باعة الرصيف يتخذون مواقع استراتيجية أحيانا كثيرة

لم يعد الباعة الجائلون فئة قليلة أو نادرة في المجتمع تجدهم فقط في كبرى الميادين العامة، كما كانوا منذ عقدين مضيا، وإنما أصبحوا الآن كثرة يملأون كل شوارع القاهرة، بل معظم شوارع مصر في كل المحافظات..

فالبطالة التي تفاقمت مع ضعف الأجور الذي ساد في كل جهات العمل الحكومي أو حتى الخاص فيما يشبه الوباء جعلت كل شاب لا يجد عملاً، ويكره الجلوس في بيته انتظاراً للفرج أو يعمل بأجر ضعيف يلجأ للشارع وتحديداً للرصيف بقدر من البضائع في أي نوع من التجارة لتجربة الحظ في هذا المكان الذي يزدحم بالباعة بأكثر مما يزدحم بالمشاة.. والغريب أن تلك النوعية من التجارة تنجح برغم كل ما يواجهها من عقبات أبرزها مطاردة جهات عديدة لتجار الرصيف، ويأتي في مقدمتهم البلدية..

وعلى مدار عدة أيام، قام كاتب هذه السطور بخوض تلك التجربة بهدف التعرف على عالم تجار الرصيف عن قرب دون أن أفصح عن شخصيتي للتجار إلا بعد انتهائي من عمل التحقيق.. إذ قمت بتقديم نفسي لـ"الريس" –الذي يعد كبير الباعة في كل منطقة- بوصفي أبحث عن "رزق" بعد أن ضاق بي الحال، وببضع عشرات من الجنيهات اشتريت بضاعة صينية متنوعة من اللعب والهدايا والأدوات الكهربائية الرخيصة وأخذت مكاني على الرصيف راصداً ومتأملاً حاله من "الداخل" لأكتشف أموراً كثيرة لم أكن أعرفها ولا أعتقد أنني كنت سأعرفها لو سألت الباعة بشكل مباشر..


فيشتري الناس بعد فصال وجدل

وقد كانت أول تلك الأمور هي اكتشافي أن البلدية لا تطارد البائعين بهدف تطهير الرصيف منهم وإنما لابتزازهم بجمع إتاوة منهم نظير تركهم يقفون في الشارع ولتوقيت محدد في الأغلب .. ويستمر الابتزاز بشكل يومي حتى وان لم يتم منح البائعين الوقت الكافي للعمل.. والمدهش أن سيارة البلدية تمر لتشاهد فقط منظر البائعين وهم يعبرون الطريق هربا منهم لكنها لا تقبض على أحد أو تصادر بضاعته إلا لو كانت هناك حملة يقودها أحد الرتب من قسم شرطة المرافق.. وهو ما لا يحدث إلا كل أسبوع تقريباً..

أما مكان الهروب للباعة فيكون هو الشوارع والحارات الجانبية ومداخل المنازل وأحياناً يكون مخازن في بعض الشوارع، وتعلم المباحث والبلدية بتلك الأماكن لكنها في الأغلب لا تهاجم تلك الأماكن ربما لأنها تحمل دوماً رخصاً تخص نشاطات تجارية أخرى..

كذلك فإن كل منطقة يكون لها ريس أو ريسة وليس بالضرورة أنه يسيطر على الباعة لكنه على الأقل يمنح المستجدين مثل "حالاتي عندما خضت التجربة" المنضدة التي يتم رص البضاعة عليها والمقص أي الحامل الذي تقف عليه المنضدة ويسمى بهذا الاسم لأنه يغلق ويفتح لزوم الهرب عند وجود أي مرور للبلدية والمباحث..

كما أن "الريس" يمنح من يشاء بضاعة أو يدله على من يبيع له بضاعة بسعر الجملة، وربما يساهم في توزيع الباعة على الرصيف بحيث يحفظ كل بائع مكانه ولا يتعدى على مكان زميله وحتى لا يحدث شجار بين أصحاب البضائع المتشابهة وما أكثرهم خاصة بائعي الإكسسوارات الحريمي والذين هم الأكثرية دوماً على الأرصفة هم وبائعو النظارات الشمسية..


اجر ياولد العم!

أما عن باعة الرصيف أنفسهم فقد اكتشفت أن القاسم الأعظم منهم متعلمون وحاصلون إما على مؤهلات عليا أو متوسطة ومنهم من يدرس بالفعل في المرحلة الثانوية أو الجامعية وفي أيام الدراسة يكونون صباحاً في الدراسة ومساء على الرصيف.. أما في الصيف فهم يقضون اليوم بأكمله على الرصيف.. ما لم يكونوا مرتبطين بعمل صباحي!

