رمضان في مصر .. حكاية لها العجب !!



اختلفت مظاهر رمضان على مر العصور، فكان لكل عصر سمات وعادات ومظاهر خاصة به، منها ما استمر وبقي ومنها ما اندثر وأصبح في طي النسيان..

وعن المظاهر والاستعدادات لاستقبال شهر رمضان التي تتم في مصر أيام زمان يقول المؤرخ إبراهيم عناني - عضو اتحاد المؤرخين العرب -: إن العادة التي كانت جارية من الأيام الأفضلية في آخر جمادى الآخرة من كل سنة أن تغلق جميع قاعات الخمّارين بالقاهرة، ويحظر بيع الخمر، ثم رأى الوزير المأمون لما ولي الوزارة بعد الأفضل ابن أمير الجيوش أن يكون ذلك في سائر الدولة؛ فكتب به أمرًا إلى جميع ولاة الأعمال بأن ينادي على الناس أن من تعرض لبيع شيء من المسكرات أو شرائها سرًّا أو جهرًا فقد عرض نفسه لتلفها وبرئت الذمة من هلاكها.

ويضيف إبراهيم عناني أنه في عام 155هـ خرج أول قاضي لرؤية هلال رمضان وهو القاضي أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة الذي ولي قضاء مصر، وخرج لنظر الهلال، وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته؛ حيث كانت تُعَدُّ لهم دكّة على سفح جبل المقطم عرفت بـ " دكة القضاة"، يخرج إليها لنظر الأهلة، فلما كان العصر الفاطمي بنى قائدهم بدر الجمالي مسجداً له على سفح المقطم اتخذت مئذنته مرصدًا لرؤية هلال رمضان.

وفي القرن الثالث الهجري اهتم أحمد بن طولون بأمر العمال خاصة في شهر رمضان.. فقد خرج مرة لزيارة مسجده وقت بنائه، فرأى الصناع يشتغلون إلى وقت الغروب، فقال: متى يشتري هؤلاء الضعفاء إفطارًا لعيالهم، أصرفوهم العصر فأصبحت سنة من ذلك الوقت، فلما فرغ رمضان قيل له: لقد انقضى رمضان فيعودون إلى عاداتهم فقال: "قد بلغني دعاؤهم وقد بركت به وليس هذا مما يوفر العمل .

العصر الفاطمي


وفي العصر الفاطمي بمصر والذي كان يُعهد فيه للقضاة بالطواف بالمساجد في القاهرة وباقي الأقاليم؛ لتفقُّد ما تم إجراؤه فيها من إصلاح وفرش وتعليق المسارج والقناديل، حتى إن الرحالة "ناصر خسرو" الذي زار مصر في القرن الخامس الهجري وصف "الثريا" التي أهداها الخليفة الحاكم بأمر الله إلى مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط بأنها كانت تزن سبعة قناطير من الفضة الخالصة، وكان يوقد به في ليالي المواسم والأعياد أكثر من 700 قنديل، وكان يفرش بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض، وما إن ينتهي شهر رمضان حتى تُعاد تلك الثريا والقناديل إلى مكان أعد لحفظها فيه داخل المسجد، كما أن الدولة في ذلك الوقت كانت تخصص مبلغًا من المال لشراء البخور الهندي والكافور والمسك الذي يصرف لتلك المساجد في شهر الصوم .

وعن الأسواق التي كانت تنشط فيها الحركة التجارية خلال شهر رمضان يقول إبراهيم عناني: إن سوق الشماعين بالنحاسين من أهم الأسواق خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين، فكان به في شهر رمضان موسم عظيم لشراء الشموع الموكبية التي تزن الواحدة "عشرة أرطال" فما دونها، وكان الأطفال يلتفون حول إحدى الشموع وبأيديهم الفوانيس يغنون ويتضاحكون ويمضون بموكبهم المنير في الحواري من بعد الإفطار حتى صلاة التراويح.. أما عن "سوق الحلاويين" الذي كانت تروق رؤيته في شهر رمضان، فكان من أبهج الأسواق ومن أحسن الأشياء منظرًا؛ حيث كان يصنع فيه من السكر أشكال خيول وسباع وغيرها تسمي "العلاليق".

وكان هناك أيضًا سوق السمكرية داخل باب زويلة "بوابة المتولي بالغورية"، فيعجُّ بأنواع "الياميش" و"قمر الدين"، وكانت وكالة "قوصون" شارع باب النصر التي ترجع إلى القرن الثامن الهجري مقر تجار الشام ينزلون فيها ببضائع بلاد الشام من الزيت والصابون والفستق والجوز واللوز والخروب.. ولما خربت وكالة قوصون في القرن التاسع انتقلت تجارة المكسرات إلى وكالة مطبخ العمل بالجمالية، وكانت مخصصة لبيع أصناف النقل كالجوز واللوز ونحوهما..

