- يوميات رمضان -١٩-
------------
الشمس تدق أسفين الرحيل في ذاك المساء من شهر كانون، عصافير الدار تتهيأ للنوم، أما القمر فقد حصل على استراحة مؤقتة .
لم يكن نزار سوى رجل كباقي الرجال، يعيش مع أسرته بهدوء، حقله الصغير يكفي، لم يشفع له شارباه كي يتحاشى ارتكاب حماقة ما على ضفاف النيل، ولا حتى وقاره الذي يظهر أمام الجيران .
تدفقت الزوجة إلى تحت شجرة الكرمة، تحمل جمالها خجلا، مع إبريق الشاي، وقطع حلوى رصفتها بعناية أنثى تعرف ماذا تفعل عندما يقسو القلب .
- صباح الخير يا نزار ...
أومأ برأسه دون أن يحرك شفتيه، حتى معالم وجهه كانت على غير عادتها .
- قلت صباح الخير ... لم لا ترد الصباح ... مابك يارجل ...
تابع سكونه المؤلم، ارتشف الشاي مسرعا، كان يود أن يتجاوز الموقف بسرعة، لمعت عيناه كما برق ليلة أمس، نظر إليها من طرف كم قميصه الأزرق، لعل الشفقة ولجت ثناياه فجأة ...
- ربما لن أعود اليوم ... لدي عمل كثير ... لا تنتظريني ...
لم يمنحها فسحة للسؤال، فلم يعد يظهر إلا ظله وهو يغادر .
- يبدو بأن لديه لقاء هام ... لقد ارتدى بذته الجديدة وقميصه الأزرق، وانتعل حذاءه المخصص للمناسبات فقط ...
كانت تحدث نفسها، ربما لم يسمعها أحد سوى السماء، حملت أشياءها وعادت إلى فراشها، فما زال الوقت مبكرا، ففي مثل هذا الوقت لا عمل كثير يجعلها تبقى على قيد الحركة .
دون سابق إنذار يحضر برق خاطف، لم يتوان الرعد عن الوصول، بدأت الأنوار تلوح كشبح الروايات القديمة، أنهى الشيخ ذو اللحية السوداء عمله، رفع المنديل الأبيض ...
- ألف مبروك عليكما ...
- بارك الله بك شيخنا ... رد نزار وهو يسبح في مياه الفرح المؤقت ، ناوله حفنة نقود كثيرة جعلت الشيخ يرقص طربا كالفراشة، أوصد الباب خلفه ثم غادر بهدوء .
في تلك اللحظة كان كل شيء يتحرك، الضجة تصم الآذان، لم يرحم المطر شيخنا الجليل، فقصفه بوابل من حبال متتالية .
ارتعشت الزوجة في سريرها مرغمة، هبت مذعورة كقطة طريدة .
- لا ليس حلما ... يا إلهي ... ما عساي أن أفعل والعاصفة ترمي حتى أشجار السنديان .
صراع مرير ومصير غامض تعيشه تلك الأنثى الأكثر بهاء، بينما نزار يتخلص من ثيابه في مكان ما ...
ارتدت العباءة الرمادية، انتعلت ( جزمة ) طويلة ثم خرجت، قلبها لا يكد يسعفها، فكان لابد للهاث من التقدم إلى صدرها المترامي الأطراف .
الباب يتعرض لوابل من الطرقات، ليس للرعد أو المطر أية علاقة فيما يجري، انتظرت وعاودت .
- الباب ... الباب يانزار ... هل يعرف أحد مكاننا ...
- لا ... قالها ووجهه يشحب بلون لا يشبه الألوان ...
ارتدى قميصه الداخلي الأبيض، تريث لحظة، فتح الباب ونظر إلى الخلف .
حاولت أن تصرخ، لكنه سارع إلى ثغرها الساخن جدا فأغلقه بكلتا يديه .
- لا تفضحينا يا امرأة ... إنها ... إنها ... إنها زوجتي .
كانت تعلم بأن شيء ما ينتظرها هنا، ربما ليلة حمراء، نزوة رجل في لحظة طيش، لكنها ما كانت تحلم بأن تسمع تلك الكلمة .
أيام مرت وهو غائب عن البيت، سنوات الحرب جعلت منه شخصا آخر، بل إنها جعلت من الكثيرين سلعة مختلفة .
اهتز الباب هذه المرة، لم يكن هناك رعد أو مطر ...
نظرت إليه بعينين تشبهان عينا فراشة فقدت جناحيها .
- ماذا تريدين يا امرأة في هذا الوقت المتأخر من الليل .
- لا أريد شيئا ... لا أريد شيئا ... ( فقط أريدك أنت ) ... ------------
وليد.ع.العايش
١٨/رمضان/ ١٤٣٩