رحل بعد أن دمر تركيا ودمر الإسلام ومزق الأسرة وحطم الأخلاق وداس القيم وانتهك الشعائر ( 1-3 )

في وقت الأزمات يكثر التفكير بما نمر به ونتقصى الحقائق قديما وحديثا لعلنا نفهم ما يدور حولنا ولماذا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن..تصدمنا القراءات ونتمنى لو بقينا على جهلنا خانعين مختبئين في دهاليز النسيان، سأتابع إن شاء الله سلسلة كبيرة مما قرأته أضعها أمامكم نتشارك الهم لعلنا نصل للصحوة مصطفى كمال أتاتورك مولده :

ولد سنة 1880 في مدينة سلانيك مدينة يهودية حيث يقطنها 140 ألف منهم 80 ألفاً من اليهود الأسبان و 20 ألفا من يهود الدونمة أي المتظاهرين بالإسلام .
نسبه :
ينسب مصطفى كمال رسمياً إلى علي رضا وأمه زبيده وتحيط شكوك كثيفة حول نسبه فمصطفى لا يعترف بأبيه علي رضا ويقال: إن أصل أبويه من ألبانيا..ويقال أن زبيدة حملت به سفاحاً من شخص اسمه أبدو مسن آغا لأنها كانت تعمل في أحد مواخير سلانيك، فولد مصطفى كمال حراماً لا يعلم اسم جده لأمه ولا لأبيه..ويقال أن زبيدة كانت آنذاك امرأة جميلة في العشرين من عمرها والمتفحص لصور شيخوختها فحصا علميا بأنها بالرغم من كونها تحمل خطوطا وسمات مشتركة بينها وبين ابنها إلا أنها لم تكن على الإطلاق شقراء..بل كانت زبيدة هانم حسب روايات لم تؤيد ولم تبرهن عليها من التركمان الذين يدعون باليوروك والذين هاجروا من قونية أو آيدن إلى روملي ..أما زوجها علي رضا أفندي الذي يقدموه ويعرضوه كأب لمصطفى كمال فقد كان متطوعا في صفوف العساكر الملكية التي أنشأت سنة 1876م في سلانيك عند إعلان القانون الأساسي الأول برتبة ملازم أول ، والذي يتفحص الصورة الوحيدة الموجودة والتي أخذت له بين منتسبي طابوره العسكري يرى بان هذا الشخص أيضا ليس أشقرا .
والاهم من هذا أن هذه الصورة عندما عرضت على مصطفى كمال فيما بعد أنكر أن يكون أباه ..ويقول (فالح رفقي)، وهو الشخص الذي لازم مصطفى كمال ولم يفارقه والذي دون ذكريات مصطفى كمال في فمه ، ما يلي : " في اغلب الأحيان يظهر هناك من يحاول أن يصطنع ويختلق شجرة نسب أصيلة للزعماء الذين يظهرون في الشرق ، على أن مصطفى كمال لم يكن مرتبطا أو مهتما بسلفه ، ومع أن احد الضباط الذين تطوعوا ضمن طوابير العساكر الملكية التي تشكلت في سلانيك عام 1876م في ذكرى إعلان القانون الأساسي في 23 كانون الأول قدم على انه والد لمصطفى كمال ، غير انه عندما عزلت صورته عن الآخرين ، وكبرت وقدمت إلى مصطفى كمال على أمل انه سيسر من كون والده مشتركا في جماعة وطنية كانت غايتها مساعدة أنصار الحرب في استانبول ، غير انه ظهر بأنه لم يكن يعتقد بهذا ، بل إنني سمعته بأذني يوما وهو يقول باستهزاء : إن هذا ليس بوالدي ؟؟!. " ومن خلال ما سبق يتضح أن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن يعرف من أبيه بالأصل ؟؟! ، ولكن صاحب كتاب الرجل الأوحد ، شوكت ثريا ، يروي رواية مختلفة عن السابقة فيقول : " هناك حادثة غير اعتيادية حدثت لعلي رضا أفندي بعد زواجه من زبيدة بمدة قصيرة وهو اشتراكه كمتطوع في صفوف وحدة عسكرية مساعدة كانت قد تشكلت في سلانيك أثناء الحروب الروسية التركية سنة 1876م، وكانت تطلق على هذه الوحدات اسم العساكر المعاونة أو اسم العساكر الملكية .
ففي بداية القرن التاسع عشر 1829م بدأت الاستعانة من حين لآخر بهذه الوحدات العسكرية المساعدة في الحروب بعد القضاء على الانكشارية ..والظاهر أن الطابور الذي التحق به علي رضا أفندي آنذاك يعمل كاتبا في دائرة الأوقاف في سلانيك ، وقد توفرت هذه المعلومات عنه عند التدقيق في قضية التطوع هذه ..وعندما التحق بإحدى الوحدات العسكرية المساعدة المشكلة بسبب الحرب فقد عين برتبة ملازم أول بصورة مؤقتة لكونه بعرف القراءة والكتابة ، وان الصورة الوحيدة الباقية لزوج زبيدة ووالد مصطفى كمال علي رضا أفندي هي صورته المأخوذة له وهو في البزة العسكرية برتبة ملازم أول في الطابور العسكري المساعد ".
