المصرفي المخضرم الأخ صلاح أبو النجا استفزَّه مقال كتبتُه عن المعسرين من سجناء الشيكات الذين حُكم عليهم بمادة (يبقى في السجن إلى حين السداد) فانبرى يدافع عن الصناعة البنكيَّة والمؤسَّسات المصرفيَّة

بقلم الخبير العالم بخبايا المهنة فأحسن وأجاد.
على أن ما أدهشني أن الأخ صلاح اتهمنا بالتحامل على البنوك وبتحميلها وزر القابعين في السجون وهو ما لم يحدث البتة على الأقل من جانبي فأنا لا أزال أرى تقصيراً من المجتمع ومن الدولة ومؤسساتها الدعوية والاجتماعية مثل ديوان الزكاة الذي كان بإمكانه أن يزيد من نصاب الغارمين خاصة من سجناء الشيكات المدينين بمبالغ هزيلة يصرف على المدين أضعافها وهو قابع لسنوات في غيابة سجنه الكئيب الذي يتجاوزه إلى أسرته وصغاره من زغب الحواصل أما المصارف فإني لم أذكرها بسوء البتة في هذا الصدد تحديداً سيما وأني أعلم أنه لا يحق لها التصرف في أموال المودعين.. فإلى مقال الأخ صلاح:


