- ولادة موت  -

--------
صمتت الرياح فجأة، ربما أتاها خبر ما فارتأت أن تغادر دون ضجيج، سرب طيور السنونو يكبح جماح طيرانه، لكن المطر أبى أن يغيب عن لحظات الجنون .
شريف الشاب الطفل يحمل حقيبته الرمادية، طوله الفارع كما نخلة من بلاد الرافدين يوحي بغير مايبوح به وجهه البريء   .
- لا تبكي يا أمي ... سأعود عما قريب ... لا تخشي علي ...
- لا تتأخر علينا ياولدي ( قال الأب المتماسك كقطعة من جليد ) ...  
- كلها أيام أو شهر على الأكثر وأكون بينكم يا أبي ...
الكلمات لم تسعف الحاضرين، فلاذوا بالصمت، هل تعلموه من الرياح ... لعله كذلك، فقد كنت أراقب بصمت أنا الآخر  ...
قبلات تتطاير مع حبات المطر، الدموع تصعد نحو السماء، حرجة جدا تلك اللقطة, توارى الجسد الطويل مع مسافة لا تود السفر أكثر من ذلك ، انتهى الدرس القاسي، دونت يومها على تلافيف دماغي ( لحظات الوداع وحش كاسر لا يستطيع مجابهته إلا الجبابرة ) ... 
في ليلة مظلمة كان شريف مع رفاقه على موعد مع التاريخ والقدر ، الرصاص يتناثر في شتى الاتجاهات، عواء الثعالب الضالة يطرق أبواب الشر، ويهشم وجه الظلمة الحالكة، ضحك أحدهم بصوت مرتفع ... 
- إنها العاصفة ... بل إنها النهاية يا رفاق ... جهزوا مناديلكم ...
- لن نمت يا رفيقي ... الله معنا، أخبرتني أمي قبل أن أتي إلى هنا بأننا لن نمتْ ... ( قال شريف ) 
الرصاص يتبخر كندى الصباح، عواء الثعالب يزداد أزيزا، مرت صور مكثفة شتى في ذاكرته وهو يطلق آخر رصاصة من رحم بندقيته الساخنة ... ( نعم إنها النهاية، يبدو أن ساعة الحقيقة أزفت !!! ) كان الشاب الطفل يقول في سره ، اختنقت البندقية دون أن تنبس بحرفٍ واحد  ... 
عبر الجميع من هنا ثم اختفوا، إنه مثلث برمودا المرعب، تلاشت الأصوات، كل شيء أصبح في ذاكرة التاريخ 
- كنت أشعر بأنه لن يعد ... إحساسي لا يخيب ...
- اصمتي يامراة، إنه قضاء الله ... قالها الأب والنار تكاد أن تبلغ ذروة الجبل المقابل, لكنه عاد لتماسكه في تلك اللحظة الانكسارية ... 
حبست دموعها خلف سلاسل حديدية، تظاهرت أنها تحلم، لكنها كانت تحترق رويدا رويدا كما شمعة مصابة بفيروس النيران الخافت .
زيارات عدة يقوم بها أبو شريف، في آخرها عاد حاملا معه بطاقة صغيرة، وكيسا فيه بعض المال، لكن دفتر الأسرة كان يبكي رحيل أحد أجزاءه .
سبع سنوات ونيف مرت منذ ذاك الوقت، نسي الجميع بأن شريفا كان هنا ذات يوم، إلا تلك المرأة، صورته لم تفارق جثة ذاكرتها، تثور على الواقع أحيانا لكنها لا تلبث أن تعود إلى الطريق، تناظر الأجساد العابرة، تصرخ على شبح بعيد ...
قص علي أبو شريف حكايته في إحدى ليالي الشتاء، أذكر بأننا بكينا معا، ثم توارينا تحت دثار واحد  , كان الفجر قريباً منّا يومها , والبرد يأكلُ ما يشتهي من أجسادنا ... 
رن الهاتف النقال، الساعة كانت تتزوج الثالثة فجرا، ترنحت أم شريف على سريرها المهترئ، نظرت إلى الرقم القادم ...
- من يتصل بي في هذا الوقت ... اتصاله غليظ جدا ... 
تركت الهاتف يرن وعادت إلى نومها، لكنه عنيد جدا، فقد رنّ مرّة أخرى ...
- ردي ... رُدي يا آمنة ... ربما يكون أحد أفراد الأسرة قد غادر هو الآخر ...
أمسكت الهاتف بطرف أناملها، ضغطت على الزر الأخضر بهدوء : 
- الو ... مين ... ( تتكلم والنوم يغالبها ) , هل أرهقها أبو شريف في تلك الليلة !!! 
- أمي ... أمي ... أنا شريف ... أنا شريف ... 
- شريف ... !!! ... لااااااااااااا ...
سقط الهاتف النقّال من يدها، قفز الأب من مكانه وكأنّه أصيب بمسٍّ من جنون  , لم يكن يرتدي سوى قميصاً شفافاً ... 
- مين ... مين ... مين شريف ؟ ...
- نعم ... نعم يا أبي ... أنا شريف ... 
مع نسمات الصباح الأولى حضر سرِبُ السنونو، عاودت الرياح أدراجها ، العراضة الشامية كانت حاضرة هي الأخرى0  
كتبتُ على تلافيفِ دماغي للمرّةِ الثانية ولكن بعد مرور سبع سنوات ونيف : ( وُلِدَ الميْتُ من جديد، للحياةِ مفاجآتها السارّةُ أيضاً ) ... طويت الصفحة , رُبّما كي أفتحَ غيرها, فقد كان أحد أفراد سِرب السنونو يحدثني عن أمرٍ ما ...  
--------
وليد.ع.العايش 
٢٠/٧/٢٠١٨م

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 37 مشاهدة
نشرت فى 27 يوليو 2018 بواسطة mmansourraslan

عدد زيارات الموقع

109,683