بغض النظر عن الخلاف في الرأي حول مفاهيم التنمية وهل هي مستقلة كما تدعو الي ذلك اوراق مؤتمر السياسات البديلة التي نتناولها بالنقاش, او تنمية في ظل الليبرالية الجديدة التي فرضتها موجات العولمة السائدة, فإن المحك هو هل الوسائل التي تتبع في تحقيق التنمية فعالة او لا لتحقيق الاهداف التي لا خلاف بشأنها, وهي ان تؤدي الي ترقية احوال البشر؟وهذا الهدف هو الذي اشارت اليه بوضوح ادبيات العلم الاجتماعي المعاصر حين صاغ خبراء التنمية مصطلح نوعية الحياة.
بعبارة اخري هناك مقاييس ومؤشرات علي فعالية جهود التنمية وآثارها الايجابية علي الإنسان في مجالات الغذاء والصحة والتعليم والسكن, واكتساب المعارف الحديثة, والقدرة علي التعلم مدي الحياة, وذلك كله بالاضافة الي الآثار الايجابية للتنمية الثقافية فيما يتعلق برفع مستوي الوعي الاجتماعي, والقدرة علي التعامل مع ادوات الثورة الاتصالية والانفتاح علي العالم المتغير.
وهذه الاهداف جميعا لا يمكن تحقيقها في ظل سياسة الليبرالية الجديدة التي تدعو الي ان تكف الدولة يدها عن التدخل في الاقتصاد, وترك امور التنمية لتكون مسئولية القطاع الخاص.
وقد رأينا الآثار السلبية لهذه التوجهات, والتي ادت في الواقع الي قيام فجوة طبقية كبري بين من يملكون ومن لا يملكون, وشيوع البطالة, وانتشار الفقر.
وفي إطار مناقشتنا النقدية للورقة البحثية المهمة التي قدمها د. نادر فرجاني في مؤتمر السياسات البديلة والتي اختلفنا مع عدد من آرائه فيها, وخصوصا فيما يتعلق بمفهوم التنمية المستقلة, الا ان له آراء صحيحة تماما فيما يتعلق بوسائل التنمية علي وجه الخصوص.
واهم فكرة يدعو اليها هي ضرورة انشاء اقتصاد مختلط, بمعني بالاضافة الي القطاع الخاص الذي لابد ان يعمل تحت اشراف دقيق من الدولة, لابد من انشاء قطاع اعمال يتسم بالكفاءة والقدرة علي التجديد ويعمل وفق خطة مدروسة لإشباع الحاجات الأساسية والكمالية للناس.
ولاشك ان الحاجة تدعو الي مواجهة السياسة التي هدفت الي تصفية اصول قطاع الاعمال العام. وهذه السياسة التي لم تتسم بالشفافية الكاملة, ادت في الواقع الي سلبيات شتي, تمثلت في احالة العمال الي المعاش المبكر او تسريحهم, كما ان عديدا من الاصول بيعت بأثمان بخسة, وفي حالات عديدة ادي سوء ادارة القطاع الخاص لهذه الاصول الي ان تستردها الدولة لتديرها بمعرفتها, وهذا مؤشر علي التسرع في برنامج الخصخصة, بغير دراسة كافية.
غير اننا لا نوافق علي اقتراحات ورقة التنمية المستقلة حين تدعو الي تأميم المشروعات الاحتكارية التي اضحت مملوكة للقطاع الخاص المحلي والاجنبي والتي اقتنصت بأثمان بخسة في حمي الخصخصة, وافضت الي مثالب مجتمعية عديدة, دون ان تسهم في وجود فرص العمل او تعظيم الناتج او ترقية الانتاجية.
وخطورة هذا الاقتراح الذي يدعو الي تأميم بعض مشروعات القطاع الخاص التي تم شراؤها من الدولة, انها قد تكون مؤشرا للعودة مرة اخري الي اقتصاد الاوامر الذي ساد خلال الحقبة الاشتراكية في مصر وكانت له سلبيات شتي. كما انه سيعطي اشارات للمستثمرين المصريين والعرب والاجانب بأن هناك عودة مرة اخري للاساليب الاقتصادية القديمة التي ألغت دور القطاع الخاص, وجعلت الدولة بمفردها هي التي تقوم بالإنتاج.
وفي تقديرنا ان سياسة التأميم حتي ولو كان جزئيا لا تصلح في مناخ اقتصادي عالمي يدعو للحرية الاقتصادية. والدكتور نادر فرجاني محق تماما في الانتقادات التي وجهها الي قطاع الاعمال فيما مضي, الذي عاني ـ كما يقول ـ في سياق سياسات اقتصادية واجتماعية غير رشيدة, من سوءات تردي الانتاجية والبطالة المستترة وضعف العائد الاقتصادي.
ومن ثم اذا اردنا دورا جديدا وضروريا لقطاع الاعمال العام, فلابد لذلك من رؤية حديثة تقوم علي اساس الإلمام العميق بفنون الادارة الحديثة, واهم من ذلك الاختيار الدقيق لطبقة المديرين, ووضع نظام خاص للمرتبات والحوافز يكفل لهم الاستقرار, ويشجعهم علي التنافس الخلاق مع القطاع الخاص. والمقترحات التي تدعو لها ورقة د. نادر فرجاني بصدد تبني اشكال جديدة من الملكية العامة جديرة بالدراسة, وخصوصا في مجال استحداث انواع جديدة من الملكية العامة, توسع نطاق الملكية من الحكومة الي الشعب وتكرس الملكية التعاونية.
