صار مصطلح الارتجال متداولا في الأوساط المسرحية العربية. وأينما ذهبت، وجدت المسرحيين يتداولونه بالحديث، وبعضهم يفتخر بأنه يعمل عليه كأنه صار موضة دارجة في الأوساط المسرحية. وكلما كان الحديث يستفيض بين المسرحيين عن الارتجال كنت أكتشف كثيرا من الخلط في مفهومه وكثيرا من التخبط في استخدام وفهم كثير من المصطلحات المسرحية. ثم أخذت أدرس ما يقال عن هذا المنهج في التدريب المسرحي وفي بناء العروض. وأتيح لي أن أصطحب معي من مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة خلال دورات عدة مجموعة من الكتب التي تتناول الارتجال في المسرح الأجنبي، وقد وجدت فيما قرأت من هذه الكتب خلطا وأخطاء لا تختلف كثيرا عن خلطنا وأخطائنا فيه. فكان أن كتبت هذا البحث الوجيز عن الارتجال في المسرح مستندا إلى تجربة في المسرح تقرب من أربعين عاما، وإلى مراقبة كثير من التدريبات التي تقوم على الارتجال وعلى كثير من القراءة حول الارتجال، وإلى مشاهدة كثير من العروض التي بنيت بالارتجال، خصوصا أن المعاهد المسرحية العربية اليوم تعتمد على الارتجال كمنهج تدريبي، وأنا أتصدى لهذا الموضوع لعلي أرد هذا المنهج إلى حجمه الحقيقي وإلى دوره في بناء العرض المسرحي وإلى عدم إعطائه أهمية زائدة تربك ممثلينا ومخرجينا.
تعريف الارتجال
الارتجال في المسرح كالارتجال في أي نوع أدبي أو فني: جميل وخطير، فهو أينما كان موضعه وفي أي مجال »عملية تقوم على ابتكار شيء ما أو أدائه دون تحضير مسبق«، وهذا التعريف الدقيق له ورد في موسوعة »مصطلحات المسرح وفنون العرض« التي وضعتها الدكتورة ماري الياس والدكتورة حنان قصاب حسن.
والارتجال في المسرح ـ نقلا عن الموسوعة السابقة - »هو أن يقوم الممثل بأداء شيء غير محضر سلفا أو انطلاقا من فكرة أو قيمة معينة، وبهذا يكون لأدائه صفة الابتكار والإبداع، أما إذا قام بأداء شيء غير متوقع أو مرسوم في الدور، فيأتي الارتجال خروجا على النص، وبهذا التعريف يكون الارتجال في المسرح بعفويته نقيض الأداء المحضر مسبقا، القائم على تكرار ما اكتسبه الممثل خلال تحضير العرض«.
والارتجال في المسرح كان جزءا أساسيا في أداء الممثلين الجوالين والإيمائيين الرومان، وفي عروض الممثلين في أشكال الفرجة الشعبية في القرون الوسطى في أوروبا وفي أداء المداح والمقلد والحكواتي وغيرهم في التقاليد الشعبية في البلدان العربية، لكن النموذج الأكثر تكاملا ـ ومازلنا ننقل المعلومة من الموسوعة المذكورة آنفا ـ والذي يشكل محطة مهمة في تاريخ الارتجال هو الكوميديا »ديلارتي« الإيطالية التي انتشرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وكان الممثل فيها يقوم بارتجال دوره انطلاقا من فكرة محضرة.
تبلورت مهارات الارتجال العفوية مع الزمن، وتراكمت على شكل خبرات في التمثيل سمحت بالتوصل إلى تقنيات عالية المستوي لأداء منمط له قواعده الحركية، ومع أن الجزء الارتجالي في أداء الممثل في الكوميديا »ديلارتي« كان يبدو وكأنه وليد اللحظة ولم يتم التحضير له مسبقا، فإن واقع الأمر عكس ذلك لأن بنية الكوميديا ديلارتي القائمة على مفهوم النمط ذي الملامح المعروفة مسبقا، لا تتطلب سوى أن يقوم الممثل بتنويعات على الدور وعلى المواقف التي تتطلبها »الكانفاه« من مفردات النسيج المتعلق بشغل الإبرة المحددة في خطوطها العريضة، أي أن الهامش الارتجالي في أداء الممثل هو تقنية محضرة يمتلكها الممثل بدرايته أو بتراكم خبرته.
وفي العصر الحديث عاد الارتجال ليأخذ موقعا مهما في العملية المسرحية، وعودته مرتبطة بالعوامل التالية:
1- الأفكار الجديدة والأيديولوجيات التي تعتبر المسرح عملية تحريضية.