ويظهر أن شوكت ثريا مقتنع تمام الاقتناع بان صاحب هذه الصورة هو والد مصطفى كمال ، لذلك نراه يحاول التفتيش عن الملامح المشتركة بينهما ، فيقول : " في هذه الصورة يظهر علي رضا أفندي وعلى رأسه الطربوش الواسع والواطئ المسمى بالعزيزية وبسترته الطويلة ذات الصف الواحد من الأزرار والياقة والكتافية المذهبتان وبحزامه العسكري وهو في وضع الاستعداد العسكري أما بنطلونه فهو بحسب البزة السائدة آنذاك بشكل سروال يمسك بيده اليسرى غمد سيفه ، أما يده اليمنى فهي شاهرة بالسيف في وضع التحية ، وهو في وقفته وحاله يظهر كموظف طيب ومؤدب وليس كمحارب أما خطوط وجهه ، وخاصة عينيه ،فقد نقلها إلى ابنه مصطفى بشبه تدعو إلى الدهشة ".
ولقد أدرج شوكت ثريا شجرة النسب لكمال أتاتورك ، وفي هذه الشجرة يتسلسل جميع من أتوا من نسل زبيدة هانم وعلي رضا أفندي إلى أسفل مكونا جمعا ضخما ، أما إلى فوق أي ممن جاءا فلم يستطع أن يظهر إلا بطنا واحدا فقط ثم تنقطع السلسلة .
وفاة علي رضا أفندي :
تزوج علي أفندي من زبيدة عندما كان يعمل حارسا في الجمرك ، ثم تقلب في عدة وظائف حتى انه عمل لفترة في تجارة الأخشاب وبني في هذه الفترة البيت الوردي المشهور في محلة ( حارة ) "احمد سوباشي " في سلانيك ( وهو البيت الذي يقال أن مصطفى كمال ولد فيه ) ، وبعد مدة نراه يدمن على الخمر بسبب كساد تجارته وإفلاسه كما يقال ، ويموت من حزنه وكدره .
ويصف شوكت ثريا الانهيار النفسي والمعنوي والمادي عنه قائلا : " بعد فترة من الأزمة مر بها علي رضا أفندي نراه هذه المرة ضمن إطار عمل أكثر تواضعا إذ انه قرر القيام بتجارة الملح ، ولكن الظاهر أن الملح بقي متراكما دون تصريف من متجره أو في مخزنه ، بل إن ابنته مقبولة ، تقول بان الملح ذاب جميعه في المخزن ، عند ذلك فقد الثقة بنفسه وفقد الأمل في التجارة ، وبدأ من جديد بالبحث عن وظيفة رسمية صغيرة ، ولكنه لم يجدها وكان من الطبيعي أن يبدأ بالانهيار ، وهكذا ترك علي رضا نفسه للخمر بعد أن فقد كل دعائمه ، وتبع ذلك المرض إذ أصيب بسل الأمعاء ، وبعد ثلاث سنوات قاسى فيها آلام المرض توفي وعمره 47سنة على الأغلب ".
ويضيف شوكت ثريا قائلا " إن من الأصوب أن علي رضا أفندي ارتحل وهو منهار انهيارا من الناحية المادية ومن الناحية النفسية والمعنوية كذلك ، إذ ليس من الممكن تجاهل العوامل النفسية لان تأثيرها لم يكن يقل عن تأثير العوامل المادية بحال من الأحوال ، ذلك لان علي رضا أفندي كان شخصا بسيطا على قدر حاله ، بينما كانت زبيدة اصغر منه سنا بكثير وكانت جميلة جدا ، ولكنه لم يستطع أن يسعدها " ..ولكن المسألة لم تكن في انه لم يستطع إسعادها بل كون زبيدة لعوبة وكونه لم يستطع تحمل لعوبتها أو قبول الطفل الذي أريد إلصاقه به ، وكونه قد غلبه آخر الأمر هذا الشعور من الحزن .
إن عدم حشمة زبيدة وخفتها ثابتة بشكل متواتر من الجيل الماضي الذي شهد تلك الفترة وتلك البيئة ، بل إننا نستطيع أن نستشف هذا من بعض كلمات شوكت ثريا في قوله : " كانت زبيدة شانها شان النساء الأكثر سنا منها تستخدم أدوات الزينة ، ومع أنها لم تكن بحاجة إليها ، إلا أن استعمال وسائل الزينة هذه كانت من العادات التي لا يمكن التخلي عنها في ذلك الجو المغلق الذي كانت تعيشه نساء سلانيك ، مثلها مثل غيرها من المدن الإسلامية ، والذي كانت تتزين فقط لأزواجهن ".
