( النداهة )
قصة قصيرة
بقلم / سليم عوض عيشان ( علاونة )
==================
( النص ليس من نسج الخيال ... ففيه الواقعية الحقيقية بشكل " رمزي – ترميزي " ... وهو يطابق الحال المعاش .. ربما للكاتب .. وربما للقارئ ؟؟!! .. مع تغيير الأسماء للشخصيات فحسب ).
مقدمة لا بد منها :
.. الكلمات .. التسميات .. العناوين .. ليست حكراً على أحد .. وليست ملكاً لأحد .
فكلمة " الندّاهة " ليست حكراً على الدكتور الأديب / يوسف إدريس .. وليست هي ملكاً خالصاً له دون غيره .
إهداء :
إلى " فاطمة " بطلة النص ... التي كانت ؟؟!! ..
( الكاتب )
---------------------------------
( الندّاهـــــة )
أقسم الكثيرون بأنهم كانوا يسمعونها في معظم الليالي ..بعد أن ينتصف الليل أو يكاد .. كانت تنادي عليه بصوتها الرقيق الذي كان ينساب كالنسمة الرقيقة :
" محموووووود "
ثم لا يلبث النداء أن يرتفع بالتدريج .. إلى أن يصبح هادراً مزمجراً صاخباً :
" محمووووووووووووووووووووووووووو د " .
بدوره .. لم يكن ليستطيع مقاومة عذوبة الصوت ورقة النداء .. فكان يخرج من منزله وقد انتصف الليل أو كاد .. وقد ركن الجميع إلى النوم ، فلا يحس به أحد ، ولا يشعر به أحد .
يتسلل " محمود " خلسة من منزله بعد أن يكون قد انسل من الفراش .. يخرج إلى الفضاء الفسيح .. حيث الصوت الرقيق والحروف العذبة ما زالت تناديه برقة ونعومة ..
" محموووووووووود " .
فيسير كالنائم .. أو المنوم مغناطيسياً .. يبتعد ويبتعد كثيراً عن المنزل .. وعن الحيّ ؛ والصوت ما زال يناديه بإلحاح متواصل .. وبرقة وعذوبة.
لا يلبث أن يصل ناحية بئر المياه .. الذي يستمد منه الجميع المياه اللازمة لهم ..والصوت ما زال يلاحقه .
يقف إلى جانب أعلى فوهة البئر .. يأتي النداء من أعماق البئر يناديه بإلحاح غريب ، لا يسعه سوى الهبوط إلى قاع البئر ، مع هدوء الصوت التدريجي وخفوته ، يمكث هناك لمدة ليست بالقصيرة ، يخرج من البئر صاعداً درجات السلم الحديدي الطويل القديم الصدئ .. يخرج من المكان .. يعود إلى الحيّ .. إلى منزله .. إلى حجرته .. إلى سريره .. وينام .
عندما كان يستيقظ في الصباح .. كان لا يذكر شيئاً مما حدث في الليل .. ولكنه يجد بأنه لزاماً عليه .. أن يقوم بالاستحمام لإزالة آثار الجنابة ؟؟!! .
* * *
" محمود " .. شاب لطيف ، يعرفه كل سكان الحيّ بلا استثناء .. وديع .. لطيف المعشر .. خجول إلى أقصى حد ممكن .. يحب العمل ويتفانى في أدائه .. يجامل الجميع ويبتسم للكل .. يداعب الأطفال ويلاعب الصبية ويسامر الشباب ويجالس الرجال ويؤانس العجائز .
أحبها .. أحب " فاطمة " من كل قلبه .. البعض كانوا يطلقون عليها لقب " فطوم " .. والبعض كان يردد اللقب بشكل آخر " فطومة " ؛ كل الشباب وكل الرجال وحتى العجائز كان يُمنون أنفسهم بالوصال .. بالحب .. بالزواج من " فاطمة " ؟؟!! .
