الثورة والعدالة الاجتماعية وضرورة تشكيل الحزب الديمقراطي
بقلم
أ.د. محمد نبيل جامع
أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية
01227435754
18 فبراير 2012
كانت السيارة تشق معالم الطريق وعلى يمينها سور عال مكهرب، نتناول الحديث في قصص طويلة، والسور لا ينتهي، ثم تبين لنا أن هذا السور يحيط بمزرعة ومنزل أحد المستعمرين البيض القدامى والذين تجنسوا بجنسية هذا البلد الإفريقي الفقير "ناميبيا" الذي كان تعداده حوالي 2 مليون نسمة منهم حوالي 200 ألف أبيض من الألمان والبرتغاليين والجنسيات الأوروبية الأخرى. كان متوسط دخل الفرد الناميبي الأصلي 67 دولار في السنة، بينما وصل متوسط دخل الفرد الأبيض وقت زيارتنا عام 1996م 16500 دولار في السنة، أي 246 ضِعف، أي عدل هذا؟ ولعنة الله على الاستعمار وظلم الإنسان لأخيه الإنسان. وطبعا سأتركك قارئي العزيز لتتخيل حياة كل من الفريقين. لم يكن حالنا قبل الثورة بمثل هذه البشاعة، ولكنه ليس ببعيد عنها كل البعد.
وهل تعنى العدالة أن يتساوى الناس في حظوظهم من الدنيا على أساس أن الناس سواسية كأسنان المشط؟ الحديث ضعيف أو مرفوع، والناس سواسية أمام الله، وأمام العبادات، وأمام الحلال والحرام، والأتقى هو الأكرم والأعلى عند الله سبحانه وتعالى. أما تفاوت الأرزاق فهو سنة من سنن الله سبحانه وتعالى، مرة ليمنع سبحانه البغي في الأرض " وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ" (الشورى 27)، ومرة لكي يكون بعضنا لبعض سُخريا (أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ " (الزخرف 32)، فالطبيب مسخر لخدمة المريض الفقير والغني على السواء. وكلنا مسخرون لخدمة بعضنا البعض بمعنى أن التسخير ليس المقصود به الإذلال والإذعان، ولكن المقصود به هو التكامل وتبادل المنافع، فلولا الزبال لأصبنا جميعا بالكوليرا، ولولا الطبيب في نفس الوقت لزاد معدل الوفيات ومعدل المعاناة. هذا، ويعتبر تفاوت الأرزاق ابتلاءً من الله واختبارا للبشر، فالغني عليه الزكاة والصدقة والشكر، والفقير عليه الصبر. وفي النهاية يقول علماء الاجتماع كيف تساوي بين من يدرس ويجتهد ويتكبد التكاليف الهائلة والوقت الطويل لكي يكون جراح مخ أو قلب متميز مثلا وبين من يتعجل بالعمل والكسب وهو صغير معتمدا فقط على مهارة جسدية أو قدرة عضلية فقط. النتيجة النهائية هي عدالة التفاوت في الرزق، ومن ثم عدالة وجود الطبقات الاجتماعية.
إذا كان الأمر كذلك فكيف نطالب بالعدالة الاجتماعية بعد الثورة؟ العدالة الاجتماعية لا تعني المساواة المطلقة، ولكنها تعني كرامة الإنسان وإعطاء كل ذي حق حقه. في الشيوعية معيار العدالة الاجتماعية "من كل على قدر طاقته ولكل على قدر حاجته"، بمعنى أن الإنسان يعمل بأقصى طاقته ولا يحصل إلا على حاجته، أي 1800 كالوري من الغذاء وسرير متر في مترين..، وهكذا مع كل البشر. وفي الرأسمالية يكون معيار العدالة الاجتماعية "لكل علي قدر عمله"، أي رزقك على قدر عملك. وإن لم تكن قادرا على العمل لشيخوختك أو مرضك أو عجزك فاذهب إلى الجحيم، ولا بكاء عليك. أما معيار العدالة الاجتماعية في الإسلام فهو "لكل على قدر عمله، ولكل على قدر حاجته" بمعنى اجتهد واعمل بشرف واكسب ولو كنوز الدنيا كلها، ولكن في نفس الوقت للعاجز والمريض والمعوق حق الحياة الكريمة على المجتمع الإسلامي. كما لا تعنى العدالة الاجتماعية الاستئثار بموارد الدولة وثرواتها لدي البعض وحرمان الآخرين منها. وهذا يعيدنا إلى قصة ناميبيا مرة أخرى وما لها من علاقة بمصر بعد الثورة.