وتقول الروايات بان زبيدة في لانكايا ـ في أطراف سلانيك ـ حملت من احد العاملين في مزرعة قريبها حسين آغا ـ كما اشرنا من قبل ـ وتختلف الروايات حول هذا الشخص الأشقر الشديد الشقرة ذو العينيين الزرقاوتين الذي حملت منه فهو إما بلغاري أو صربي أو روماني ثم الصق هذا الطفل بعلي رضا أفندي ومن البداية لا يأنس علي رضا أفندي لهذا الطفل ، أما في أواخر حياته فانه يصبح لا يطيقه على الإطلاق ،حتى انه يراجع دائرة النفوس في سلانيك ومعه الإعلام من المحكمة الشرعية على الأرجح ، لإسقاط قيد الأبوة عنه ، وتقول بعض الروايات بأنه سجل هذا فعلا في القيود الرسمية ، إلا أن بعض هذه القيود أزيلت فيما بعد ..ولكون علي رضا أفندي لم يطق طوال حياته الزوجية الخلق العابث لزبيدة فقد ساقه هذا إلى الانكباب على الخمر والسكر ليل نهار ، ولم يكن طبعه الهادئ يسمح له بتطليق هذه المرأة التي لم تترك له دورا سوى كونه ستارا لفحشها ورذائلها ، وان كانت هناك رواية تقول بأنه طلقها في الأخير فعلا ، لذلك فقد انتهى به الأمر إلى الموت كمدا .
ومن الملاحظ أن الصيغة التي تذكر أو تنفي نسب كمال أتاتورك هي على قول ( روايات ) ، مما يعني أن تلك الروايات لا نستطيع أن ننفيها أو نعتمدها ، ولكنها بالطبع تقدح في صحتها..والعجب من ذلك كله أنها تختص في نسب كمال أتاتورك ، مما يعني أن نسبه غير معروف ومجهول ، لأنه من المعروف أن أي شخص جاء بطريقة شرعية يعرف نسبه من أبيه وأمه ، أما هذا فينطبق انه جاء بطريقة غير شرعية أي ( ابن زنا ) .
ونستطيع في النهاية أن نستخلص عدة استدلالات منها :
من الناحية الانتروبولوجية فان مصطفى كمال بشقرته الشديدة ، وبعينيه الزرقاوتين وخاصة بجمجمته التي هي من نوع ( دوليكوسفال ) وهو نمط سلافي وبعيد أكثر ما يكون البعد من العنصر التركي ..لما كان من المستحيل أن ينتج نمط ( دوليكوسفال ) من أبوين كلاهما من نمط ( براكيتفال ) ،فالصور كافية لمعرفة نمط الرأس أو الجمجمة ،ولما كانت الأم معلومة لأنها والدته ،فان انتسابه إلى والده يكون مشكوكا فيه إلى درجة الاستحالة..إن حياة والده تظهر حرمانه المادي والمعنوي من الهدوء والألفة العائلية ، وهي تعلن بان عدم الاستقرار هذا يعود إلى اضطراره للظهور بمظهر لطفل ليس بابنه ..إن حياة والدته وشهرتها تؤيد كل الشكوك ..وأخيرا فان السكوت المشبوه الذي ألزمه مصطفى كمال حول والده ـ لكونه على التأكيد يعلم أمورا ما ـ يجمع كل الشكوك والشبهات ويؤيدها ..وفي النهاية فان الاستنتاجات الخمس مجتمعة تشكك على الأقل في نسب كمال أتاتورك ، وتثبت على الأقل انه ابن حرام وناتج عن ثمرة حرام .
طفولته :
بعد أن أصبح مصدرا لسعادة وفرح لوالديه ، ما لبث أن تحول إلى مصدر إزعاج وقلق دائم لهما ، فقد كان صراخه يملأ باستمرار أرجاء البيت ، حتى انه لم يترك لهما فرصة للنوم والراحة لا في الليل ولا في النهار ، وكثيرا ما كانت تصحبه صراخه حركات تشنجية عصبية شديدة تجعل قلبيهما يخفقان هلعا على حياته ، مما دفعهما في النهاية إلى وضعه في غرفة صغيرة مستقلة ، وكم كانت دهشتهما كبيرة عندما كف الطفل بعد هذا الانفراد عن الصراخ والبكاء ، فكأنما قد ولد وهو يحمل في دمه تلك النزعة ، التي عرفت عنه فيما بعد ، نحو الاستقلال والتفرد في الرأي والاستمتاع بالحياة على طريقته الخاصة .