كما كان يتم عرض أنواع الحلوى مثل "القطايف" و"الكنافة"؛ إذ يقال إن الكنافة صنعت خصيصًا للخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، كما قيل: إنها صنعت للخليفة معاوية بن أبي سفيان.

وكانت الكنافة والقطايف موضع مساجلات بين الشعراء فجلال الدين السيوطي له رسالة عنوانها: "منهل اللطايف في الكنافة والقطايف".

ولم تكن مظاهر الاحتفال وما يقدم على الموائد فحسب.. بل كان لها تقاليد رسمية، فقد كان الخليفة يخرج في مهرجان إعلان حلول شهر رمضان من باب الذهب "أحد أبواب القصر الفاطمي"، متحليًا بملابسه الفخمة وحوله الوزراء بملابسهم المزركشة وخيولهم بسروجها المذهبة، وفي أيديهم الرماح والأسلحة المطعمة بالذهب والفضة والأعلام الحريرية الملونة، وأمامهم الجند تتقدمهم الموسيقى، ويسير في هذا الاحتفال التجار صانعو المعادن والصاغة، وغيرهم الذين كانوا يتبارون في إقامة مختلف أنواع الزينة على حوانيتهم فتبدو الشوارع والطرقات في أبهى زينة..

وكان موكب الخليفة يبدأ من بين القصرين "شارع المعز بالصاغة الآن"، ويسير في منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح "أحد أبواب سور القاهرة الشمالية"، ثم يدخل من باب النصر عائدًا إلى باب الذهب بالقصر، وفي أثناء الطريق توزع الصدقات على الفقراء والمساكين، وحينما يعود الخليفة إلى القصر يستقبله المقرئون بتلاوة القرآن الكريم في مدخل القصر ودهاليزه، حتى يصل إلى خزانة الكسوة الخاصة، فيغيِّر ملابسه ويرسل إلى كل أمير في دولته بطبق من الفضة مملوء بالحلوى، تتوسطه صرة من الدنانير الذهبية وتوزع الكسوة والصدقات والبخور وأعواد المسك على الموظفين والفقراء، ثم يتوجه لزيارة قبور آبائه حسب عاداته، فإذا ما انتهى من ذلك أمر بأن يكتب إلى الولاة والنواب بحلول شهر رمضان.

وكان الخليفة الفاطمي يصلي أيام الجمعة الثلاث: الثانية والثالثة والرابعة على الترتيب التالي الجمعة الثانية في جامع الحاكم والثالثة في الجامع الأزهر، أما الرابعة التي تعرف بالجمعة اليتيمة فكان يؤديها في جامع عمرو بالفسطاط، وكان يصرف من خزانة التوابل ماء الورد والعود برسم بخور الموكب والمسجد، وعقب صلاة الجمعة الأخيرة من رمضان يُذاع بلاغ رسمي عرف بسجل البشارة، وآخر ليلة من الشهر الكريم كان القراء والمنشدون يحيونها بالقصر الشرقي الكبير والخليفة يستمع من خلف ستار، وفي نهاية السهرة كان الخليفة ينثر على الحاضرين دنانير الذهب.

عصر المماليك


أما الاحتفال بحلول شهر رمضان ورؤية هلاله في العصر المملوكي، فكان قاضي القضاة يخرج لرؤية الهلال ومعه القضاة الأربعة كشهود ومعهم الشموع والفوانيس، ويشترك معهم المحتسب وكبار تجار القاهرة ورؤساء الطوائف والصناعات والحرف. وكانوا يشاهدون الهلال من منارة مدرسة المنصور قلاوون المدرسة المنصورية "بين القصرين" لوقوعها أمام المحكمة الصالحية "مدرسة الصالح نجم الدين بالصاغة"، فإذا تحققوا من رؤيته أضيئت الأنوار على الدكاكين وفي المآذن وتضاء المساجد، ثم يخرج قاضي القضاة في موكب تحف به جموع الشعب حاملة المشاعل والفوانيس والشموع حتى يصل إلى داره، ثم تتفرق الطوائف إلى أحيائها معلنة الصيام.

