بدايته
كانت الدولة العباسية قد تجزأت إلى عدّة دويلات بحلول الوقت الذي ظهر فيه صلاح الدين، في أواسط القرن الثاني عشر، فكان الفاطميون يحكمون مصر ويدعون لخلفائهم على منابر المساجد ولا يعترفون بخلافة بغداد، وكان الصليبيون يحتلون الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط من آسيا الصغرى إلى شبه جزيرة سيناء، والأتابكة يسيطرون على شمال العراق وسوريا الداخلية.
لمع نجم صلاح الدين في سماء المعارك والقيادة العسكرية عندما أقبل الوزير الفاطمي شاور بن مجير السعدي إلى الشام فارًا من مصر، وهربًا من الوزير ضرغام بن عامر بن سوار الملقب فارس المسلمين اللخمي المنذري لما استولى على الدولة المصرية وقهره وأخذ مكانه في الوزارة وقتل ولده الأكبر طيء بن شاور، مستغيثًا بالملك نور الدين زنكي في دمشق وذلك في شهر رمضان سنة 558هـ ودخل دمشق في 23 من ذي القعدة من السنة نفسها، فوجه نور الدين معه أسد الدين شيركوه بن شاذي في جماعة من عسكره كان صلاح الدين، ابن الستة والعشرين ربيعًا،في جملتهم في خدمة عمه وخدمة جيش الشام وهو كاره للسفر معهم، وكان لنور الدين في إرسال هذا الجيش هدفان؛ قضاء حق شاور لكونه قصده، وأنه أراد استعلام أحوال مصر فإنه كان يبلغه أنها ضعيفة من جهة الجند وأحوالها في غاية الاختلال فقصد الكشف عن حقيقة ذلك. وكان نور الدين كثير الاعتماد على شيركوه لشجاعته ومعرفته وأمانته فانتدبه لذلك، وجعل أسد الدين شيركوه ابن أخيه صلاح الدين مقدم عسكره وشاور معهم فخرجوا من دمشق على رأس الجيش في جمادى الأولى سنة 559هـ ودخلوا مصر وسيطروا عليها واستولوا على الأمر في رجب من السنة نفسها ومن المعروف أن صلاح الدين لم يلعب دور كبير خلال هذه الحملة الاولى بل اقتصر دوره على مهمات ثانوية
ولمّا وصل أسد الدين وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها وقتلوا الوزير ضرغام وحصل لشاور مقصوده وعاد إلى منصبه وتمهدت قواعده واستمرت أموره، غدر بأسد الدين شيركوه واستنجد بالفرنجة عليه فحاصروه في بلبيس ثلاثة أشهر، وكان أسد الدين قد شاهد البلاد وعرف أحوالها، ولكن تحت ضغط من هجمات مملكة القدس الصليبية والحملات المتتالية على مصر بالإضافة إلى قلة عدد الجنود الشامية أجبر على الانسحاب من البلاد. وبلغ إلى علم نور الدين في دمشق وكذلك أسد الدين مكاتبة الوزير شاور للفرنجة وما تقرر بينهم فخافا على مصر أن يملكوها ويملكوا بطريقها جميع البلاد هناك فتجهز أسد الدين في قيادة الجيش وخرج من دمشق وأنفذ معه نور الدين العساكر وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين، وكان وصول أسد الدين إلى البلاد مقارنًا لوصول الفرنجة إليها، فاتفقوا مع الفاطميين عليه، فاشتبكوا في أوّل معركة كبيرة في صحراء الجيزة، وفي تلك المعركة لعب صلاح الدين دورًا كبيرًا، حيث كان جيش المصريين والفرنجة يفوق جيش الشام عددًا، فرأى شيركوه أن يجعل صلاح الدين على القلب لاعتقاده بأن الفرنجة سيحملون على القلب ظنًا منهم أن شيركوه سيكون في القلب، وتولّى شيركوه قيادة الميمنة مع شجعان من جيشه، وسُلّمت قيادة الميسرة إلى جمع من القادة الكرد. عند بداية المعركة، حمل الصليبيون على القلب، الذين تقهقروا بانتظام أمام هذا الهجوم، ليطوّقهم بعد ذلك شيركوه وجنوده في صورة من صور تكتيك الكماشة. يرى بعض المؤرخين الغربيين أن وعورة الأرض وكثافة الرمال وثقل الجياد الأوروبية والجنود الفرنجة المدرعين، أسهمت في جعلت الآية تنقلب عليهم، فهزمهم جيش الشام، واستطاع صلاح الدين أسر أحد قادة الجيش الصليبي عندما هاجم جناحه، وهو صاحب قيسارية.