وكبر الطفل وكبرت معه متاعب والديه ، فقد كان عنيدا ومشاكسا في جميع تصرفاته ، حتى انه كان يرفض كلمات التدليل والغنج التي تحيطه بها والدته !، كما كان شرس الطبع في مخالطته لأبناء حيه الذين هم في سنه فلا يكاد يمضي يوم دون أن يتعارك معهم ، وكان الضرب والرفس اقل ما يرد به على كل من يتحداه أو يوجه إليه كلمة نابية ، وكان الوالد في هذه الأثناء قد استقال من وظيفته ليتعاطى تجارة الخشب ، إذ أن راتبه المتواضع لم يعد يسمح له بمجابهة نفقات الأسرة المتزايدة ، إلا انه لم يوفق كثيرا في تجارته وسرعان ما اضطر إلى إغلاق حانوته الصغير وأصبح طريدا للدائنين والمرابين .
ونشب الخلاف بينه وبين زوجته حول إعداد مستقبل الطفل ، فبينما كان هو يطمح إلى أن يرى ابنه ذات يوم موظفا في احد دواوين الدولة ليحمل لقب "أفندي " ، كانت هي تحلم بان تجعل منه إماما دينيا ؟؟! أو " خوجة " ـ بالتعبير التركي ـ يخطب فوق منابر المساجد ويؤم المصلين في صلاة الجمعة ؟؟!!، ـ وهل المتاجرة بعرضها وشرفها وبيع جسدها بثمن بخس دراهم معدودة يمكن أن يجعلها تحلم أن ابنها سيذهب ويكون إماما وخطيبا ؟؟!، إنها باختصار "بائعة هوى " ـ فتغلبت زبيدة على زوجها بفعل شخصيتها القوية ، فألحق مصطفى بمدرسة دينية تابعة لأحد الجوامع القريبة ، حيث بدأ يتلقى أول مفاهيم الدين الإسلامي ، إلا انه لم يبد أي اهتمام لما يسمع أو يقرا أو يحفظ من أمور الدين ، فقد كان شديد المقت لهذا النوع من العلم وللذين كانوا يقومون بتدريسه بطريقتهم التردادية (المملة ) ، فيستحفظون طلابهم بعض الآيات والسور القرآنية العربية دون أن يفقهوا شيئا من معانيها ، ولم يكد ينهي عامه الدراسي الأول في هذه المدرسة حتى يرفض العودة إليها رغم جميع توسلات والدته ودموعها في أكثر الأحيان .
وأخيرا رضخت زبيدة لمشيئة ابنها ، فقد كانت تعرف مدى تصلبه وعناده ، ونقلته إلى مدرسة أخرى كانت تقوم بتدريس العلوم الزمنية تدعى مدرسة (شمسي أفندي ) ..واظهر مصطفى رغبة واهتماما كبيرين بهذا النوع الجديد من العلم ، فاقبل على متابعته والاجتهاد فيه بنهم شديد أثار إعجاب بمقدار ما أثار حسد زملائه ، إلا أن والده توفي فجأة وهو مثقل بالهموم والديون ، فاضطرت والدته إلى هجر منزلها الزوجي في سالونيك والانتقال به وبأخته مقبولة إلى بيت شقيقها الفلاح في قرية قريبة تدعى ( لازاسان ) .
وفي لازاسان اضطر مصطفى إلى أن يحيا حياة الفلاحين وهي حياة لم تكن في أي حال أفضل من مستوى حياة الفقر التي كان يعيشها من مرتب والده الصغير في سالونيك ، فكان يقود مع كل صباح مواشي خاله إلى المراعي في البرية ليعود بها إلى المنزل في المساء ، حيث يشغل نفسه هناك أيضا بتنظيف مراقدها وتدبير علفها قبل أن يأوي إلى فراشه إلا أن هذا النمط من الحياة لم يعجبه أيضا ، رغم أن هواء الريف النقي والتنقل في المراعي قد اكسبا جسمه قوة ومنعة ، فبات موفور الصحة والعافية بعد أن كان شاحب الوجه نحيل الجسم ، وكثرت مشاكساته مع والدته وشقيقها فكان يثور بوجهيهما لأتفه الأسباب ، ويهدد بمغادرة المنزل إلى غير رجعة إذا لم يعيداه إلى مدرسة محترمة في سالونيك يستطيع مواصلة دراسته فيها ، ولما كان خاله غير قادر على تحمل نفقات دراسته ، فقد التجأت والدته إلى شقيقة لها ميسورة الحال ، وأقنعتها بان تقرضها مبلغا من المال لتنفقه على تعليم ابنها ريثما ينال شهادته ويصبح قادرا على كسب معيشته فترده إليها ، وهكذا عاد مصطفى إلى سالونيك ، والتحق بإحدى مدارسها التي كانت ارفع مستوى من مدرسة ( شمسي أفندي ) .