وقد وصف الرحالة "ابن بطوطة" عام 727هـ الاحتفال برؤية هلال رمضان في مدينة "أبيار" بالقرب من المحلة الكبرى، فقال: "وعادتهم في يوم الركبة أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر بدار القاضي، ويقف على باب الدار نقيب المتعممين وهو ذو شارة –هيئة حسنة- فإذا أتى أحد الفقهاء أو الأعيان تلقاه ذلك النقيب ومشى بين يديه قائلاً "باسم الله سيدنا فلان الدين" ويجلسه النقيب في موضع يليق به، فإذا تكاملوا جميعًا وعلى رأسهم القاضي، وتبعهم مَن بالمدينة من الرجال والصبيان حتى إذا ما انتهوا إلى موضع مرتفع خارج المدينة- وهو مرتقب الهلال عندهم- وقد فرش الموضع بالبسط والفرش فينزل القاضي ومن معه يرتقبون الهلال ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشموع والمشاعل والفوانيس، فيكون ذلك دليلاً على ثبوت الرؤية فيوقد التجار الشموع بحوانيتهم وتكثر الأنوار في الطرقات والمساجد.

ومن احتفال ليلة رؤية الهلال في عام 920هـ عهد السلطان الأشرف قنصوه الغوري- فقد حضر القضاة الأربعة بالمدرسة المنصورية، وحضر الزيني بركات بن موسى المحتسب، فلما ثبت رؤية الهلال وانفض المجلس ركب المحتسب ومشى أمامه السقاءون بالقرب وأوقدوا الشموع على الدكاكين وعلقوا المواقد والقناديل على طول الطريق إلى "بيت الزيني بركات"..

وفي مستهل الشهر يجلس السلطان في ميدان القلعة ويتقدم إليه الخليفة والقضاة الأربعة بالتهنئة، ثم يستعرض كميات الدقيق والخبز والسكر وكذا الغنم والبقر المخصصة لصدقات رمضان يعرضها عليه المحتسب بعد أن يكون قد استعرضها في أنحاء القاهرة تتقدمها الموسيقى، فينعم على المحتسب وعلى كبار رجال الدولة.

وقد اهتم سلاطين المماليك بالتوسع في البر والإحسان طوال الشهر المبارك.. فالسلطان برقوق "784هـ-801هـ" اعتاد طوال أيام ملكه أن يذبح في كل يوم من أيام رمضان خمسة وعشرين بقرة يتصدق بلحومها، بالإضافة إلى الخبز والأطعمة على أهل المساجد والروابط والسجون؛ بحيث يخص كلَّ فرد رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة، وسار على سنته من أتى بعده من السلاطين فأكثروا من ذبح الأبقار وتوزيع لحومها، كما رتب سلاطين السلطان بيبرس خمسة آلاف في كل يوم من أيام شهر رمضان..

كذلك اعتاد سلاطين المماليك عتق ثلاثين رقبة بعدد أيام الشهر الكريم، بالإضافة إلى كافة أنواع التوسعة على العلماء حيث تصرف لهم رواتب إضافية في شهر رمضان، خاصة ما يصرف من السكر وقد بلغ كمية السكر في عصر السلطان الناصر محمد بن قلاون سنة 745هـ-ثلاثة آلاف قنطار قيمتها ثلاثون ألف دينار منها ستون قنطاراً في كل يوم من أيام رمضان.

أما السلطانة ملك أرملة السلطان حسين كامل فكانت تخرج في موكب لتوزيع نقود ذهبية على الأطفال، وكانت ترتدي فستانًا طويلاً، وعلى الطفل أن يقبل ذيل فستانها، وهنا تقوم السلطانة بإهداء كل طفل كيسًا صغيرًا من الحرير يحمل عشرة ريالات ذهبية وكان الريال في حجم المليم.

أما أشهر من قاموا بالتسحير فشخص يدعى "ابن نقطة"، وهو المسحراتي الخاص للسلطان الناصر محمد، وكان "ابن نقطة" شيخ طائفة المسحراتية في عصره وصاحب فن "القومة"، وهي إحدى أشكال التسابيح والابتهالات .

العصر العثماني


في عصر الإمبراطورية العثمانية في التاسع والعشرين من شعبان كان القضاة الأربعة يجتمعون وبعض الفقهاء والمحتسب بالمدرسة المنصورية في "بين القصرين"، ثم يركبون جميعًا يتبعهم أرباب الحرف وبعض دراويش الصوفية إلى موضع مرتفع بجبل المقطم حيث يترقبون الهلال؛ فإذا ثبتت رؤيته عادوا وبين أيديهم المشاعل والقناديل إلى المدرسة المنصورية، ويعلن المحتسب ثبوت رؤية هلال رمضان ويعود إلى بيته في موكب حافل يحيط به أرباب الطرق والحرف بين أنواع المشاعل في ليلة مشهودة.