2- إعادة إحياء المسرح بالتراث الشعبي.
3- المبادئ الجمالية التي ظهرت في بداية القرن العشرين، والتي تتبنى العفوية مما جعلها تدفع العملية المسرحية نحو التفاعل الحي بين الممثل والجمهور، ونحو التخلص من سيطرة النص وأحيانا من سلطة المخرج وأساليب الإخراج.
استخدم الارتجال في المسرح الحديث كأسلوب عمل يشمل كل مراحل العملية المسرحية بدءا من كتابة النص بشكل مباشر على الخشبة أو تطويعه حسب متطلبات الجمهور أو الموقف، وانتهاء بإعداد العرض والدور المسرحي انطلاقا من نص أو فكرة معينة، وساعد الارتجال على ما سمي في المسرح »الإبداع الجماعي« على صعيد كتابة النص أو إخراج العرض.
نحن والارتجال
بعد هذه التعاريف والتأريخات للارتجال، نقول: إن الارتجال في الفن عموما مطلوب ومرغوب، لكن الحذر فيه واجب، ولعل الغناء العربي يشكل النموذج الأوضح والأروع للارتجال، فهو واحد من وجوه إبداع المغني ودليل على تمكنه من صناعة الغناء، ولاتزال ارتجالات أم كلثوم على اللحن الأصلي الذي وضعه الملحن مثار متعة لا تنقضي لذتها، ولعل القليلين يعلمون أن أم كلثوم ضمت إلى جمعية المؤلفين الموسيقيين في العالم بسبب ارتجالاتها المشهودة التي ملأت بها أغانيها على مدى أكثر من نصف قرن، فقد عدت ارتجالاتها ألحانا أضيفت إلى الألحان الأصلية. و»التقاسيم« في الموسيقى العربية تطرب بمقدار براعة العازف في تقديم »لحن مبتكر آني التأليف«.
أما الارتجال في الكلام فلايزال العرب يعدونه نوعا من الفصاحة التي لا يستطيعها إلا أصحاب البديهة القادرة المستندة إلى تمكن من علوم اللغة وجرأة على عرض أفكار طارئة على ذهن المتكلم بأسلوب ناصع، وإذا لم يتحقق للمرتجل البداهة والتمكن، بدت أفكاره ساذجة تدعو إلى انتقاص مكانته، أما الارتجال في المسرح فهو أخطر أنواع الارتجال.
ففي الغناء والعزف والخطابة يكون المرتجل منشدا وحده أو عازفا وحده أو متكلما وحده، لكنه في المسرح شريك مع واحد أو أكثر في صنع الموقف الجمالي والفكري، وهذا الموقف محدد من قبل ويسير على نسق مرسوم لكي يؤدي وظيفة فكرية وجمالية في الموقف أو المشهد نفسه، ولكي يوصل العمل المسرحي كله إلى نقطة معينة. فإذا »ارتجل« الممثل ما يظنه هو شيئا جميلا وضروريا، فقد يهز الموقف أو المشهد كله، وقد يوقع المشاركين له في ورطة، وكثيرا ما يكون سبب الارتجال رغبة الممثل بإظهار نفسه على حساب زملائه، وبما أن المسرح فن محضر مصنوع من قبل يبدو كأنه يحدث الآن، فمن الواجب أن يسير العرض المسرحي على هذه الحيلة دون خلل أو خروج عن النسق. والارتجال يربك هذه الحيلة لأنه قد يكون سببا في تشويهها وهي الصفة الأساسية للعرض المسرحي.
ولذلك فإن الارتجال في المسرح ضار يهز خصيصة الجمال والفكر والحالة الإنسانية في العرض المسرحي، وهو أمر يتجنبه الممثلون كما يتجنبون الداء الذي يصيب الجسد.
توليف وابتكار
من هنا ندرك أن استعمال الارتجال وإطلاقه على كثير من العروض المسرحية خطأ شائع، تسلل إلى المسرح العربي إما بجهل لمعنى الارتجال وإما لاستجداء إبداع لم يتحقق.