وظنت زبيدة أنها قد ارتاحت أخيرا من شراسة ابنها ومشاكله ، إلا أنها فوجئت ذات يوم بعودته إلى منزل شقيقها حاملا كتبه ودفاتره وأقلامه في حقيبة من القماش ، مدلاة من فوق عنقه إلى ما تحت إبطه وهو مدمي الوجه مشعث الشعر ممزق الثياب !ولم تكن زبيدة بحاجة إلى كثير من الذكاء أو الحدس لتدرك السبب ، فطالما الفت هذا المنظر عندما كانت لا تزال في منزلها الزوجي في سالونيك ، حيث كان مصطفى يطل عليها في كل مساء تقريبا وهو على مثل هذه الحال ، بعد أن يكون قد تشاجر مع فتيان الحي من أقرانه ، إلا أن شجاره هذه المرة كان أكثر عنفا وابعد خطرا على مستقبله ، فقد تعارك في المدرسة مع بعض الصبية ونالهم منه من الأذى مما ناله منهم ، عندها تدخل ( الناظر ) وانتزعه من وسطهم بعد أن صفعه لرفضه ترك شعر احدهم وكان قد تشبث به محاولا طرحه أرضا ، فما كان من مصطفى إلا أن رفس ( الناظر ) أيضا وشتمه ، فانهال هذا عليه ضربا ولكما وطرده من المدرسة !.
نفسيته :
كان منعزلاً مكروهاً من زملائه كثير الشغب والمشاكل مع أساتذته ، وكان يشعر بالفرح حين يعتدي على الآخرين، وكان يحب التعدي على الآخرين كما قال عنه (عرفان أوركا) .
حياته العسكرية:
وأمام هذا الوضع المتمثل بالرفض لكل شيء : البيت وللمدرسة وللدين وللوظيفة وللحياة القروية ، أصبح مصطفى مجرد عنصر إزعاج دائم ومتاعب لا تنتهي لوالدته ولشقيقها ، فاحتاروا في أمره وفي أمر المستقبل الذي عليهما أن يعدانه له ، وأخيرا خطر لشقيق زبيدة خاطر جديد ما لبث أن صارحهما به ، لماذا لا يدخل مصطفى المدرسة العسكرية المجانية في سالونيك؟، فالجندية بما فيها من انضباط ونظام صارم هي السبيل الوحيد لترويض نفسيته المتمردة وطباعه الشرسة ، فإذا ما قدر له أن ينجح فيها فقد ضمن حياته وأمن مستقبله ، وإذا فشل فليذهب إلى الشيطان ؟! انه الآن في الخامسة عشرة من عمره ، وقد آن له أن يواجه الحياة ويتحمل مسؤوليته بنفسه ؟!.
واستسلمت زبيدة لمشورة أخيها دون أن تستطيع إخفاء الدموع المنهمرة من عينيها خوفا وجزعا من هذا المصير المحفوف بالمخاطر الذي سيساق ابنها إليه ، فقد كانت الجندية في نظرها مهنة العذاب والشقاء والموت ، ومن يدري ما إذا كان مصطفى سيرغم في يوم من الأيام على ملاقاة حتفه في أحد أطراف السلطنة العثمانية الشاسعة كاليمن أو القفقاس !، وما إن فاتحت ابنها في المساء ، وقبل أن يأوي إلى فراشه ، بما يعتزم خاله بشأنه ، حتى سرت في عروقه نشوة لم يشعر بمثلها من قبل ، وومضت عيناه ببريق غريب كمن كان أعمى وأبصر فجأة إشراقة الشمس
لقد وجد أخيرا الطريق الذي أعده له القدر : الجندية ، ولا شيء سوى الجندية ! فالإرشاد والوعظ من على المساجد ووضع عمة (الخوجة )فوق رأسه ، كما تريد له أمه ؟!!ـ وهل العاهرة وبائعة الهوى تريد وتتمنى أن يصبح ولدها أمام مسجد أو خطيبا ؟؟!! ، ثم بأي عين يصعد مصطفى على منابر المساجد ويخطب في الناس ويكون لهم إماما وناصحا وأمينا ؟؟!! ـ أشياء لم تكن تثير في نفسه أي رغبة أو ميل ، وحياة الوظيفة ، التي كان والده يتمناها له ؟!! .
وفي الصباح الباكر انسل من غرفة نومه وخرج من البيت قاصدا سالونيك ، فتذكر ضابطا مسننا محالا على التقاعد كان فيما مضى صديقا لوالده ، فذهب إليه في منزله وطلب منه مساعدته على دخول المدرسة العسكرية الإعدادية ، فتدخل وأوصى أصدقائه الضباط في المدرسة عليه ،وتقدم مصطفى لامتحان الدخول فاجتازه بنجاح باهر ..دخل المدرسة الحربية في سلانيك سنة1893م ، وكان اسمها مدرسة الرشدية العسكرية ، وكان يطلق عليه اسم مصطفى كمال ، فقد كان يحمل اسم مصطفى فقط ، ولكنه في احد الأيام يخاطبه أستاذ الرياضيات كمال أفندي بقوله :" إن تسمينا كلانا هو مصطفى ، يجب أن يكون هناك تمييز ، فلتضف إلى آخر اسمك كمال ، كن أنت مصطفى كمال "..وهكذا أصبح من ذلك اليوم : مصطفى كمال .