وفي صباح أول أيام رمضان يصعد المحتسب والقضاة الأربعة إلى القلعة لتهنئة "الباشا" الوالي؛ فيخلع عليهم "قفاطين" كما جرت العادة.. وفى بيوت الأعيان كان السّماط يُمدّ للناس ولا يُمنع من يريد الدخول، وكانت لهم عادات وصدقات في ليالي رمضان يطبخون فيها الأرز باللبن، ويملئون من ذلك قصاعًا كثيرة ويوزعون منها على المحتاجين، ويجتمع في كل بيت الكثير من الفقراء فيوزعون عليهم الخبز ويأكلون، ويعطونهم بعد ذلك دراهم، خلاف ما يوزع من الكعك المحشو بالسكر و"العجمية" وسائر الحلوى.

أيام الحملة الفرنسية


وفي زمن الحملة الفرنسية في مصر.. وفي ليلة الرؤية كان قاضي القضاة والمحتسب ومشايخ الديوان يجتمعون ببيت القاضي "المحكمة" بين القصرين، وعند ثبوت الرؤية يخرجون في موكب يحيط بهم مشايخ الحرف و"جملة من العساكر الفرنساوية"، وتطلق المدافع والصواريخ من القلعة والأزبكية.

وكانت كسوة الكعبة تُودع بمشهد مولانا الإمام الحسين حتى موعد "دوران المحمل" في الأسبوع الثالث من شهر شوال، وفي رمضان 1215هـ "توجَّه الوكيل" "الجنرال فورييه" ومشايخ الديوان إلى المشهد الحسيني لانتظار حضور "نابليون بونابرت" بسبب الكشف على الكسوة، وازدحم الناس زيادة على عادتهم في رمضان، فلما حضر ونزل عن فرسه عن الباب وأراد العبور للمسجد رأى ذلك الازدحام؛ فهاب الدخول وخاف العبور وسأل من معه عن سبب هذا الازدحام، فقالوا: " هذه عادة الناس في نهار رمضان يزدحمون دائمًا على هذه الصورة في المسجد، ولو حصل منكم تنبيه كنا أخرجناهم قبل حضوركم، فركب فرسه وكرَّ راجعًا وانصرف".

وفي العام التالي 1216هـ كانت الأوضاع لا تسمح بمظاهر احتفالية، خاصة مع تصاعد المقاومة الشعبية لجيش الاحتلال الفرنسي، ولم تُعْمل فيه الرؤية على العادة؛ خوفًا من عربدة العساكر.

وكان نابليون بونابرت يصدر أمره بالمناداة في أول رمضان بألا يتجاهر غير المسلمين بالأكل والشرب في الأسواق، وألا يشربوا الدخان ولا شيئًا من ذلك بمرأى منهم؛ كل ذلك لاستجلاب خواطر الرعية.. كما أقام نابليون عام 1798م في الإسكندرية بطارية مدفع فوق كوم الناضورة مزودة "بكُرة"، وتتصل البطارية بمرصد حلوان بحيث يتم إسقاط الكرة ساعة غروب الشمس؛ فتحدث صوتًا، وأصبح هذا الصوت إيذانا بموعد الإفطار وأطلق عليه "كرة الزوال".

العصر الحديث

ومع بداية القرن العشرين في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني انتقل إثبات رؤية الهلال إلى المحكمة الشرعية بباب الخلق، حيث كانت مواكب الرؤية تخرج إلى المحكمة الشرعية: موكب لأرباب الحرف على عربات مزدانة بالزهور والأوراق الملونة، وموكب الطرق الصوفية بالشارات والرايات والبيارق، وفرق رمزية من الجيش والشرطة بموسيقاها المميزة.

وكانت هذه المواكب تمر بقصر "البكري" بالخرنفش، حيث نقيب السادة الإشراف وأمراء الدولة والأعيان يستقبلون وفود المهنئين وتُوزع المرطبات ويتبادل الجميع التهاني، بينما مدافع القلعة والعباسية تدوي وتطلق الألعاب النارية وتضاء الأسواق والشوارع وجميع القباب والمآذن، يوم كانت المآذن تعلو البيوت.

وأما يوم الرؤية، فكان الموكب من القلعة يضم المحتسب وشيوخ التجار وأرباب الحرف من الطحانين والخبازين والزياتين والجزارين والفكهانية وصانعي الفوانيس وحاملي الشموع، تحيط بهم فرق الإنشاد الديني ودراويش الصوفية، وتتقدم المواكب فرقة من الجنود.

وفي العصر الحديث اشتهرت أيضًا مهنة المسحّراتي، وكانت النساء تضع نقودًا معدنية داخل ورقة ملفوفة ويشعلن طرفها، ثم يلقين بها من المشربية إلى المسحراتي؛ حتى يرى موضعها فينشد لهن.

