مصر بين حَوَل السلفيين وسراب الإخوان وجهاد الثوار
بقلم
أ.د. محمد نبيل جامع
أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية
01227435754
9 يناير 2011
عين الرياء، في تقديري هذه الأيام، الاشتغال بالسياسة مع التزين بلحى الدين وعباءاته. انتهت المرحلة الثالثة من الانتخابات الأولى بعد الثورة، وما سببته لنا من اكتئاب تعدى حال النفس إلى حال الجسد، والتي قدمت للتاريخ العالمي أول درس في تزييف عقول الناخبين وقهرهم. الطبيعة المراسيمية أو الشعائرية لتدين الشعب المصري جعلته يصدق الأبواق الدعائية على منابر المساجد لـ "السلفيين" والإخوان "المسلمين" بالإضافة إلى سبل الاستغلال الأخرى التي تخلو من كل قيم إسلامية حقيقية والتي جعلت من الفقراء والمقهورين عبيدا يساقون إلى طوابير الانتخابات، ولم يُرْحم من هذا الاستغلال حتى المعاقين والمعاقات بمن فيهم من المسنات الفائقات في البدانة والمتحركات على عِصِيهن وأذرع بناتهن أو أولادهن، وهو منظر بشع لا يدل على حرص على المشاركة السياسية بقدر ما يدل على الاستغلال الجشع للمرشحين ذوي العطاءات والرشوات والتهديد بالغرامات. هذا الاستغلال الذي يتم لشعب سطحي التدين، غارق في الفساد من أول البائع الجائل أو بائعة الجرجير الذين يستغلون المشترين حتى الطبيب الجشع، والجميع يتصور أنه بطاعة الأبواق الدينية الدعائية فإن الله سيغفر لهم خطايا الغش والجشع وطف الميزان أو تطفيفه، أيهما كانت الكلمة الصحيحة. هذا ونعترف بأن هناك طائفة واعية مثقفة لم يُزَيف عقلها ولها احترامنا وتقديرنا لحقها في الاختيار.
انطلق الفائزون المزيفون من هذه التيارات الدينية يرفعون ما وَعَدوا به هؤلاء البسطاء من بدء حملات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحكومة الإسلامية ثم من بعدها الخلافة ثم من بعدها الأستاذية، أستاذية العالم كإطار لنشر الدعوة الإسلامية. هل تتصور أن رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إحدى دول الخليج قد طارد زوجة زميل لي أستاذ في الجامعة هناك وهم يقولون لها "أنت يا مرا يا زانية" لمجرد أنه شم رائحة عطرها الوقور وهي امرأة تجاوزت الخمسين من عمرها؟ وهل تعلم أن زوجها تظاهر بأنه ليس بزوجها وإلا فإنهما سيشحنان في عربة إلى مكان الهيئة لينالا ما ينالا هناك من امتهان لكرامة الإنسان؟
نظر السلفيون وقد احْوَلت عيونهم إلى تلك التفاهات والخزعبلات وعموا عن أصول الظلم والفساد الحقيقي اللذان يحتاج المجتمع المصري إلى أن يتخلص منهما بعد فترة حكم الدكتاتور السابق وكهنته الشياطين. نسوا أن الفساد عقبة كبرى أمام الديمقراطية وسيادة القانون، وأنه يفقد المؤسسات السياسية شرعيتها، وأنه يمنع ظهور قادة مخلصين صادقين، وأنه يؤدي إلى تآكل الثروة الوطنية، وأنه يوجه الموارد إلى مشروعات ضخمة غير مفيدة كما حدث مع مشروع توشكي، المشروع المُمَجد لذكرى مبارك الطاغية، على حساب المشروعات الشعبية كالمدارس والطرق والمستشفيات ومياه الشرب والصرف الصحي في المناطق الريفية والعشوائية، ذلك الفساد والظلم اللذان يؤديان أيضا إلى تقزم المجتمع المدني وانتشار التوتر واللامبالاة وعدم الانتماء وانتشار الرشوة والقيم الفاسدة وهجرة العقول المخلصة الرافضة للانصياع لتلك الأوضاع الفاسدة. نسوا أن الفساد يؤدي إلى استقبال الصناعات القذرة من شمال العالم ومن أغنيائه مما يؤدي إلى تفريغ المال العام في جيوب الخواص من مصاصي الدماء وتفريغ السموم في رئات الفقراء وأكبادهم وكُلاهم ودمائهم. هذا وقد نسوا أن الفساد يشمل ما يفعلون، وهو استقبال أموال من جهة معينة لحزبهم وذلك لاتباع سياسة معينة تحقق مصالحها الخاصة. وقد نسوا أيضا أن الفساد يشمل التعليمات الموجهة لأعضاء حزبهم لاتباع أوامر لا تعبر عن رغبات الناخبين ووجهة نظرهم، واتباع السياسات المملاة عليهم بجماعات ودول خارج حزبهم.