" فاطمة " أو " فطوم " صبية جميلة .. رائعة الحسن والجمال .. ممشوقة القوام .. معتدلة القد .. شقراء الشعر رغم أن والديها أسمرين .. زرقاء العينين رغم أن عيون والديها سوداوين .. بيضاء كالثلج ، رغم سمرة البشرة الواضحة لأبويها .
قال البعض بأن قانون الوراثة قد ظهر بأجل صوره وأروع معانيه فيها .. فلقد قالوا بأن جدتها لأبيها كانت بمثل هذا الجمال ذات يوم .. وبمثل تلك الصفات .. قال آخرون .. بأن جدها لأمها كان يتمتع بهذه الصفات وهذا الجمال الفتان .. وقالوا .. وقالوا .. وقالوا .. وما قيل في " فاطمة " أو " فطوم " كان أكثر بكثير .
" فاطمة " بدورها لم تأبه بهذا ولا بذاك .. وكأنها كانت تعيش في وادٍ آخر غير واديهم .. وعالم آخر غير عالمهم .. كانت تسير برقة ودلال .. تبتسم دوماً لكل كلمة غزل وإطراء .. تتدفق الدماء إلى وجهها بشكل غريب عندما يطاردها أحدهم بالغزل و " المعاكسة " .. فتشعر في قرارة نفسها بنشوة غريبة .. وتتمنى أن يستمر الجميع في مثل هذا الإطراء والمديح ؟؟!! .. والذي كان يدغدغ حواسها .. ويلهبها نشوة وسعادة ؟؟!! .
" محمود " .. لم يكن من ذلك الصنف أو النوع الذي يهوى مطاردة الفتيات والنساء أو ملاحقتهن بالغزل والمشاكسة .. كان خجولاً بشكل غريب .. مع النساء .. ولكنه كان أشد ما يكون خجلاً عندما يلتقي قدراً بـ " فطوم " .. فينتابه الشعور الغريب بالخجل والحرج .. ويتمنى في قرارة نفسه لو أن الأرض تنشق وتبتلعه ... فعندما لا يجد بأن أمنيته تلك قد تحققت .. يسارع بالفرار من المكان بأقصى سرعة .. فلا يسع " فطوم " سوى أن تطلق ضحكة رنانة مجلجلة مدوية .. تطارد " محمود " حتى يختفي عن الأنظار .
كم من الشباب والرجال من أبناء الحيّ والأحياء الأخرى قد فكروا بتحقيق الأماني والأحلام الليلية وإبرازها إلى حيز الوجود .. ولكن كل جهودهم وكل محاولاتهم كانت تذهب هباءً .. كانت تفشل بشكل ذريع .. فيرجعوا خاسئين خاسرين .
" فطوم " كانت ترفض الشاب تلو الشاب .. الرجل تلو الرجل .. مطلقة ضحكتها الرنانة العذبة القاتلة في كل مرة .. وهي تردد :
" لا أحب هذا الرجل ... لا أريده ... "
" لا أحب هذا الشاب ... لا أريده ... "
أبويها .. ألحا عليها بقبول الزواج .. بل بضرورة القبول بالزواج .. فهما لن يعيشا لها العمر .. خاصة وأنها وحيدتهما .. كانت ترفض الحديث والعرض بدلال ورقة .. تماماً كما كانت ترفض " العرسان " و " الخطاب " .
قال البعض بأنها امرأة بلا قلب .. قال آخرون بأنها من النوع الثالث .. ذلك النوع الذي لا ينتمي للنساء ولا للرجال ؟؟!! .. رغم ذلك الجمال الطاغي ؟؟!! . قال آخرون بأنها امرأة خلقت بلا أحاسيس أو مشاعر تجاه الجنس الآخر .. تجاه الرجال .. ووصل الحد ببعضهم أن وصفوها بأنها " سادية " ؟؟!! من ذلك النوع الذي يتلذذ ويسعد بشقاء وتعاسة وعذاب الآخرين ..؟؟!! وقال آخرون بأنها تحب أحد ملوك الجن ..والذي لم يستطيعون تبيان لونه وانتمائه .. هل هو من الجن الأحمر .. الأخضر .. الأزرق .. أو الأصفر .. ؟؟!!