أما ليلة القدر فدليلها في اعتقاد البعض تحوّل المالح حلوا؛ حيث كان الأتقياء يجلسون وأمامهم إناء فيه ماء مالح "وبين حين وآخر يتذوقون طعمه؛ ليروا هل أصبح حلوا أم لا؛ فإذا أصبح الماء حلو المذاق يتأكدون أن هذه ليلة هي القدر".

رمضان 2004 .. شكل مختلف تماما !!

كان شهر رمضان -ولا يزال- في مصر مناسبة اجتماعية دينية تعبر عن مدى حيوية التراث الثقافي المصري؛ ففي هذا الشهر نجد الوجه الديني للاحتفال برمضان متمثلاً في قراءة القرآن وحلقات الذكر وملازمة المساجد، والوجه الاجتماعي في الزيارات واللقاءات في المنازل والمقاهي. ويتجلى الجانب الفني في سماع الموسيقى والاستماع إلى السِّيَر والحكايات الشعبية ومواكب الأطفال بفوانيسهم وأغانيهم الجميلة وطواف "المسحراتي" بطبلته ذات الإيقاع المتميز. ويظهر الوجه السياسي في حرص الحكام على الظهور في مناسبات، مثل: صلاة الجمعة، أو رؤية الهلال، أو صلاة عيد الفطر. ويظهر الوجه الشعبي في قائمة الطعام الغنية المتنوعة، والتي حوّلت شهر الصوم إلى مناسبة للأكل.

ومع ذلك، فإنه يلاحظ في السنوات العشر ثم الخمس الأخيرة حدوث تحولات نوعية في هذه الأوجه والفعاليات، اختلف الدارسون حول دوافعها، وإن كان الحراك الاجتماعي "Social Mobility" يظل الدافع الرئيسي في هذه التحولات؛ وهو ما ذهب إليه "جلال أمين" في كتابه الشهير "ماذا حدث للمصريين؟".

وتحاول الفقرات التالية رصد بعض الظواهر والتغيرات التي طرأت على سلوك المصريين في السنوات الأخيرة في سياق احتفالهم بشهر رمضان :

ياميش وفوانيس وصواريخ
رغم اتسام الفاطميين والمماليك بالبذخ في استهلاك كميات أنواع لا تُحصَى من الياميش والمكسرات في شهر رمضان، فإن المصريين على المستوى الشعبي حتى سنوات قليلة سابقة لم يعرفوا سوى البلح وقمر الدين كمشروبات أساسية في رمضان، ولكن يلاحظ في السنوات الأخيرة ظهور أشكال وألوان من الياميش والمكسرات على مائدة إفطار الأسرة المصرية، بالإضافة إلى البلح الذي تفنن تجّاره في إطلاق أسماء المشاهير من نجوم الفن والسياسة على أنواعه المختلفة، ويعد بلح "بن لادن" أحدث هذه الأنواع وأغلاها.

أما الفوانيس، والتي اعتاد المصريون صناعتها من الزجاج والصاج لفترة طويلة؛ حيث كانت تضيء بالشمع، فقد توارت وحل محلها الفوانيس الكهربائية، التي تضيء بالبطارية، وفي إضافة جديدة أصبحت فوانيس رمضان تطلق الألحان والأغاني العربية. والغريب أن سوق الفوانيس في مصر تسيطر عليه الصين منذ سنوات.

وإلى جانب الفوانيس، بدأ يظهر في الشارع المصري في السنوات الأخيرة ما يطلق عليه "صواريخ رمضان"، والظاهرة ليست جديدة؛ حيث اعتاد أطفال القاهرة استخدام مفرقعات بسيطة، مثل: "البمب"، و"حرب إيطاليا"، وغيرها كنوع من مماثلة وتقليد مدفع الإفطار، ولكن الجديد هو الصوت المزعج والمرعب لهذه الصواريخ، والتي تستخدم أحيانًا في مضايقة الفتيات والنساء.

موائد وضيوف خمس نجوم

ربما ترجع فكرة "موائد الرحمن" إلى الولائم التي كان يقيمها الحكام وكبار رجال الدولة والتجار والأعيان في أيام الفاطميين، وحديثًا ظهرت الموائد على نطاق ضيق في صورة قيام أصحاب المصانع والورش والمحلات بإعداد هذه الموائد لعمالهم ومستخدميهم كنوع من البر، وكوسيلة للحفاظ على سير العمل في رمضان بانتظام.