هذا وقد مارس الإخوان "المسلمون" صنوف الفساد السياسي بعد اغتيال الإمام البنا رحمه الله، بتحالفهم مع النظم الحاكمة تارة، والمخابرات البريطانية تارة أخرى، يخفضون من قيمة الصدق والأمانة والنزاهة والكفاءة الموضوعية ، ويتحالفون مع العسكر الحاكمين الآن ويعدوهم بالولاء وينتحون سلوك الكسب الشخصي في العمل السياسي الحكومي، ثم أخيرا يسمحون لأنفسهم أن يشتركوا مع المجلس العسكري الأعلى في إجهاض أعظم ثورة في تاريخ مصر، الثورة التي سمحت للعسكر بالحكم، والتي أدت إلى خروجهم من زنازين المحظورة إلى فضاء المحظوظة، تلك الثورة التي ستستمر رغما عن هاتين القوتين العابرتين في تاريخ تحرر أرض الكنانة بعد أن حررتها من أتون القهر والاستبداد. وليعلم الإخوان المسلمون أنهم قد أجرموا إذا لم يطهروا مواقفهم الانتهازية بالإعلان القاطع بأنهم سيكونون فداءً وعزا ودعما لتحقيق مطالب الثورة كاملة غير منقوصة تعويضا عما ارتكبوه من إجهاض مرحلي لها. وليعلموا أيضا أن السلطة بالنسبة لهم هي مجرد غالبية (إن حدثت) في مجرد سلطة تشريعية تتوازن مع السلطة التنفيذية من ناحية والسلطة القضائية من ناحية أخرى. هم تمكنوا من ذلك بفضل استغلالهم للدين مع البسطاء من الناخبين وهذا سلاح لا ينفع مع السلطة التنفيذية أو القضائية. فهل يعلم الإخوان "المسلمون" والـ "سلفيون" أن الوسيلة الوحيدة لبقائهم في السلطة هي الحفاظ على جهل الشعب المصري حتى يصدق أكاذيبهم، وأن يحافظوا على مرضه حتى يحتاج إلى هباتهم وعطائهم بالرغم من الوعود البراقة في برنامج نهضتهم؟ أقول مرة أخرى لعنة الله على السياسة وخاصة عندما لا يمارسها ممتهنوها الأصليون.