أحدهم دحض كل هذا وذاك .. وأكد بأنها امرأة فاجرة .. داعرة .. ولكنها تخفي ذلك كله عن الجميع .. وأنها تلتقي عشاقها الذين تختارهم بعناية فائقة .. تلتقيهم في بعض الليالي القمرية .. ما بعد منتصف الليل بالقرب من بئر المياه الوحيد .. النائي البعيد .. فيحدث بينهما ما يحدث ؟!! .. وهي ترفض الزواج حتى لا ينكشف أمرها بفقدان عذريتها وبفقدان عشاقها ؟؟!! .
الكثير من القوم صدقوا الأمر .. ورددوه في الحيّ .. حتى وصل إلى مسامع والديها .. صارحاها بالأمر .. وبما يتقول به الجميع .. فكانت ضحكتها الرنانة المدوية هي الجواب .. ولا شيء غيرها ؟! .
" محمود " بدوره .. كان يستمع لما يتقول به القوم .. لم يكن ليصدق أي مقولة بالمطلق .. كان يرفض أي أمر من تلك الأمور في قرارة نفسه .. ويحس بأن " فطوم " بريئة من كل قول فيه البهتان والزور .. براءة الذئب من دم ابن يعقوب .
في تلك الليلة الليلاء كان " محمود " يعود إلى منزله متأخراً .. حيث انتصف الليل أو كاد .. كان يهم بدخول منزله .. لولا .. لولا أن رآها ؟؟!!
إنها هي .. " فاطمة " .. " فطوم " بشحمها ولحمها .. تخرج من منزلها متلصصة .. تتوجه إلى خارج الحيّ .. إلى البعيد البعيد .. يتبعها " محمود " دون أن تحس به أو تشعر بمتابعته .. .
تصل إلى المنطقة النائية .. تتوجه ناحية " بئر المياه " ..تقف إلى جانب الفوهة .. تطل في داخل البئر .. تنادي بصوتها الرقيق العذب برقة ودلال :
" محمووود " ... " محمووووووود " ..
يتجمد الشاب وهو يقف بعيداً يراقبها .. يتسمر في مكانه .. يصاب بالصدمة .. بالدهشة .. يتساءل في سره : "
" من هو محمود ذلك الذي كانت تناديه الفتاة من أعماق البئر ؟؟!! " .
تكرر الفتاة النداء .. مرات ومرات ..
يقترب الشاب منها رويداً رويداً ..لاستطلاع الأمر عن قرب .. الفتاة ما زالت تردد النداء برقة وعذوبة ودلال .. يصل إلى جانبها .. يستجمع شجاعته المفقودة .. قوته التائهة .. يقف إلى جانبها .. الفتاة لا تحس به .. تستمر في النداء ..
" محموووووووود " .... " محموووووووود " ..
ينطق الشاب بصعوبة :
" فطوم " ؟؟!!
تفاجأ الفتاة بالأمر .. تلتفت حولها .. يقع بصرها على الشاب ... تبتسم ابتسامة عريضة .. غريبة .. رائعة .. تهتف برقة وعذوبة :
" محممممممود " ؟؟!!
تقترب منه .. تمد بكلتا يديها نحوه .. تتحسس وجهه بسعادة ولهفة .. تردد بصوت رقيق واهٍ ..
" محموووووووود "
ها أنت هنا حقيقة يا حبيبي ؟؟!! .. أنا أحبك من بين كل شباب الحيّ .. من بين كل الرجال .. لا لشيء .. إلا لأنني أحببتك .. من كل قلبي ..فأنا أحضر هنا كل ليلة أناديك عند هذا البئر .. عسى أن تأتي .. وها أنت قد أتيت أخيراً .. كنت أحس جيداً بأنك سوف تأتي .. وها أنت قد أتيت بالفعل .. كم أحبك يا " محمووود " .