ولكن يلاحظ في السنوات الأخيرة أن كمية ونوعية "موائد الرحمن" قد تطورت بشكل لافت للنظر، وأثارت جدلاً في المجتمع المصري، خاصة تلك الموائد المتميزة التي اعتادت أن تقيمها بعض الراقصات، واختلف موقف المصريين تجاهها بين الرفض والسخرية والتندر.

كما يلاحظ أن قائمة ضيوف "موائد الرحمن" لم تقتصر على الفقراء والمساكين وعابري السبيل فقط، ولكن امتدت لتشمل فئات أخرى ترتادها لأسباب مختلفة، منها: التنزه، والاستمتاع بهذا الجو، والتجربة.

وقد زاد من عدد ونوعية ضيوف الموائد الأزمات المرورية الطاحنة التي يشهدها رمضان في ساعة الذروة الرمضانية، وتشمل قائمة ضيوف موائد الرحمن مؤخرًا بعض الأجانب، الذين أدمنوا الأكل على الموائد، في محاولة لممارسة هذه الحالة الثقافية من ناحية، وتوفير ثمن وجبة يوميًّا من ناحية أخرى.

مقاهٍ وخيام

تضاعف أعداد مقاهي مصر المحروسة في السنوات الأخيرة بصورة تدعو إلى القلق، خاصة أن نمط المقهى لم يعد هذا النمط الذي صوره مسلسل "ليالي الحلمية" للمقهى الثقافي، والمدرسة التي تخرجت فيها كوادر سياسية وثقافية وطنية؛ حيث تلتهم مقاهي القاهرة ما يزيد على نصف شباب مصر، خاصة في ليالي وأمسيات رمضان، ويجذب الكثير من مقاهي القاهرة روادها مؤخرًا بسبب وجود القنوات الفضائية، خاصة في حالة إذاعة حدث، غالبًا ما يكون مباراة كرة قدم غير مذاعة في التليفزيون المصري.

أما خيمة رمضان، فهي ظاهرة جديدة على المجتمع المصري المعاصر، وغالبًا أنها انتقلت كفكرة من بيروت إلى القاهرة عبر القنوات الفضائية. وتقام معظم الخيام في الفنادق الكبرى، ولا يقدر على ثمن تذاكرها سوى أولاد الذوات، وهى تقيم ليالي يحيها نجوم الفن والغناء تحديدًا على هامش ولائم الطعام والشيشة. ولكن يلاحظ في هذا السياق ظهور نمطين مختلفين عن الصورة السائدة للخيمة، أولهما: الخيمة صديقة البيئة التي لا تقدم خدمة الشيشة، وثانيهما: الخيمة الإيمانية التي تقوم أساسًا على الدروس والفعاليات الدينية.

ليالي فنية وثقافية

يشهد رمضان في السنوات الأخيرة فعاليات فنية وثقافية غير مسبوقة؛ فبعد أن كانت دور السينما والمسارح والملاهي تغلق أبوابها في رمضان، تغيَّر الأمر وقرر أهل الفن أن يحتفلوا برمضان بطريقتهم الخاصة.

ويعتبر نشاط دار الأوبرا أكثر هذه الفعاليات استقرارا؛ حيث تعد برنامجًا خاصًّا برمضان، يتسم بالأصالة، ويتناسب مع طبيعة الشهر، ويرتبط نشاط الأوبرا بشكل أو بآخر بنشاط قصور الثقافة، وإن كانت الأخيرة أكثر جماهيرية من خلال برامجها التى تقدم كل ليلة مجانًا على" قصر الغوري"، و"بيت الهوارى"، و"زينب خاتون" بحي الأزهر أنواع الفنون المختلفة، خاصة الفن الشعبي والصوفي، ومؤخرًا الاتجاهات والفرق التجريبية.

وقد دخلت المراكز الثقافية الأجنبية الفعاليات الفنية والثقافية في ليالى رمضان بقوة، خاصة المراكز الثقافية الفرنسية والبريطانية والإيطالية والإسبانية؛ حيث تخصص هذه المراكز أسبوعًا من ليالي رمضان تقدم فيه المعارض الفنية والعروض السينمائية والمسرحية والحفلات الموسيقية والغنائية فقرة للشيخ "ياسين التهامي" –أشهر المطربين الصوفيين في مصر- كفقرة أساسية في برامجها لجذب الجماهير؛ لِمَا يتمتع به من أداء خاص.