واقبل بكليته وبحماس بالغ على دراسته العسكرية حتى أحرز فيها تفوقا باهرا ،وظهرت مواهبه أكثر ما ظهرت في الرياضيات واللغات الأجنبية ، لا سيما الفرنسية ، كما اظهر براعة فائقة في تنظيم الطوابير والاستعراضات العسكرية ، مما أثار إعجاب احد أساتذته المدعو مصطفى أيضا فرقاه إلى رتبة ( تلميذ مدرس ) وطلب منه الإشراف على بعض الدروس التي كانت تلقى على التلامذة الصغار المبتدئين ، وسر مصطفى أيما سرور بهذه الترقية السريعة التي أتاحت له لأول مرة فرصة السيطرة وإصدار الأوامر .
وقضى مصطفى كمال سنتين في مدرسة سالونيك الإعدادية برز خلالهما جميع رفاقه في جميع المجالات ، فقد كان مبدؤه في الحياة أن يكون الأول في كل شيء أو لا يكون شيئا على الانطلاق ! وفي نهاية العام الثاني تقدم إلى امتحان فكانت درجته الأول بين جميع المتخرجين وعلق اسمه على لائحة الشرف ، وأرسل إلى المدرسة العسكرية العليا في ( موناستير ) في مقدونيا ..وفي هذه الأثناء تتزوج أمه التي كانت أرملة ناضجة في الخامسة والثلاثين من عمرها ، دون أن تخبر أحدا من أبنائها من احد الموظفين ..فقد غضب مصطفى كمال من أمه لزواجها هذا وترك البيت ، وذهب إلى أخت زوج أمه ، أي عند أخت علي رضا أفندي ، وأصبحت علاقته بوالدته علاقة ضعيفة وزياراته لها قليلة وعلى فترات متباعدة ، وتخرج من موناستير سنة 1899م .
وفي سن 18 – 19 يأتي إلى اسطنبول للالتحاق بالمدرسة الحربية ( الكلية الحربية ) وكان قد ترك الأدب ، ولكنه استمر في هوايته للخطب ..وفي مدرسة الحربية يشترك في مسابقات الخطب التي كانت تقام بين الطلاب ، ثم تسري إليه عدوى السياسة التي كانت موضة تلك الأيام بين طلاب الحربية والطبية ، ففي تلك الفترة كان المثقفون السطحيون يرددون نفس النغمة أثناء تنافسهم على البروز في التكتلات والأحزاب :"البلد يسير في طريق الخراب،والديكتاتورية تكتم الأنفاس،الحرية !الثورة !" ..ولقد رسخ في العقول الثورية ـ أي هؤلاء المثقفون السطحيون ـ أن إسقاط النظام ـ أي الخلافة الإسلامية ـ يجب أن يتم على أيدي هؤلاء الضباط بواسطة انقلاب عسكري؟؟!! ، لان الثورة الشعبية أمر شبه مستحيل نظرا للمكانة الدينية الرفيعة التي يتمتع بها السلطان في نفوس السواد الأكبر من الشعب بوصفه خليفة على المسلمين !.
وانخرط مصطفى كمال في هذا التيار الثوري بحماس بالغ ، فبدا يحضر الاجتماعات السرية التي كان رفاقه يعقدونها لمناقشة أوضاع البلاد ، ويساهم في صياغة المنشورات الثورية ! التي تدعو لقلب نظام الحكم ..وفي الكلية الحربية وكذلك في كلية الأركان يقال بأنه اصدر مجلة مكتوبة بخط اليد وانه جعلها تتداول بين أصدقائه ، ولعدم وجود أية نسخة من هذه المجلات بين أيدينا اليوم لا نعلم بالضبط محتوياتها ، ولكنننا لا نعتقد بأنها كانت على اتجاه سياسي معين أو تحمل قيمة فكرية .