ويبدأ الخطأ من إلصاق وصف »الارتجال« بعروض تقوم على استكمال بنيتها الكلامية والدرامية والفكرية أثناء التدريبات، فقد لا يعتمد العرض المسرحي على نص مقرر، ويكون تأليفه من صنع الممثلين حول فكرة متفق عليها يغزلون عليها كلاما وأفعالا وأفكارا من خلال التدريبات يوما بعد يوم حتى يكتمل العرض المسرحي حوارا وأفعالا ومشاعر إنسانية وفكرة معينة، وهذا النوع من صنع النصوص والعروض المسرحية يكثر الآن في الوطن العربي وخاصة في المعاهد المسرحية. وقد أطلق المسرحيون والنقاد على هذا النوع من العروض اسم »الارتجال«. ويقدمونه تحت وصف »عرض ارتجالي«. وإطلاق هذا الاسم هو الخطأ الشائع، فإن بناء العرض على هذا الشكل ليس ارتجالا على الإطلاق، بل »هو جمع لابتكارات الفريق المسرحي عبر التدريبات حتى يصل إلى استكمال بناء العرض المسرحي« ثم يتم تقديم هذا العرض بتقيد صارم بما انتهى إليه فريق العمل المسرحي، ولا يحق لأي واحد منهم أن »يبتكر« أثناء العروض بعد الوصول إلى الصيغة النهائية.
وهذه العروض ليست ارتجالا بل هي »توليف« وقد ألصق المسرحيون والنقاد العرب هذا الاسم بمثل هذه العروض انسياقا وراء المصطلح الأجنبي الذي أطلق اسم الارتجال على مثل هذه العروض، مدعيا لها ما ليس من خصائص الارتجال،وسبب ذلك أن المسرح الأجنبي بدأ يتجه نحو هذا الأسلوب في بناء العروض المسرحية في القرن العشرين تفتيشا عن أشكال جديدة بعد أن تخاذلت الأشكال القديمة عن تقديم ما هو إنساني مجدد يعالج مشاكل البشر أمام الطريق المسدود الذي وصلت إليه البشرية. فهي عند المسرح الأوروبي حالة من حالات العجز والضعف وليس نتيجة »التجريب« الحي الذي يفتح الطريق أمام ابتكار ما هو معبر عن قوة الإنسان في مواجهة مشاكل الكون. وقد أطلق الأوروبيون على هذه الحالة العاجزة اسم »الارتجال« على طريقة تكفين الأموات بالثياب الزاهية. ولم ندرك نحن خصائص حالة الموات هذه. ونقلنا المصطلح دون تفكير فيه.
إننا نحن العرب من أبرع الأمم في الارتجال، لأن موسيقانا وغناءنا وخطابتنا تقوم عليه. ولهذا فنحن أكثر دقة في صحة استخدام معنى الارتجال. وبدلا من أن نصحح للمسرحيين الأجانب خطأهم في استخدام هذا المصطلح، فقد انسقنا وراءهم وأربكنا أنفسنا بمصطلح صار مطاطيا ومربكا.
تمرد على الدور
إن الارتجال في كل مجالاته ابتكار آني هو ابن اللحظة التي لم تكن من قبل ولن تكون من بعد، وكل ما يخرج عن هذا الوصف فهو صناعة واتفاق مسبق، فإذا جئنا إلى المعنى الدقيق للارتجال نجده على الشكل التالي:
إن على المخرج أن يدفع الممثل أثناء التدريبات إلى أن يقدم كامل اقتراحاته لدوره ولفهمه للشخصية من خلال السياق العام للمسرحية مع ضرورة الانسجام مع شريكه، وعليه أن يطلب من الممثل أن »يتمرد« على آي فهم يقدمه إليه في مجال فهم الشخصية أو في الأفعال التي يرسمها لها، بغية أن يقدم الممثل للعرض ما هو أجمل وأعمق وأكثر دخولا في فكرة المسرحية، وهذه الطريقة تحول الممثلين من أدوات تنفيذ لفكرة ورؤية المخرج إلى مبدعين لها. وهذا الأسلوب في الإخراج شاق عسير قد يهرب منه المخرجون لأنه يطيل أمد التدريبات من ناحية، وقد لا يتوفر بين أيديهم الممثل ذو المخيلة الواسعة الذي يأتي كل يوم باقتراح جديد لدوره، وقد يعد المخرج »تمرد« الممثل عليه في فهمه للدور نوعا من الخروج على الهدف الأعلى الذي يبغيه، وعلى المخرج أن يتلقى كل الاقتراحات والتمردات لكي يخضعها في النهاية للهدف الأعلى الذي وضعه للمسرحية، وبهذه الطريقة وحدها يتبنى الممثلون نص المسرحية ويبتكرون في أساليب أدائه، فإذا انتهى فريق العمل المسرحي إلى صيغة نهائية للعرض فلا مجال للابتكار والارتجال إلا في الحدود التالية:
1- أن يبتكر الممثل ما يشاء في ثنايا دوره دون أن يترك ذلك أثرا على أداء شريكه أو على مسار الشخصية التي يؤديها أو على فكرة المسرحية، فإن كان ارتجاله مؤثرا على واحد من هذه، فواجب المخرج أن يقضي على هذا الارتجال بقسوة وسرعة، ويؤدي ذلك إلى نقطة جوهرية هي أن الممثل بهذه الطريقة يزداد إتقانا لدوره يوما بعد يوم، ويزداد إحساسا بإنسانية الشخصية ويحافظ على ألق العرض الأول، فمن المعروف أن أكثر العروض المسرحية تتحول إلى أداء روتيني ميكانيكي بعد مضي يومين أو ثلاثة من التقديم، أما هذه الطريقة التي يندفع الممثل إليها باستمرار، فهي التي تحافظ على حيوية العرض وتألقه حتى لو قدمت المسرحية مئة مرة.