رمضان الشعب

من الظواهر والملامح الأساسية لرمضان القاهرة أن تمتلئ مساجدها بالمصلين؛ وهو ما يدفع بعض أئمة المساجد في أول جمعة من رمضان إلى توجيه خطبة توبيخية، اعتاد المصلون سماعها كل عام عن السبب في عدم وجود هذا العدد الضخم في أيام السنة العادية، وتذكيرهم بأن "رب رمضان هو رب كل العام"! كما تشهد صلاة القيام (التراويح) إقبالاً شديدًا، خاصة في الأيام العشر الأواخر، وليلة ختم القرآن.

ومن الظواهر الجديدة في هذا السياق: الإقبال على صلاة التهجد، التي تمتد من منتصف الليل حتى وقت السحور، كذلك يكثر الاعتكاف في المساجد الكبرى، وتصل ذروة الفعاليات الرمضانية في ليلة ختم القرآن؛ حيث يتوافد آلاف المصلين على المساجد الكبرى: كجامع "عمرو بن العاص" منذ صلاة الظهر، ويرتبط بالمظاهر السابقة رؤية الكثير من قراء القرآن في وسائل المواصلات العامة، وارتداء النساء الحجاب، أو على الأقل التوقف عن ارتداء الملابس الصارخة، خاصة في نهار رمضان، وكذلك التوقف عن تقديم الخمور، وغلق عدد كبير من البارات أبوابها طواعية.

ويلي مشهد الفعاليات السابقة مشاهد لأنشطة دينية رسمية من خلال وزارة الأوقاف والأزهر وغيرهما، مثل: قوافل الدعاة، وملتقى الفكر الإسلامي، وسفر الدعاة والمقرئين إلى مختلف أنحاء العالم لإحياء ليالى رمضان؛ وهو الأمر الذي سيتأثر إلى حد كبير بالأحداث العالمية الجارية.

جانا العيد



بعد انتهاء شهر الصيام يحتفل المسلمون في جميع أنحاء العالم بعيد الفطر؛ فيلبسون أزهى ملابسهم، ويبدءون يومهم بصلاة العيد، ويمارسون شعائرهم وعاداتهم الجميلة في العيد ..

ولكن كيف كان يحتفل المصريون بعيد الفطر قديمًا ؟

يحكي المؤرخ إبراهيم عناني عضو اتحاد المؤرخين العرب فيقول:
في عصر الإمبراطورية العثمانية كان الاحتفال الرسمي يبدأ عقب أداء صلاة فجر أول أيام العيد، حيث يصعد أمراء الدولة والقضاة في موكب إلى القلعة، ويتوجهون إلى جامع الناصر محمد بن قلاوون داخل القلعة لأداء صلاة العيد ثم يصطفون لتهنئة الباشا.
صلاة العيد

وفي اليوم التالي كان الباشا ينزل للاحتفال الرسمي بالعيد في (الجوسق) المعد له بميدان الرملية (القلعة) والذي فُرش بأفخر الوسائد والطفافس، ويتقدم للتهنئة الأمراء الصناجق (كبار البكوات المماليك) والاختيارية (كبار الضباط) وكتخدا اليكنجرية (الانكشارية) وتقدم القهوة والحلوى والشربات، وتفوح روائح المسك والبخور، ثم يخلع الباشا على أرباب المناصب والأمراء، كما يأمر بالإفراج عن بعض المساجين.

ويسهر الناس ليلة العيد في ابتهاج وسرور، وقد أعدوا الكعك والحلوى لتقديمها للأهل والزوار ويأخذ رب الأسرة زينته ويصطحب أولاده إلى المسجد لأداء صلاة العيد، كما اعتاد الناس زيارة المقابر للتصديق على أرواح موتاهم وإشعارهم بالأنس والمحبة، ويحرص الشباب على الخروج في جماعات للنزهة في النيل، كما يشهد خليج القاهرة وبِرْكة الأزبكية وبركة الفيل وجزيرة الروضة ازدحامًا هائلاً.. وكانت مدافع القلعة تُطلق أيام العيد الثلاثة في أوقات الصلاة الخمسة.

كعك العيد

في الثلث الأخير من شهر رمضان يبدأ الناس في الإعداد لعيد الفطر وأبرز مظاهر هذه الاستعدادات (كعك العيد) ويرجع صنع الكعك إلى العصر الفرعوني؛ حيث كانوا يضعونه مع الموتى داخل المقابر.. وكانوا ينقشون على الكعك رسم الشمس (آتون) التي عبدوها لزمن طويل، ومن المدهش أن القاهرة الإسلامية قد عرفت فكرة القوالب، فمتحف الفن الإسلامي يحتفظ ببعض منها مكتوب عليه: (بالشكر قدوم النعم)… (كل هنيئا) (كل واشكر) أما في الأعياد؛ فكانوا يشكلونه على هيئة عرائس.

