قليلون من يعرفون أن أول جماعة إرهابية سجلها التاريخ كانت من اليهود في القرن الأول المسيحي‮. ‬وإذا كانت إسرائيل تشكو اليوم من الإرهاب وتدعي أن المذبحة التي تقوم بها في‮ ‬غزة منذ‮ ‬27‮ ‬ديسمبر الماضي تستهدف نزع فتيل‮ »‬الإرهاب الفلسطيني‮« ‬فإن علينا أن نفتح ملفات التاريخ القديم والحديث لنكتشف أن الجماعات اليهودية المتطرفة،‮ ‬كانت رائدة وسباقة في ممارسة الإرهاب في العصور القديمة،‮ ‬كما كانت أول من أدخل بذرة هذه الآفة إلي منطقة الشرق الأوسط التي لم تكن تعرف من قبل هذا النوع الهمجي لمحاربة الأعداء‮.‬ ‮* * *‬ وتشير الوثائق التاريخية إلي أنه عندما كانت روما تسيطر علي الجزء الأكبر من منطقة الشرق الأوسط من ألفي عام ظهرت طائفة يهودية متطرفة تدعي‮ »‬زيلوت‮« ‬وكان هدف أتباعها والرسالة التي يؤمنون بها هي إعادة الدولة اليهودية القديمة‮. ‬ويصف مارسيل سيمون مؤرخ الديانات الفرنسي المعروف الزيلوت بأنهم‮ »‬قوم عدوانيون يكرهون كل من هو أجنبي ويستخدمون العنف والقتل لإرهاب كل من يتصدي لهم‮«. ‬وكان لطائفة الزيلوت جناح عسكري يتكون من بعض‮ ‬غلاة التطرف أطلق عليهم اسم‮ »‬سيكير‮« ‬وكانوا يذبحون الرومان،‮ ‬ولا يفرقون بين المحاربين والنساء والأطفال بل إنهم كانوا يقتلون إخوانهم اليهود الذين يرفضون التعاون معهم‮. ‬وقد اشتق اسمهم من خنجر حاد كانوا يستخدمونه واسمه باللاتينية‮ »‬سيكا‮« ‬وكان آنذاك سلاح قطاع الطرق والمجرمين‮.‬ وقد بقيت كلمة سيكير في القاموس الفرنسي إلي يومنا هذا ومعناها القاتل المستأجَر أو المحترف‮. ‬لكن أحدا في الغرب يشير إلي ذلك،‮ ‬بل يقومون بالتعتيم علي جماعة السيكير الذين هم أجداد من يقترفون المجازر ضد الشعب الفلسطيني اليوم‮.‬ ولم ينجح الرومان في وقف رواد الإرهاب العالمي من السيكير إلا بعد أن قاموا ضدهم بعمليات قمع عنيفة هدموا خلالها هيكل سليمان عام‮ ‬70‮ ‬ميلادياً‮. ‬وقد هرب الكثير من السيكير إلي مصر وخاصة الإسكندرية وعادوا إلي ممارسة الإرهاب وقتلوا العديد من اليهود الذين يرفضون اتباعهم فما كان من الرومان إلا أن جردوا حملة للقضاء عليهم قضاء مبرما‮.‬ ‮* * *‬ وأذكر أن أحد أشهر الصحفيين الفرنسيين،‮ ‬وقد تولي بعد ذلك رئاسة التلفزيون الفرنسي دعاني في بداية التسعينيات إلي ندوة بإذاعة أوروبا رقم واحد‮. ‬وفوجئت بالحاضرين يشنون هجوما كاسحا علي العالم العربي والإسلامي ويتهمونه بأنه المصدر الوحيد للإرهاب‮. ‬وأكد أحد الصحفيين المشاركين في الندوة أن العرب والمسلمين لهم تاريخ وباع طويل في الإرهاب والدليل علي ذلك جماعة الحشاشين الشهيرة التي أنشأها الحسن الصباح‮. ‬وكان ردي أن الحشاشين ظهروا في القرن الثاني عشر الميلادي في حين أن السيكير كانوا في القرن الأول أي أنهم سبقوا الحشاشين في الإرهاب بأكثر من ألف عام‮.