أصيب الشاب بالدهشة .. بالغرابة .. بالعجب .. لم يتفوه بحرف .. تجمد مكانه وكأنه أصبح تمثالاً من الصخر الصلد بلا حراك ..
تابعت الفتاة :
" كم انتظرتك .. كم ناديتك .. كم أحببتك .. أنا أحبك أنت .. أنت بالذات .. لا غيرك .. لا سواك .. أنت هو الحبيب المنتظر .. "
هدأت قليلاً .. تابعت :
" لعلك تتساءل وما الذي يأتي بي إلى هنا في مثل هذا الوقت من الليل ؟؟!! .. لك الحق في ذلك .. ولكن لتعلم ..بأنني أخشى أن أفصح عما بقلبي لأحد .. أي أحد .. حتى لا يتهمونني بالعشق .. بالفسق .. بالجنون .. وقد اتهموني بأكثر وأكثر دون أن اقترف إثماً أو أرتكب ذنباً .. فما بالك لو صارحتهم بمكنون صدري .. وما أخبئه في قلبي ؟؟!! .
كنت آتي إلى هنا لكي أناجي طيفك .. خيالك .. روحك .. بعد أن كنت تفر مني في كل مرة .. وبعد أن استعصى عليّ البوح لك بحبي ..
أنظر إلى أعماق البئر .. فأرى صورتك على صفحة المياه .. فأناجيها .. وأناجيك ..وأبوح بسري .. وبمكنون صدري .. . فلا يعرف سري أحد .. سوى البئر .. والبئر لا يفشي الأسرار .. إنه " مقبرة الأسرار " .
هدأت الفتاة قليلاً .. تابعت ..
" تعال .. تعال يا محمود .. أنظر .. أنظر إلى مياه البئر .. سوف ترى صورتك .. خيالك .. طيفك .. أنا أراه هنا في كل ليلة .. أناديه .. أناجيه .. أناغيه .. أبثه همومي .. تعال .. تعال أنظر ..
اقتربت الفتاة من حافة البئر .. وقف الشاب إلى جانبها .. نظرت إلى أعماق البئر .. حيث صفحة المياه تترقرق تحت نجوم السماء .. وقمرها .. هتفت برقة وعذوبة ...
" انظر .. ها أنت هناك .. في أعماق البئر .. على صفحة المياه .. انظر جيداً .. دقق النظر .. انظر .. إنه هناك .. " محمووود " .
اقتربت الفتاة نحو حافة فوهة البئر أكثر .. ما زالت تتحدث .. تضحك .. سعيدة جذلة .. وقد استبدت بها النشوة الطاغية .. والسعادة العظيمة ..
فجأة .. كانت قدمها تنزلق .. وفي لمح البصر .. كانت تهوي إلى قعر البئر .. وهي تطلق صرخة مدوية ترددت في جنبات البئر .. ولم يلبث أن تردد صداها في جنبات الأرض والسماء ..
" محمووووووووووووووووووووود " ..............
أقسم الكثيرون بأنهم كانوا يسمعونها في معظم الليالي ..بعد أن ينتصف الليل أو يكاد .. كانت تنادي عليه بصوتها الرقيق الذي كان ينساب كالنسمة الرقيقة :
" محموووووود "
ثم لا يلبث النداء أن يرتفع بالتدريج .. إلى أن يصبح هادراً مزمجراً صاخباً :
" محمووووووووووووووووووووووووووو د " .
بدوره .. لم يكن ليستطيع مقاومة عذوبة الصوت ورقة النداء .. فكان يخرج من منزله وقد انتصف الليل أو كاد .. وقد ركن الجميع إلى النوم ، فلا يحس به أحد ، ولا يشعر به أحد .
يتسلل " محمود " خلسة من منزله بعد أن يكون قد انسل من الفراش .. يخرج إلى الفضاء الفسيح .. حيث الصوت الرقيق والحروف العذبة ما زالت تناديه برقة ونعومة ..
" محموووووووووود " ؟؟؟!!!........