كانت مهمتنا في ناميبيا تخطيط ووضع نظام لاستزراع حوالي 200 ألف فدان صحراوية على ضفة نهر "الأورانج" الذي يمثل الحدود الجنوبية بين ناميبيا وجنوب إفريقيا. كنت أنا المختص بالتصميم الاجتماعي الزراعي بين فريق يشمل تخصصات النبات والحيوان والتصنيع الزراعي والأراضي والاقتصاد. ركزت مهمتي بحكم تخصصي في توزيع الحيازات الزراعية والنظم المزرعية للمنتفعين من هذه الأرض المستزرعة، فاقترحت أن يوزع 15% من هذه المساحة على كبار المزارعين (أصحاب إقطاعيات زراعية) على أن يكون نصيب كل منهم 1500 فدان فقط، ثم 35% من الأرض المستزرعة توزع على ما أطلقت عليهم "المزارعون التجاريون" حيث تكون مساحة كل قطعة 170 فدان، ثم في النهاية يوزع 50% من الأرض الزراعية على صغار المزارعين (يعنى فقراء الدولة) بحيث تكون مساحة كل قطعة 20 فدان. يمكنك أن تسمى هذه التوزيعة "توزيعة اشتراكية" مجازاً. وهنا اعترض موظفو وزارة الزراعة الكبار وهم ناميبيون بيض من فلول الاستعمار الألماني والجنوب إفريقي أصحاب المزارع التي بدأت بها هذا المقال. ودارت حرب بيني وبينهم وانتهت بقبول وزارة الزراعة التي يرأسها وزير ووكلاء وزارة سود البشرة بعد الاستقلال عام 1990م. وقد عضدني في ذلك مستشار مقيم من الأمم المتحدة هناك بريطاني الجنسية، كما أعجب الوزير بمنطق التوزيع أولا ثم بالتحيز لصالح الفقراء ثانيا. هذه هي العدالة الاجتماعية. إذن العدالة الاجتماعية ليست توزيع الأراضي كما يُزمع الآن حتى بعد الثورة لرجال الأعمال وبمساحات تصل إلى 20 ألف فدان أو أكثر لهؤلاء المغامرين كما فعلنا بتوحش من قبل في توشكي مع الوليد بن طلال وشركات أخرى. منطق التوزيع الذي اقترحته في ناميبيا يعتمد على تحقيق النفع المتبادل بين المزارعين الإقطاعيين (ذوي القدرات والاحتياجات المعينة) والمزارعين التجاريين وصغار المزارعين والذين لكل منهم احتياجات معينة لا يستطيعون تحقيقها إلا من خلال الفئتين الأخريين، ولذلك سمي نمط التوزيع هذا "نموذج النفع المتبادل لتوزيع الحيازات الزراعية"، وهو نموذج يحقق العدالة ونشر السكان في الصحراء.
هل تَعلم من هم أعداء الثورة؟ وتذكر سيادتك أن الثورة هي تغيير جذري في حياتنا. الأعداء هم المنتفعون بأوضاع ما قبل الثورة، وهذا بديهي. الأعداء أيضا هم التجار والمهنيون، وخاصة الكبار منهم، والذين يتوقف رزقهم على السوق، ولا يريدون لعبا في قواعد السوق القائمة مما يهدد رزقهم. وأخيرا الأعداء غير الشرسين هم الخائفون القانعون الذين تسيطر عليهم حاجة التبعية والاعتماد على سلطة تحميهم حتى ولو كانت تسلبهم حقوقهم وكرامتهم. هؤلاء الأعداء هم دائما المحافظون، ولذلك سيكون دائما هناك حزب المحافظين (كما في بريطانيا) أو الحزب الجمهوري (كما في أمريكا). هم دائما المعارضون للثورة والتغيير والعدالة. وعندنا في مصر يبدو أن هذا الحزب هو الذي سيشكله التيار الإسلامي مع المؤسسة العسكرية.
الخلاصة: علينا نحن طلاب الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية أن نسرع في تكوين وبناء حزب العدالة الاجتماعية، والذي يمكن أن يسمى "حزب الثورة" أو "حزب النهضة" كما يفكر فيه البرادعي وغنيم وأبو الغار، أو "الحزب الديمقراطي" ، ولا أفضل مسمى "حزب العمال" كما في بريطانيا لأنه يوحي بأن العمال هم عمال المصانع والشركات فقط.
هذه هي قضية إنجاح الثورة واكتمال تحقيق أهدافها. القوى المعادية قوية جدا تتميز بالتنظيم الصارم، كما تتميز بالقوة المادية العسكرية والمالية والإعلامية، كما تتميز بالنفوذ المهيمن، وخاصة من جانب المؤسسة العسكرية، وتتميز أيضا بالتوحش والحماس "الفظيع" بسبب المكاسب الهائلة بالنسبة للقوة العسكرية أو بسبب الايدولوجيا الفاشية الخيالية بالنسبة للتيار الإسلامي. ومن ثم فلا يفل الحديد إلا الحديد، وعلى ذلك فنحن طلاب العدالة والحداثة والعزة والكرامة لشباب وأطفال مصر وشعبها البائس علينا واجب مقدس له الثواب الأعظم عند الله سبحانه وتعالى، وهو انضمام وتوحد جميع القوى الثورية السياسية والثقافية والإعلامية والشبابية والدينية السمحة أيضا لتكوين "الحزب الديمقراطي المصري" أو "حزب الثورة"، وبدعم الشيوخ والعجزة أمثال العبد لله وأساتذته البرادعي وغنيم وأبو الغار وسعد هجرس وبهاء طاهر وعبد الجليل مصطفى ودراج وأحرار مصر العاملين بالخارج وجميع المستنيرين، بدعم من هؤلاء جميعا أتوجه بالنداء إلى الشباب الأحبة محمد أبو حامد وزياد العليمي ومصطفى النجار وناصر عبد الحميد وإبراهيم الهضيبي وغيرهم ما شاء الله كثيرون من نوار مصر وزهورها، حماهم الله جميعا، أتوجه إلى هؤلاء بالبدء في تكوين هذا الحزب والدعوة له، والدعوة للتبرع له وأنا أول المتبرعين بأقصى ما أستطيع، فهو عندي أهم من التبرع لمسجد أو لمدرسة أو لتعويض المعونة الأمريكية، إذ لن ينجح أي عمل خيري من مثل ذلك إلا بنجاح الثورة واستقرارها وبدء تحقيق أهدافها. وأنتم أيها الإعلاميون الشرفاء: اصمدوا في وجه أصحاب الفضائيات الظالمين، فوالله ثوابُكم عظيم، وكان الله في عونكم، فقد عظُم قدْركم وقدَركم، فاغتنموهما، ووصيتكم ثورة يناير الحبيبة المستنيرة، أمل الفقراء والمعذبين في أرض الكنانة الصامدة، وإنَّهُ لاً يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.
ساحة النقاش