‬ وأضفت أنه بالنسبة للعصر الحديث فإن إسرائيل والصهاينة هم الذين أدخلوا الإرهاب لمنطقة الشرق الأوسط،‮ ‬وكانت الجماعات الصهونية من شترن وإرجون وغيرهما أول من لجأ إلي خيار الإرهاب لترويع أعدائهم‮. ‬وكانت العمليات التي قاموا بها في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي تتسم بالعنف والجرأة وتعمد الإيذاء‮. ‬وكانت أول عملية تحدث‮ »‬فرقعة‮« ‬في المنطقة هي اغتيال اللورد موين وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط بالقاهرة عام‮ ‬1944‮ ‬علي يد اثنين من عملاء جماعة شترن‮. ‬وفي عام‮ ‬1946‮ ‬قام المتطرفون الصهاينة بواحدة من أشهر عملياتهم الإرهابية وهي تفجير فندق الملك داوود بالقدس،‮ ‬وقد مات تحت أنقاضه أكثر من‮ ‬90‮ ‬من الأبرياء الذين لا يمتون بصلة إلي المشكلة اليهودية‮. ‬وفي عام‮ ‬1948‮ ‬قامت جماعة شترن أيضا باغتيال مبعوث الأمم المتحدة إلي المنطقة الكونت فولك برنادوت لاتهامه بأنه يحابي العرب علي حسابهم‮. ‬وكان أول طرد ناسف ينفجر في المنطقة بتدبير من عملاء دولة إسرائيل في عام‮ ‬1956‮ ‬وكان ضحيته الشهيد المصري مصطفي حافظ‮. ‬وهذه الوقائع جزء بسيط من قائمة العمليات الإرهابية التي قامت بها الجماعات الصهيونية بالإضافة إلي المجازر المروعة في دير ياسين وغيرها من القري الفلسطينية‮.‬ ويبدو أن المشاركين في الندوة لم يتوقعوا مثل هذا الكلام فلاذوا بالصمت‮. ‬لكنها كانت المرة الأخيرة التي تدعوني فيها إذاعة أوروبا رقم واحد،‮ ‬خاصة أنني استعرضت بعد ذلك التنظيمات الإرهابية،‮ ‬التي كانت لا تزال موجودة آنذاك مثل‮: ‬بادر ماينهون في ألمانيا والألوية الحمراء في إيطاليا والعمل المباشر في فرنسا‮.‬ ‮* * *‬ ولا أقصد من هذا الاستعراض التاريخي أن أثبت أن طبيعة اليهودي مفطورة علي الإرهاب لأن ذلك ضد قناعاتي بأنه لا يمكن إطلاق أحكام عامة علي الشعوب وأتباع الديانات المختلفة،‮ ‬وأن الشر والخير موجودان في جميع المجتمعات منذ بدء الخليقة،‮ ‬وتتغير الظروف فينتصر هذا الجانب أو ذاك بصفة مؤقتة‮. ‬لكن المثل الفرنسي الذي يقول‮: »‬إن من يزرع الهواء يحصد العاصفة‮«‬،‮ ‬ينطبق فعلا علي إسرائيل التي زرعت الإرهاب في المنطقة وتعاني من ويلاته الآن‮.‬ وما أريده من هذا التحليل هو دحض الأكذوبة الكبري التي أطلقتها الدول الغربية بأن الإسلام هو منبع الإرهاب وأن العرب هم أصل الأعمال الإرهابية في المنطقة وفي العالم أجمع‮. ‬ولعل من أهم الحجج التي اتخذتها إدراة بوش للتلاحم مع إسرائيل أكثر ممن سبقوها في واشنطن هو أن الولايات المتحدة وإسرائيل تواجهان عدوا مشتركا،‮ ‬وهو التطرف الإسلامي والإرهاب‮. ‬لكن التجربة أثبتت أن ما تتصوره الإدارة الأمريكية من أنها قادرة علي استئصال شأفة العنف والإرهاب في الشرق الأوسط دون التوصل إلي حل عادل ومرض للشعب الفلسطيني وإقامة دولة تحظي باستقلال فعلي،‮ ‬وتضم كل أبناء فلسطين هو تصور قاصر ووهم يبدده الواقع المعاش‮.‬ ولعل المذبحة التي قامت بها إسرائيل في‮ ‬غزة في الأسبوعين الماضيين تدق ناقوسا في عقول القائمين علي السياسة في الدول الغربية الكبري وعند كبار رجال السياسة في العالم كله‮. ‬فالدرس الأهم والأخطر الذي يمكن استخلاصه هو أن القضية الفلسطينية،‮ ‬هي التي تحرك مشاعر الناس وتعبئ الجماهير في العالم العربي أيا كانت انتماءاتهم‮.‬ فمتي تفهم أمريكا والدول الكبري القادرة علي اتخاذ القرار أنه بدون حل للقضية الفلسطينية فسوف تظل المنطقة في حالة من القلق وعدم الاستقرار بل إن العالم كله سيظل يشكو من تداعياتها كالعنف والإرهاب؟ متي يدركون أنه لا يمكن لحاكم عربي،‮ ‬حتي لو افترضنا فيه الولاء الأعمي للغرب بل حتي لو افترضنا فيه الخيانة لوطنه،‮ ‬أن يتنازل عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؟ ‮* * *‬ وإذا كانت القضية الفلسطينية تعاني منذ أكثر من نصف قرن من التحيز الأمريكي الأعمي لإسرائيل فلا شك أن إدارة الرئيس بوش الابن ذهبت إلي آخر المدي في هذا الانحياز‮. ‬وعندما فاز بوش بالانتخابات الرئاسية في عام‮ ‬2001‮ ‬ذهب للقائه وزير الخارجية الفرنسي آنذلك هوبير فدرين‮. ‬وقد اصطحب معه أحد أهم معاونيه وكان هذا الرجل متعاطفا للغاية مع العرب‮. ‬وعند عودتهم روي لي هذا الرجل أنه فوجيء بما قاله بوش عن الشرق الأوسط في اللقاء المغلق الذي حضره‮. ‬فقد قال بوش إن كلنتون ذهب إلي أبعد مدي للتوصل إلي اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين فيما سمي بـ‮ »‬كامب ديفيد‮ ‬2‮« ‬لكنه فشل في ذلك وأحرج نفسه سياسيا‮. ‬وكانت وجهة نظر بوش أن المشكلة ليست ناضجة بما يكفي للحل‮.. ‬ومعني ذلك في ذهنه أن العرب ليسوا مستعدين للتنازل الكامل عن حقوقهم‮. ‬وقال بوش إن القضية الفلسطينية لا تسبب له قلقا وأنه علي علاقة ممتازة بالدول البترولية وأضاف ما معناه أن ذلك يكفيه‮.‬ وبعد هجوم‮ ‬11‮ ‬سبتمر‮ ‬2001‮ ‬رفضت أمريكا الربط بين القضية الفلسطينية والإرهاب ورفضت اعتبار أن العنف هو نتيجة لفشل العالم العربي في تسوية القضية وإحباط أبنائه من الموقف الأمريكي خاصة‮. ‬لم يفهم بوش أو رفض أن يفهم أن العرب لن يهدأوا وأن الشعب الفلسطيني لن يستكين طالما لم يوجد حل عادل للقضية،‮ ‬وقيام دولة فلسطينية مستقلة وأن الإرهاب الذي يكتوي الجميع بناره سيظل يثير الذعر في كل مكان طالما يظل الظلم والقهر وإرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل وطالما ظلت واشنطن تساندها ضاربة بعرض الحائط كل مباديء العدالة وكافة القوانين والأعراف الدولية‮.‬ فهل يدرك أوباما ويدرك الغرب عامة أن بوش قد أخطأ في اختيار نوعية الحرب التي شنها منذ‮ ‬11‮ ‬سبتمبر‮ ‬2001،‮ ‬وأن الحرب علي الإرهاب دون حل للمشكلة الفلسطيني هو إضاعة للوقت وإهدار للدماء ولن تؤدي هذه الحرب إلا لمزيد من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط والعالم كله‮. ‬أم أن هذا هو ما يريدونه؟

  • Currently 105/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
35 تصويتات / 273 مشاهدة
نشرت فى 14 يناير 2009 بواسطة moghazy

مغازى عبدالعال محمد الطوخى

moghazy
*رئيس اتحاد طلاب المعاهد العليا (وزارة التعليم العالي) الاسبق *رئيس اتحاد طلاب المعهد العالي للتعاون الزراعي الاسبق *أمين اللجنة الاجتماعية والرحلات بالمعهد العالي للتعاون الزراعي الاسبق *عضو جمعية الهلال الأحمر المصري *عضو جمعية بيوت الشباب المصرية *عضو جمعية الكشافة البحرية المصرية *صحفي بجريدة أخبار كفر الشيخ *عضو نقابة المهن الزراعية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

683,056