ويذكر صديقه ( عاصم كوندوز ) بان مصطفى كمال عندما كان طالبا في الكلية الحربية بدأ يأخذ دروس خصوصية في اللغة الفرنسية عند امرأة أجنبية ، وانه كان يجلب معه سرا بعض مقالات أنصار الحرية ـ وهم من الأتراك الموجودين في باريس ـ وكذلك بعض المطبوعات الفرنسية حيث يقرأها لأصدقائه وكان مفتونا بإنشاد قصيدة الحرية وقصيدة (يا ويلاه !) للشاعر (نامق كمال) بصوت عال،إلى جانب ما تصل أياديه من كتب مثل ( فولتير ) و ( روسو ) و( مونتيسيكو ) ، وسواهم من رواد الثورة الفرنسية ، وكانت كلها من الكتب الممنوعة والمحرمة ، وتعرض كل من وجدت في حوزته التنكيل والسجن أحيانا للنفي ..وتخرج من الكلية الحربية سنة 1902م ، ثم التحق بكلية أركان الحرب أو كلية الأركان وتخرج منها سنة1904 أو1905م ، وكان عمره 24 سنة والتحق بالجيش الخامس في دمشق، ضابطاً برتبة رائد وهو لا زال في الخامسة والعشرين من عمره، وفي الشام عين في لواء الفرسان الثلاثين..وبقي في الشام سنتين فأتم تدريبه في لواء الفرسان وأصبح برتبة (آغاس) وهي بين الرائد والمقدم..وبمعونة أصحابه نقل إلى سلانيك في صيف سنة 1907م وعين في دائرة أركان الجيش الثالث ..أما عداوته للإسلام فتظهر بشكل قطعي لا يقبل النقاش عند تخرجه من كلية الأركان برتبة رائد عام 1904م ، عندما خاطب أصدقائه من الضباط قائلا لهم : " أيها الأصدقاء ! سيذهب كل منا الآن إلى رفقة احد الباشاوات العثمانيين وكلهم في غفلة وانخداع لفكرة العالم الإسلامي ، علينا أن نجمع كل منابع قوتنا في الأناضول التركي " ..والذي يجب الانتباه إليه هو قوله " الباشاوات العثمانيين " بلهجة من يعتبر نفسه خارجا عن محيط الجيش العثماني ، وهذا لا يقوله سوى أجنبي أو مرتد ..وكان ضابطا أنيقا ،وقد صحبه هذا الاهتمام بالأناقة من صباه حتى آخر الملابس التي لبسها ، وان كانت قضية انه كفن أم لا شيئا مجهولا .
وفي احد الأيام تمر به حادثة مهمة ، شكلت انعطافا في حياته السياسية ، ففي احد الأيام كان يتجول في السوق مع احد أصدقائه الضباط لكي يشتري لصديقه هذا ما يصلح لهندامه ، ويقوده طريقه إلى دكان صغير لبيع الملابس القديمة ، وأمام الدكان يرى رجلا غير مهندم ، ينتعل قبقابا ويتكلم اللغة التركية ويعزم على هذا وذلك الجلوس على كراس يضعها أمام دكانه ، وعندما يقوده الفضول من أسلوب هذا الرجل إلى الدخول إلى الدكان ، الذي كان عبارة عن غرفة واحدة ذات سقف واطئ ، يرى على المنضدة هناك كتبا فرنسية حول الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والتوراة ، يا للحيرة : كان الرجل من اسطنبول ، إذ كان طالبا في السنة الأخيرة للطب ولكنه فصل لأفكاره المؤيدة للحرية ونفي إلى الشام ، واسمه د.مصطفى جانتثكين ، ويتم التفاهم بينهما بسرعة ، وتبدأ الاجتماعات بالانعقاد في غرفة د. مصطفى الذي كان يعيد ويكرر : " لا بد من الثورة ، ولا بد من الانقلاب ، لا علاج آخر هناك ".
وفي هذا الأثناء يؤلفون جمعية ( الوطن والحرية ) التي تبقى في مستوى النظرية ، إذ لا تستطيع إثبات وجودها بل تبتلع ـ فيما بعد ـ من قبل جمعية الاتحاد والترقي ..وكان هدف مصطفى كمال هو في سلانيك ، لأنه يرى أن انسب جو وانسب تربة لجمعية ( الوطن والحرية ) هو في سلانيك ..ويبقى مصطفى في يافا ثم يهرب لمصر ويبقى مدة فيها ، ثم إلى سلانيك ..وفي سلانيك يجمع بعض الضباط ويدعوهم للالتفاف حول جمعية ( الوطن والحرية ) ويقول لهم حرفيا : " عندما لا توجد الحرية في مكان ما فان النتيجة هي الموت والانحطاط ، إن التاريخ ينتظر منا ، من أبنائها أداء وظيفة معينة ، لذلك فإننا سنكافح الديكتاتورية ، ولهذا جئت أنا إلى هنا ، وأنا انتظر التضحية منكم كذلك " .
وقد بدأت الجمعية بالعمل ضد الدولة العثمانية ،وأصبحت تهاجم السلطان عبد الحميد ونظامه لخنقه الحريات وقمعه للأفكار والآراء الحديثة !، كما كانت تهاجم الوعاظ ورجال الدين الذين يعوقون كل تقدم وإصلاح ، واقسم أعضاء الجمعية معاهدين أنفسهم على المضي في مكافحة استبداد السلطان وإنشاء حكومة دستورية يختارها برلمان شعبي ـ تكون مهمتها تحرير الشعب من رجال الدين وتحرير النساء من الحجاب ونظام الحريم! ..فلقد كانت تركيا مخنوقة بيد السلطان وجواسيسه ، وما لم يسمح لدم الأفكار الجديدة بالمرور في عروقها فمصيرها حتما الموت ..ولقد بدأ فعلا بالعمل ضد الدولة العثمانية ،من خلال توزيع النشرات التي تكتب بها المقالات النارية السرية ،ونشر القصائد التي تدعو فيها الجيش والشعب للثورة عليها ..وكانت أعداد هذه النشرة كثيرا ما تقع بين أيدي رجال البوليس السري ، إلا أنهم عجزوا عن اكتشاف مكان صدورها وأسماء الذين يساهمون في تحريرها ، فعلم السلطان عبد الحميد الثاني ، فاستدعى ( إسماعيل حقي باشا ) القائد العام للتدريب الحربي ،واسمعه كلاما قاسيا لعدم اكتشافه أمر هذه الجمعية من قبل وبالتالي القضاء عليها وخنقها في المهد .