الأخ/ الطيب مصطفى
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
في مقالك الأسبوع الماضي عن المعسرين والقابعين في السجون، ثم مقال (عووك مرة ثالثة «مداخلة») الذي نشر في عمودك في عدد الجمعة الماضي لكاتبه كمال نقد إدريس محمود، حملتم حملة شعواء على المؤسسات المصرفية وحمَّلتموها معظم الوزر في بقاء الذين لم يفوا بالتزاماتهم، في السجن إلى آماد تتطاول، وهذا نهج وللأسف سلكته الصحافة عموماً، وهو نهج غير سوي أن ننظر إلى أي أمر من الأمور من زاوية واحدة ثم ننحاز انحيازاً بغيضاً إلى رأي واحد، دون البحث في الأمر من جوانبه المتعددة مما يُبعدنا عن الصواب ويقود القارئ إلى رأي منحاز بعيد عن التوازن في الحكم على أي شأن من الشؤون يا أخي، إن الدين الإسلامي يدعو إلى التوازن، ولا يعالج أي أمر من زاوية واحدة ولأضرب لك مثلاً واحداً من أمثلة متعددة لما يوجه به الشرع في النفقة:
1/ الزكاة: فريضة تأخذها الدولة وتوزعها على مصارفها المذكورة في القرآن الكريم حتى يشعر دافع الزكاة بأنها حق المجتمع عليه وليس تطوعاً منه بأية حال، ثم تنفقها الدولة على مصارفها الواردة في القرآن، فيأخذها مستلم الزكاة بكل عزة مستشعراً بأن هذا حق المجتمع نحوه وليس هبة من جهة ما.
2/ الصدقة: حثّ الدين الإسلامي على الإنفاق سراً وعلانية بالليل والنهار ووعد المنفقين بالثواب المضاعف في الدنيا والآخرة، وذم على المنفق المنّ والأذى الذي يذهب بجميع أجره، وذلك حتى لا تتأذى مشاعر المحتاجين، من المن، ثم منع انتهار السائل (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) ودعا إلى الإنفاق عليه حتى ولو جاء على فرس) ولكنه في نفس الوقت دعا إلى العفّة (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً)، كما حث على الكدح والإنفاق على الأسرة من كدَّ اليد، وكذلك بغَّض التسول ووصف من اتخذ التسول مهنة بأنه يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم (من فتح على نفسه باب مسألة فتح الله عليه باب فاقة حتى يلقاه).
هذا هو التوازن الذي دعا إليه الدين الحنيف ويمثل هذا النهج السوي ينصلح المجتمع دون إفراط أو تفريط في جانب على الآخر.
3/ لكثرة ما تغوَّلت الصحف على المصارف الإسلامية وتصويرها كأخطبوط يتعسف في اقتضاء الحقوق ويُدخل المعسرين إلى السجون والهجوم غير المبرَّر على صيغ التعامل الإسلامي التي تتعامل بها البنوك والتي أقرتها مجمعات الفقه الإسلامي وظلت تراقب تنفيذها الهيئات الشرعية التي تحتل مقاعدها في كل بنك من البنوك أود أن أوضح الآتي:
4/ أن البنوك لا تتعامل برؤوس أموالها إذ أن رأس مال البنك يُنفق في تأسيس رئاسات وفروع البنك المنتشرة في القطر، والدور الأساسي للبنوك هو تجميع المدخرات ثم استخدامها في تمويل القطاعات الإنتاجية والخدمية حسبما توجه به سياسة البنك المركزي من وقت لآخر، وعلى هذا فإن أموال البنوك المستخدَمة في الاستثمار تتكون من ودائع الجمهور الجارية والادخارية والاستثمارية، التي تشارك في أرباح التمويل بنسب معينة يحددها البنك في عقوده مع المودعين وليس فيها سعر فائدة محدد كما في النظام الربوي وإنما حملت جميع العقود جملة (ما يرزق له به من أرباح). وعلى هذا فإن المطل وعدم الوفاء في مواعيد الاستحقاق سواء كان ذلك من كبار أو صغار المستثمرين يضر ضرراً بليغاً بالعائد على أصحاب الودائع وهم ليسوا رأس ماليين أو رجال أعمال إذ أن رجال الأعمال يستثمرون أموالهم في أعمالهم إضافة إلى ما يحصلون عليه من البنوك، وعليه فإن الودائع المتاحة للبنوك للاستخدام تتكون من مدخرات الجمهور وفيهم العاجز والمغترب والمعاشي واليتيم القاصر الوارث، وفيها مدخرات النساء وعليه فإن انحيازكم الجائر لمستخدمي أموال البنوك وعدم الوفاء بالسداد في المواعيد المقررة يضر بفئات أخرى هم المودعون.
5/ إن النظام المصرفي الإسلامي يحرم الربا، ولا تستوفي البنوك الإسلامية أرباحاً على التأخير بينما النظام الربوي يتيح للبنوك الربوية أخذ فائدة أعلى من الأولى على مدة التجاوز، ولهذا فإن المصارف الإسلامية تمهل من لا يفي بالسداد في الموعد المحدد إلى آماد قد تقصر أو تطول، ولا تنفذ على الضمانات أو الشيكات إلا بعد إمهال بضعف العائد على التمويل وفي أحيان أخرى يذهب بكل ربح العملية وربما بجزء أو كل رأس مالها فيحتسب هذا العجز على أرباح البنك الأخرى.
6/ كما حث الدين الحنيف على انتظار المعسر لميسرة يتيحها الله له (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) كذلك شدَّد ودعا إلى الوفاء بالدين بل إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان لا يصلي على أحد مات حتى يتأكد له أن ديونه قد سُدِّدت، كما أوجب الإسلام سداد دين الميت قبل تنفيذ الوصية وقبل توزيع الميراث. هذا التوازن هو الطابع العام لموجهات العمل الإسلامي، والذي يؤدي تطبيقها إلى خلق مجتمع متوازن يؤدي كل فرد فيه واجباته وينهض بمسؤولياته ويشيع فيه روح التكافل والتعاون الطوعي الذي حثت عليه آيات الكتاب الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
7/ النظام المصرفي الإسلامي قطع شوطاً بعيداً وأصبح نظاماً راسخاً له هيئاته الشرعية وهيئات المحاسبة المالية التي اعترفت بها كل المؤسسات المالية العالمية، كل هذا في مدة لا تزيد على الخمسة والثلاثين عاماً منذ إنشاء أول بنك إسلامي في دبي بينما مرت على مسيرة البنوك الربوية ما يزيد على الثلاثمائة عام ولقد حققت المصارف الإسلامية نجاحات باهرة في تجميع مدخرات المسلمين وتوجيهها للاستثمار بالصيغ الإسلامية ولا تزال المصارف تجتهد مع هيئاتها الشرعية العامة والخاصة وتشجع الباحثين لاستنباط صيغ شرعية تغطي احتياجات المجتمع وتفي بمتطلبات العصر، وأنه يتعين على إعلامنا أن يشيد بهذه التجربة ويقوِّمها ويحث على المضي فيها ولا ينتقص منها بغير حق.
أما ما جاء في المقالين عن صيغة المرابحة فهي صيغة شرعية والطعن في شرعيتها طعن في ما أحلَّ الله، كما أن المشاركة مرغوب فيها لأنها توزع المخاطر بين المشاركين كما توزع الأرباح بقدر نسب المشاركة ولكن معظم البنوك للأسف لا تهتم بالحث عليها ولا تدرب موظفيها على العمل بها ولا تشجع المستثمرين على التعامل بها إذ أن المشاركة تتطلب جهداً من موظفي البنك في المتابعة اللصيقة للعملية حتى تؤتي أكلها وحتى يتم اقتسام الربح أو الخسارة بعد مراقبة دقيقة ومشاركة فعالة بين موظفي البنك والعميل وهي أكثر الصيغ فعالية في تشجيع الإنتاج.
إن السودان هو البلد الوحيد في العالم الإسلامي الذي يطبق النظام المصرفي كاملاً، إذ أن البنوك المركزية الأخرى ما زالت تتعامل مع نهجين عربي وإسلامي كما كان يعمل بكل السودان (قبل الفتح).
كما أن السودان طبق نظام الزكاة كاملاً وطبق جبايتها عن طريق الحكومة وتوزيعها في مصارفها.
وقد خطا النظامان المصرفي ونظام الزكاة خطوات بعيدة في البحث وإقامة المؤتمرات والتطبيق مما يهيئنا أن نكون نموذجاً لبلدان الربيع العربي التي تأمل أن تطبق مشروعاتها الحضارية الإسلامية فعلينا أن نهيئ أنفسنا لهذا الدور الرائد حتى نكون نموذجاً يُحتذى عند الحاجة إليه.
ــــــــــــــــــــــــــ
صلاح أبو النجا 

المصدر: نخبة السودان للاكترونية
mohajir2003

شبكة خبر السودانية

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 29 مشاهدة

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

13,681