن على زيارة لن تتم إلى الرجل الذي وجدت له صورة في مجلات أبي الأثرية ، و أعجبتني جداً إبتسامته ،
(3)
و إعتزازه الواضح بنفسه في بدلته العسكرية اللامعة ، و انحناءة التواضع الممزوج بالثقة ، حتى أذكر أمي أنها قالت عنه يوماً : و النبي كان راجل طيب !
[ و أمي إمرأة ريفية بسيطة غاية في البساطة ]
طيب ليه .. طيب ف إيه .. لم تزد و لم تنقص !
سألت زميلي الذي تعاطف مع حلمي الذي لن يتم ، عن ( شكل الرئيس نجيب ) ، فقال إنه أصبح رجل عجوز ، يمضغ البايب بين شفتيه طوال اليوم ، و أنه يعيش معه كلب حراسة ضخم و بعض القطط التي تمرح بين يديه ، و يطعمها بيده ، و أكثر من هذا أنه طلب من زميلي ذات يوم شراء علبة دخان ، من داخل قصره المهمل.
و لم يكن هذا القصر ، هو قصر الرئيس ، بل إنه كان قصر يخص زوجة النحاس باشا ، و كان عبارة عن استراحة صيفية لها قبل أن يتم تأميمه ، ثم استعاده الورثة ، و ليطرد منه الرئيس نجيب ، حتى تدخل الرئيس مبارك و أمر بتوفير قصر بديل له في منطقة كوبري القبة (حلمي سلام / الجمهورية 28/4/1983)
...................................................................................يااااه .. زخم من الذكريات توالي على ذاكرتي .. صور مضيئة و أخرى مأسوية ، و أنا أحاور مؤلف أول فيلم عن الرئيس المظلوم، وأتأمل هذه الصور المنشورة مع المقال ، و كأن نجيب ( الرئيس ) يذكرني بنفسه ، بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على هذه الوقائع ، لأبدأ على الفور في استعادة كل ما قرأته عن الرجل و مأساته التي تعد واحدة من أقصى عبر التاريخ ، فالرجل الذي احتلت صوره ( صورة واحدة علي وجه الدقة لم يمهله القدر ليتبعها بأخرى ) مكان الصدارة في المقاهي ، و المتاجر الكبرى ، و مكاتب كبار المسئولين الرسميين ، أصبحت بضاعة غير مرغوب فيها ، بضاعة " فالصو " ماركة " الجمل " و هي ماركة الذهب المضروب " القشرة " أو ذهب صيني بلغة بضائع هذه الأيام .
صورة الرئيس
تخلص منها الموظفون الرسميون ، في حين استبدلها الأخرون بصور الرئيس الجديد ، و هذا حق الناس في أن يختاروا زعيمهم ، و لكن ليس من حقنا أن ننسى رؤساءنا .. رموزنا ، بقدر ما أعطوا ، و بقدر ما بادرنا بمنحهم ثقتنا
[ راجعوا صور الاستقبالات الشعبية للرئيس نجيب في مناسبات عديدة خلال الفترة القصيرة التي تحمل فيها المسئولية ].
* يقول الكاتب العملاق الراحل صلاح حافظ .. و تأملوا ما يقول :
" و غمرت صور محمد نجيب الجدران ، و الأرصفة ، و علقها المصريون في المتاجر ، و المقاهي ، و غرف النوم ! و أثرى مئات الناس من طبع هذه الصور و بيعها للجماهير المتعطشة إليها ... الصورة بنصف قرش ! "انتهى كلام استاذنا صلاح حافظ .
هل انتهى دور نجيب؟
و لكن لم يهنأ محمد نجيب بالزعامة ، بل سرعان ما " نفد رصيده " و التاريخ وحده يستطيع أن يتكلم عما إذا كان نجيب قد أخطأ أم لا .. و لكن ما نعرفه – فقط – هو أن دوره قد انتهي على مسرح الأحداث ، و لابد للفارس لأن يترجل ، ليمتطي صهوة الزعامة رئيس جديد ، أكثر تماشياً مع فكر الثورة الجديد ، مع روح العهد الجديد ..مع عجلة الزمن.. و هي روح لا تغازل ما قبلها ، بل تسعى لخلق عصر جديد ، و ليس هذا مجالنا ، بل نحن نمضي في سياق القصة الإنسانية المغرية بالتناول لرئيس جاء و ذهب ، دون أن يذكره أحد ، دون أن يختفي باسمه أحد على الرغم من أنه يمثل حلقة لا يمكن تجاهلها في التاريخ المصري المعاصر.
* محمد نجيب الرئيس الذي رحل ، و رصيده في البنك الأهلي المصري
( فرع مصر الجديدة ) 624 جنيهاً مصرياً ، و يوم ترك منصبه كان رصيده 899 جنيهاً و 61 مليماً !
و أنه حاول إستبدال (20 ) جنيهاً من معاشه ، ليحصل على مبلغ يحوله إلى ابنه خارج الحدود، كمصاريف عملية جراحية دقيقة ، و لم يكن يملك شيئاً من مصاريف العملية !
السادات ونجيب
ساحة النقاش