وعلى الرصيف تعرفت على كثيرين يحملون مؤهلات عليا وأغلب هؤلاء حاصلون على بكالوريوس تجارة أو آداب ومنهم واحد بائع اكسسوارات حريمي وجدته يحمل وجهاً لا يدل على أن الرصيف مكانه منذ زمن طويل فتعرفت عليه واكتشفت أنه حاصل على ليسانس حقوق، وقد أراني كارنيه العضوية بنقابة المحامين وعندما سألته لماذا لا يعمل كمحامٍ قال من أين لي بمال أفتح به مكتب محاماة وهذا بخلاف احتياجي للتدريب عند محام كبير لفترة لن تقل عن سنة وإذا حدث هذا فلن أحصل على أجر في الأغلب أو سيكون أجراً رمزياً قدره مائه جنيه في الشهر أو أقل.. وحتى لو تحصلت بالإكراميات على ما يوازى 300 جنيه في الشهر فماذا ستفعل لي وأنا خاطب وأجهز حالياً لزواجي!!..

لكن هل الأمر مربح إذن على الرصيف؟!.. يجيب أحقق ربحاً يصل إلى 25 جنيهاً في اليوم الواحد في أحيان كثيرة ويزيد في الصيف حسب الرواج وحسب قلة مطاردة البلدية.. وبالتالي فأنا بهذا الشكل أحقق دخلاً شهرياً يقترب من الألف جنيه.. فأيهم أفضل لي..؟

المفاجأة المدهشة كانت في وجود رجل متقدم في العمر يقف فقط بميزان إلى جواري ويزن للناس بربع جنيه أو نصف جنيه "حسب نوع الزبون"، الرجل يعمل كمدير للحسابات في إحدى المصالح الحكومية.. وعندما أبديت دهشتي وسألته لماذا يقف على الرصيف قال لي أنا أبلغ من العمر 46 عاماً ومتزوج ولديّ ثلاثة أبناء في مراحل التعليم المختلفة، وأحتاج كي أقوم بواجبي بشكل جيد نحو أولادي وزوجتي إلى دخل لا يقل عن ألفي جنيه في الشهر ووظيفتي لا تمنحني إلا 700 جنيه في الشهر!! فماذا أفعل؟ ولحساسية مركزي أقطن بمكان بعيد تماماً عن هذا المكان الذي نقف فيه وأفعل هذا حتى لا أتعرض للإحراج من جيراني أو زملاء العمل لو اكتشفوا وقفتي هذه.. لكنى في جميع الأحوال لا أسرق وبالتالي لن أخجل من وقفتي على الرصيف.

وخلال وقوفي في الطريق ببعض البضائع القليلة اكتشفت بالفعل أن رزق الرصيف لا بأس به وربما هو أفضل كثيراً من العمل عند أي صاحب عمل.. خاصة وأنه أشبه بمشروع صغير يملك الشاب فيه رأس ماله الذي ربما يكون فقط مائه جنيه، وربما يزيد ويصل إلى ألف أو ألفي جنيه، ويزيد أحياناً بالنسبة للشركاء في ترابيزه واحدة عليها "فرش" كثير كما يقولون وهذا دوماً يكون مفيداً لبعضهم من عدة أوجه أهمها أن كبر حجم الفرش أو البضاعة يزيد من إقبال الجمهور، وبالتالي يزيد الربح كما أن وقوف اثنين معاً يمنع السرقة والتي يتعرض لها الكثيرون ويمنحهم الأمان لتمكنهم من الفرار معاً عند وجود مرور للبلدية.


ثم تأتي البلدية

لكن متاعب بائعي الرصيف لا حدود لها ولا تقف عند مطاردة البلدية لهم، وكأنهم مجموعة من اللصوص، وإنما يحدث كثيراً أن تأتى حملات مفاجئة من المباحث للقبض على الجميع، وقد يحبسون عدة أيام بتهمة إشغال الطريق.. والمدهش أن هذا الأمر لا يثني البائعين عن العودة للرصيف، والسبب كما يقول الجميع أن رؤوس أموالهم صغيرة والرصيف هو الأفضل لهم حتى يتمكنوا -وكما يحلمون- بفتح محلات تخصهم وتحميهم من بهدلة البلدية على حد قول الجميع..

ولعل أسوأ ما يتعرض له باعة الرصيف هو ابتزاز الكثير من أمناء الشرطة وبعض الضباط لهم وهو ما شاهدته بعيني، ورغم حصول هؤلاء الشرطيين على المعلوم سواء نقود أو بضاعة عينية إلا أن مطاردتهم لا تنتهي وربما يتحرك البائعون بسببهم من مكانهم في اليوم الواحد عشرات المرات، ولعل هذا مايدفع بعضهم للقول "لابيرحموا ولا...."!

  • Currently 90/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
30 تصويتات / 548 مشاهدة
نشرت فى 17 يوليو 2008 بواسطة moghazy

مغازى عبدالعال محمد الطوخى

moghazy
*رئيس اتحاد طلاب المعاهد العليا (وزارة التعليم العالي) الاسبق *رئيس اتحاد طلاب المعهد العالي للتعاون الزراعي الاسبق *أمين اللجنة الاجتماعية والرحلات بالمعهد العالي للتعاون الزراعي الاسبق *عضو جمعية الهلال الأحمر المصري *عضو جمعية بيوت الشباب المصرية *عضو جمعية الكشافة البحرية المصرية *صحفي بجريدة أخبار كفر الشيخ *عضو نقابة المهن الزراعية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

683,133