بعد هذا الانتصار، توجه أسد الدين إلى مدينة الإسكندرية المعروفة بكرهها لشاور، وفتحت له أبوابها. سرعان ما أعاد عموري الأول ملك بيت المقدس، وشاور ترتيب الجيش، وعلى الرغم من الخسائر الكبيرة التي لحقت بهما فكان لا يزال جيشهما أكثر عددًا من جيش أسد الدين،وضربوا حصارًا قاسيًا على الإسكندرية. بدأت ملامح المجاعة تلوح في الأفق فقرر أسد الدين التسلل مع حامية إلى خارج الإسكندرية واستخلف صلاح الدين عليها، متوجهًا إلى مصر العليا أملاً بأن تلحق به جيوش عموري إلا أن شاور أشار بأهمية الإسكندرية، ليستمر الحصار عليها. ترى المصادر الصليبية أن أسد الدين تسلل من الإسكندرية لما ساءت الأمور فيها، وأنه أرسل في التفاوض على أن يخرج كلا الجيشين من مصر، وعلى ألا يعاقب أهالي الإسكندرية للدعم الذي قدموه. كان من أهم أسباب موافقة عموري على هذه الصفقة إغارة نور الدين زنكي على إمارة طرابلس، مما أدى إلى خوف عموري الأول على أراضيه في الشام. في حين ترى المصادر العربية أن أسد الدين افترق عن صلاح الدين مباشرة بعد الدخول إلى الإسكندرية، وراح يغير على صعيد مصر. حين اشتد الحصار على الإسكندرية تحرك نحوها، فلقفه الصليبيون في الصلح ووافق على ذلك على أن يخرج جيشا الفرنجة والشام من مصر. ليخرج جيش الشام من مصر في 29 شوال سنة 562 هـ، الموافق فيه 18 أغسطس سنة 1167م.
عاد أسد الدين من دمشق إلى مصر مرة ثالثة، وكان سبب ذلك أن الإفرنج جمعوا فارسهم وراجلهم وخرجوا يريدون مصر نظرًا لتخلف شاور عن دفع الإتاوة إلى الحامية الصليبية الموجودة في مصر، إضافة إلى وجود شائعات تفيد بأن الكامل بن شاور تقدم للزواج من أخت صلاح الدين. فلما بلغ ذلك أسد الدين ونور الدين في الشام لم يسعهما الصبر فسارعا إلى مصر، أما نور الدين فبالمال والجيش ولم يمكنه المسير بنفسه للتصدي لأي محاولة من قبل الإفرنج، وأما أسد الدين فبنفسه وماله وإخوته وأهله ورجاله، وسار الجيش. وكان شاور لما أحس بخروج الإفرنج إلى مصر، سيّر إلى أسد الدين في دمشق يستصرخه ويستنجده فخرج مسرعًا وكان وصوله إلى مصر في شهر ربيع الأول سنة 564هـ، ولما علم الملك عموري الأول بوصول أسد الدين على رأس الجيش من دمشق إلى مصر قرر مباغتته عند السويس، لكن أسد الدين أدرك ذلك فاتجه نحو الجنوب متجاوزًا الصليبيين. فما كان من عموري إلا الجلاء عن أرض مصر في 2 يناير سنة 1169م، ليدخل أسد الدين القاهرة في 7 ربيع الآخر سنة 564 هـ، الموافق فيه 8 يناير سنة 1169م، وأقام أسد الدين بها يتردد إليه شاور في الأحيان وكان وعدهم بمال في مقابل ما خسروه من النفقة فلم يوصل إليهم شيئا، وعلم أسد الدين أن شاور يلعب به تارة وبالإفرنج أخرى، وتحقق أنه لا سبيل إلى الاستيلاء على البلاد مع بقاء شاور فأجمع رأيه على القبض عليه إذا خرج إليه، وفي 17 ربيع الآخر، الموافق فيه 18 يناير، ألقي القبض على شاور وأصدر الخليفة الفاطمي، العاضد لدين الله، أمرًا بقتله وعيّن أسد الدين كوزير.