والواقع ان هذه ليست مقترحات نظرية فقط, والدليل علي ذلك ان دول اوروبا الشرقية التي تحولت من اقتصادات التخطيط الي الاقتصاد الحر, استحدثت انواعا متعددة من الملكية كان لها اثرها الايجابي في رفع معدلات التنمية, وفي زيادة احساس الجماهير بأنها مشاركة بشكل فعال في جهود التنمية. ومن بين هذه الانواع الملكية التعاونية وملكية العاملين في المشروعات لكل او بعض الاصول, بالاضافة الي انواع اخري تستحق ان تدرس دراسة متعمقة.
بعبارة اخري في مجال مراجعة البنية الاقتصادية المصرية نحن نحتاج حقا الي قطاع اعمال يتسم بالحيوية والفعالية والقدرة علي التنافس مع القطاع الخاص, في اطار من الشفافية والحكم الصالح, بالاضافة الي الجهود الخلاقة للقطاع الخاص التي ظهرت آثارها الايجابية في بعض المجالات الحيوية, ولكن تحت اشراف دقيق من قبل الدولة... ويقتضي ذلك البحث عن صيغة مناسبة فقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك ان غياب المعايير المقننة في هذا المجال له آثار سلبية.
والاقتصاد المختلط لابد من ان يقوم علي اساس تخطيطي سليم. وليس معني ذلك بالضرورة العودة الي التخطيط الذي كانت تحتكره الدولة بالكامل من قبل,ولكن هناك التخطيط التأشيري الذي تتبعه بعض الدول الرأسمالية, والذي يتمثل في تحديد آليات ائتمانية اساسا للتشجيع في مجال الاستثمار في مجالات حيوية.
غير انه في تقديرنا بالرغم من كل المقترحات الايجابية التي اثيرت بصدد تأسيس اقتصاد مختلط يقوم علي اساس قطاع اعمال كفء من جانب, وقطاع خاص نشط وفعال, فإن اهداف التنمية المستدامة, لا يمكن تحقيقها بغير صياغة رؤية استراتيجية للمجتمع المصري.
وهذه الفكرة المحورية أكدناها عديدا من المرات في مقالاتنا وابحاثنا وكتبنا المتعددة.
والرؤية الاستراتيجية ـ بحسب التعريف هي صورة مجتمع ما في العشرين عاما القادمة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وهذا المفهوم حل في المواقع محل مفهوم المشروع القومي الذي كان ذائعا استخدامه في ادبيات النقد الاجتماعي, باعتبار ان غيابه هو المسئول عن تعثر جهود التنمية.
ومن سلبيات هذا المفهوم غموض الفكرة التي يقوم عليها وتصور انه يحتاج الي فترة زمنية طويلة حتي يتحقق بعبارة اخري هو يتحدث عن الاجل الطويل, في حين ان ميزة مفهوم الرؤية الاستراتيجية انه يتحدث عن الاجل المتوسط.
وأهمية هذه التفرقة ترد إلي أننا نعيش في عالم يفتقر إلي اليقين ويستحيل التنبؤ بمساره علي الأجل الطويل ولذلك لم يكن غريبا أن تركز مشاريع الاستشراف العالمية والإقليمية والمحلية علي الأجل المتوسط.
وهذا هو لب تعريف الرؤية الاستراتيجية.
والدليل علي ذلك ان الولايات المتحدة الامريكية اصدرت في شهر نوفمبر2008 تقريرها الاستشرافي البالغ الاهمية بعنوان الاتجاهات العولمية2025 وله عنوان فرعي هو عالم تغير.
وهذا التقرير يأتي في سلسلة تقارير كانت كلها تركز علي حقبة العشرين عاما.
ومعني ذلك اننا لو اردنا أن نضع رؤية استراتيجية للمجتمع المصري فلا ينبغي ان تتعدي عملية الاستشراف حد العشرين عاما المقبلة.
ولكن يثور السؤال المحوري: كيف توضع الرؤية الاستراتيجية؟
وفي الرد علي هذا السؤال اكدنا في اكثر من مرة ان هذه عملية مجتمعية لا ينبغي ان ينفرد بوضعها الحزب الوطني الحاكم باعتباره حزب الاغلبية ولا الحكومة, ولكن ينبغي ان تشارك في وضعها كل مؤسسات المجتمع ومراكز الابحاث والجامعات والمثقفون من خلال حوار ديمقراطي واسع, يشارك فيه الجميع, حتي يتم الاتفاق علي الاولويات والاسبقيات في مجال التنمية, واهم من ذلك علي الوسائل الفعالة لتحقيقها من خلال الحكم الرشيد من ناحية والمشاركة الجماهيرية الفعالة في مجال صنع القرار.
نحن بحاجة الي رؤية استراتيجية للتنمية تقضي علي التخبط الملحوظ في سياسات التنمية, والاخفاقات الملحوظة في اشباع الحاجات الاساسية للناس.
لقد آن اوان الحسم, لابد من صياغة رؤية استراتيجية يشرف علي تنفيذ رؤاها مجلس اعلي للتخطيط الاستراتيجي برئاسة رئيس الجمهورية. وتلك فكرة بالغة الاهمية تستحق ان نتابعها بعد ذلك في مقالات قادمة.
ساحة النقاش