وفي النهاية أقول للثوار، روح مصر ومستقبلها وطاقتها التي لا تقهر، أقول لهؤلاء ابتداءً من الضعفاء أمثالي الرابضين في بيوتهم بسبب العجز أو الخوف أو الدعاء لنجاح الثورة حتى المجاهدين في ميادين مصر، والمجاهدين بحركاتهم الاجتماعية والثورية، مرورا بالشعب فلاحين وعمال، وحرفيين وتجار، ومهنيين وإعلاميين، يزدانون جميعا بشباب مصر الثوري الواعي أصحاب المصلحة الأولى في الثورة ومستقبل مصر الزاهر، أقول: انطلق قطار الثورة ولن يتوقف، وبالتأكيد لن يعود إلى الوراء اتساقا مع الحركة الطبيعية للتاريخ في كافة أرجاء المعمورة. وأقول لهم أيضا دعنا نحتفل سلميا في جميع ميادين مصر وشوارعها احتفالا نؤكد فيه للقوى الحاكمة والقوى الانتهازية والقوى الرجعية على كل مما يلي:
<!--إعادة الوحدة الوطنية العظمى التي تجلت حينما خرج أكثر من عشرين مليونا في تلك الميادين لتقول للعالم كله ولطغاة مصر وطغاة العالم أن الشعب المصري جسد واحد، لا تفرقه ملل ولا طوائف ولا ديانات ولا قبائل ولا عائلات ولا أيديولوجيات سياسية، جسد مصر، أولى الحضارات وأم الدنيا، وقد هب هذا الشعب لبناء مصر ولتلحق بمن كانوا في أذيالها ولتستعيد مكانتها.
<!--تعميق معاني القيم السامية، غاية ثورتنا المجيدة، وهي الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والعزة الوطنية، قيم الإنسانية المستخلفة لإعمار الأرض وتحقيق منهج الحق سبحانه وتعالى.
<!--تحية أرواح الشهداء، وتخفيف معاناة المصابين، والدعاء لهم شكرا وامتنانا لتضحياتهم وشجاعتهم وإقدامهم وتكريمهم لمصر وشعبها، ثم شكر الأحرار والشرفاء والعلماء والمثقفين المجاهدين من أبناء مصر المهمومين في يقظتهم وفي منامهم بإحياء ثورتنا الحبيبة ودفع طاقتها ومسيرتها لتحقيق كامل أهدافها، هؤلاء الذين يصارعون المجلس الأعلى للقوات المسلحة والقوى الرجعية داخل البلاد وخارجها الذين باتوا في العراء وتحت الأضواء يجهضون الثورة ويعيدونا إلى عصر مبارك الأسود.
<!--التأكيد على استمرارية الثورة والإصرار المطلق على تحقيق مطالبها كاملة غير منقوصة، مع المطالبة برجوع الجيش إلى ثكناته وتسليم السلطة إلى رئيس منتخب أو رئيس مجلس الشعب في أقرب فرصة ممكنة، فقد عانى الجيش المصري والشعب المصري على السواء، ومل من سيرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة وأخطائه، بل وأعماله المقصودة من أجل إجهاض الثورة وظلم مصر والمصريين بمنع الأولى من التقدم ومنع المصريين من حقوقهم المشروعة كسائر الشعوب المحترمة في العالم، تلك الأخطاء والأعمال التي أصبحت خطرا يهدد صورة الجيش المصري نفسه بفعل التخبط السياسي لمجلسه الأعلى.
<!--دعوة أحرار العالم ورعاة العدالة والحقوق الإنسانية لمشاركة مصر والمصريين في ميدان التحرير وميادين مصر كلها، ودعوة الصحفيين والإعلاميين العالمين للمشاركة أيضا في هذا العيد الوطني الكبير.
<!--التأكيد على أن أحرار مصر وشبابها وثوارها الذين اختطفت ثورتهم بمطالبها المشروعة رغم الدماء المراقة من أجساد الشهداء الأطهار وجروح المصابين الأخيار لن تسحقهم الدبابات أو تقهرهم الرصاصات، وإنما سوف يظلون بعزم وإصرار وإيمان السلطة الرابعة والقوة الموجهة لحركة المجتمع المصري والضابطة لسلطاته التنفيذية والقضائية والتشريعية على السواء والموجهة لبناء مصر الحديثة، حلمهم المشروع وحقهم الأصيل في الحياة الكريمة واللائقة بشعب بهر العالم بتاريخه وإبداعه.
ساحة النقاش