وفي طلعة العيد كانت تحرص المصريات خاصة في الريف وصعيد مصر على تقديم كعك على هيئة (حلقات) محلاة بالسكر؛ ليوزع على الفقراء بالمقابر؛ ففي معتقداتهم أن (ملاك الرحمة) يقوم بتعليقها من منتصفها في أحد فروع شجرة الحسنات.

العصر الحديث

أما في العصر الحديث فيقول إبراهيم عناني: كان المصلون يحتشدون بعد طلوع الشمس مباشرة في أبهى حلة في الجوامع، ويؤدون صلاة العيد، ويحرص الجميع على ارتداء ملابس جديدة، كذلك يقدم أرباب البيوت ثياباً جديدة لخدمهم الذين يحصلون أيضًا على العيدية من الزوار الذين أتوا للتهنئة بالعيد، ويُؤكل أيام العيد: الكعك – الفطير – الشريك – السمك المملح، وكميات هائلة من المكسرات، والبعض يفضل أطباقًا من اللحم والبصل والطحينة… ومعظم المحلات تغلق أبوابها خلال أيام العيد.

ويحرص أبناء مصر الآن ، من الدلتا إلي الصعيد وحتى أهالي الحدود ، علي الخروج في نزهات نيلية علي ضفاف النيل العظيم ، بصحبة الأسرة بأكملها ، وبعض الشباب يفضلون الخروج بمفردهم مع ذويهم ، والذهاب لصالات البلياردو والبولينج ، كل علي حسب مستواه الاقتصادي ، بالإضافة إلي حرص الكثيرين علي ارتياد دور السينما ، حيث يحرص معظم الفنانين علي عرض أفلامهم الجديدة في هذا الموسم بالذات .


موسم الحج .. عيد الأضحى .. وتنفيذ أوامر المولي سبحانه



لعل موسم الحج عندما تحل أيامه علي المصريين من كل عام ، يتبدل حال الكثيرين خاصة من كتب لهم زيارة مكة المكرمة ، ونبينا محمد صلي الله عليه وسلم ، وتبدأ الأسرة المصرية التي يوجد لديها فرد ذاهب " للحجاز " علي حد قول الكثيرين ، في تحضير ترتيبات السفر ، وتصر ربة المنزل علي شراء كل مستلزمات الحاج من أسواق الجملة " من الإبرة للصاروخ " كما يقول معظم المصريين .

وللمصريين عادات وتقاليد لا تتغير في هذا الموسم ، حيث نجد معظم الأحياء الشعبية التي يوجد بها حاج ، قد تزين جدرانها برسومات الجمل والكعبة وغيرها من الرسومات المعبرة عن هذا الحدث الجليل ، كما يحرص الكثير من المصريين علي مجاملة جيرانهم عند عودتهم من الحج ، وزيارتهم وتقديم الحلوى والشربات تعبيرا عن فرحتهم بعودتهم سالمين ..

واللافت للنظر أن هذه التقاليد لا تختلف من محافظة لأخرى داخل أرض مصر ، فما يحدث في القاهرة نجد مثله تماما في الإسكندرية مرورا بصعيد مصر وحتى أهل النوبة والبدو .. !!!

وفي أثناء موسم الحج يحتفل المسلمون بعيد الأضحى المبارك ، منفذين لوصية أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، عندما قرر التضحية بابنه إسماعيل ، وأنزل الله عليه كبشا من السماء فداء لولده ..

نجد معظم البيوت المصرية القادرة علي شراء خروف العيد ، تقوم بذبحه عقب صلاة العيد ، وتقوم بتوزيعه علي الفقراء وغير القادرين ، كما نلاحظ أن البيوت التي تقوم بذبح الخروف ، نجد علي جدرانها علامة الأصابع الخمسة بدماء الخروف ، اعتقادا منهم ببركة هذه العلامة ضد الحسد !!!

ويحرص معظم المصريين علي تناول كبد الخروف وحواشيه في الإفطار ، تمهيدا لتناول " الفتة بالثوم " في الغداء ، وهي أكثر أكلة مشهورة في مصر أثناء الاحتفال بعيد الأضحى .

ونلاحظ أن هذه الأمور قد اعتاد عليها المصريون لأنها ورثت عن سالف الأجداد ، رغم أننا لم نجد في التراث ما يؤكد وجود مثل هذه العادات ، بعمس المناسبات الدينية سالفة الذكر .

 

 

المصدر: www.alltalaba.com
mkhaled2

http://kenanaonline.com/mkhaled2

  • Currently 49/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
16 تصويتات / 512 مشاهدة
نشرت فى 5 أكتوبر 2010 بواسطة mkhaled2

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

68,050