2- أن يبتكر الممثل ما يخفي خطأ وقع فيه زميله، وهذا الابتكار يكون في الحوار والفعل وبناء المشهد كله، وتبدو أهمية هذا النوع من الارتجال إذا تذكرنا أن كثيرا من الممثلين »يشمتون« بزملائهم إذا أخطأوا، وأن الأداء الميكانيكي الروتيني للدور يجعل ذهن الممثل مشغولا عن مجريات العرض بحيث لا ينتبه إذا وقع فيه خطأ، فإذا كان الخطأ صغيرا فلن يترك أثرا على العرض، وقد لا ينتبه إليه أحد من المتفرجين، أما إذا كان كبيرا فسوف يبدو مفضوحا أمام المتفرجين، والارتجال الصادر عن ممثل يمتاز أداؤه بالحيوية وبالإحساس الكامل بالشخصية والدور هو الجوهرة الثمينة التي يجب على المخرج أن يحافظ عليها ملتمعة لدى فريق العمل المسرحي، وهي التي تنقذ العرض حين وقوع الخطأ، ويمكن القول إن التغلب على الخطأ في العرض المسرحي واحد من أبرز أنواع الارتجال.
مع ذلك كله، فإن هناك حالات مسرحية لا تحلو من غير الارتجال الذي يقوم به الممثلون عفو اللحظة دون التقيد بما سبق واتفقوا عليه، ويكون ذلك في العروض الفكاهية وهي غير الكوميدية، فهي أحسن مكان للارتجال، فهذه العروض لغتها العامية، وهي ذات موضوع خفيف يقصد منه التفكه والفرفشة، فلا أهمية لبناء الشخصية أو الهدف الأعلى أو تطور الحدث الدرامي، وهي في محصلة الأمر سهرة لطيفة مضحكة، وما أمتع الارتجال في مثل هذه العروض، بل إن لذتها وقيمتها تكمن في الارتجال ولا ينجح فيها إلا الممثل السريع البديهة الحاضر النكتة الخفيف الظل الذي يلتقط حركة من زميله أو من أحد المتفرجين و»يغزل« عليها قولا أو فعلا مثيرا للضحك.
أما عروض الكوميديا فهي ليست موضعا للارتجال، لأن الكوميديا فيها ذات علاقة بكشف شخصيات مبنية بناء صارما، وبتسلسل فكرة معينة ذات عمق فكري واجتماعي، ولا يتحقق هذا النوع في مستواه الأعلى إلا إذا كانت الفصحى لغة المسرحية، فإذا كانت العامية لغتها فسوف يضعف البناء المتماسك العميق للجانبين: الإنساني والفكري، وعروض الكوميديا ذات اللغة العامية قد تكون صالحة للارتجال، لكنها لا تخرج عن دائرة العروض المصابة بوباء الارتجال الذي تحدثنا عن خطره المزدوج.
أما العروض الدرامية التي تقوم على نص قوي وبناء متماسك متصاعد في نموه ومصنوع في أجزائه صنعا دقيقا محكما، فإن الارتجال الشائع المعروف قاتل له.
ولنتذكر بعد هذا كله أن الارتجال في الأشكال التي ذكرناها لايستطيعه إلا الممثل القوي المحنك ذو البديهة السريعة اللماحة، ونوجز هذه الصفات حين نتذكر أم كلثوم سيدة الارتجال في الغناء، ولن يكون الممثل قادرا على الارتجال الذكي إلا إذا امتلك في المسرح قدرة أم كلثوم في الغناء، فإذا لم يكن كذلك فسوف يبدو سمجا ثقيل .الظل
ساحة النقاش