مما أدى إلى منع الضباط بالاشتغال في السياسة ، ومعاقبة كل من يفعل ذلك بالطرد ، منع عقد أي اجتماع سياسي للضباط ، فما كان من هؤلاء الضباط إلا أن بدأوا يجتمعون خارج ثكناتهم ..وكان مصطفى كمال في هذه الأثناء قد أصبح رئيسا للجمعية بعد أن طغت شخصيته وأفكاره على الآخرين ، فاستأجر غرفة في احد الأحياء الشعبية الفقيرة لإبعاد الشبهة وتضليل رجال البوليس ،إلا أن البوليس السري استطاع اكتشاف مكان الاجتماعات عن طريق احد عملائه ، وأثناء الانعقاد دهم رجال البوليس المكان ، واعتقلوا جميع أعضاء الجمعية بمن فيهم مصطفى كمال ، وزجوهم في السجن الأحمر ،ولما تبين أن مصطفى كمال هو زعيم الجمعية ، فصل عن رفاقه الآخرين وزج به زنزانة منفردة تحت الأرض ..وبعد فترة من الوقت أرسل إلى بيروت .
لكن مع ظهور جمعية الاتحاد والترقي ، وانتشارها في أماكن مختلفة ، أدت إلى ابتلاع جمعية الوطن والحرية ، وضمت إليها أصدقاء مصطفى كمال ، أما الادعاء بان الجمعيتين اندمجتا معا اثر اتفاق عقد بينهما في 27 أيلول سنة 1907 م فهو ادعاء كاذب ، وقد لفق لصالح مصطفى كمال ، لأنه لو كان هناك مثل هذا الاتفاق لتبوأ مصطفى كمال مكانا مهما في جمعية الاتحاد والترقي ..فالاتحاديون لم يعيروا مصطفى كمال أية أهمية ولم تعجبهم تصرفاته ، لذلك فان مصطفى كمال حمل حتى النهاية في نفسه حقدا لا يهدأ نحو الاتحاديين الذين كانوا أكثر جرأة وتضحية منه بما لا يقاس ، وان كانت هذه الجرأة والتضحية في سبيل الباطل .
نشأةجمعية الاتحاد والترقي :
تذهب اغلب الآراء إلى أن تأسيس جمعية الاتحاد والترقي إنما كان على يد (إبراهيم تيمو) ، الذي انتقل إلى المدرسة الطبية العسكرية ، وهناك ابتدأ مشواره بقراءة المؤلفات السياسية ، حيث تعرف خلال هذه المدة وفي نفس المدرسة على ( اسحق سكوتي ديار بكري ) الذي بقي حتى وفاته اقرب الأصدقاء المخلصين لإبراهيم تيمو ، بالإضافة إلى آخرين ممن كان لهم بدأ تأسيس جمعية الاتحاد والترقي ، وقام تيمو بمساعدة زملائه هؤلاء بمطالعة المؤلفات السياسية التي كانت في اغلبها تعبر عن الأفكار الغربية ومنها كتب (شناسي ) و ( نامق جمال ) ، كما انه درس وتعمق في اللغة الفرنسية.
وفي عام 1888 – 1889 م تخرج إبراهيم تيمو من المدرسة الإعدادية الطبية ، فالتحق بالكلية الطبية العسكرية ، التي كانت نموذجا للكليات الأوروبية ، وهناك قضى إبراهيم سنوات في هذه الكلية مما مكنه من إيجاد الفرصة المناسبة للتعرف على أنصاره الجدد ، وفيما بعد بادر في أيار 1889م مع أربعة من طلاب هذه الكلية إلى تأسيس جمعية سرية ، وهؤلاء هم ( اسحق سكوتي ، عبد الله جودت ، محمد رشيد الجركسي ، وحسين زادة علي ) ولقد سميت جمعيتهم باسم ( اتحاد والترقي ) ( Ittihad ve Terkki Cemiyeti ) .
نبذة عنحياة مؤسس جمعية الاتحاد والترقي :
إبراهيم تيمو ، هو الباني الأصل ، ولد في مارس 1865م في بلدة ستروغا Struga التي تقع في أقصى جنوب يوغسلافيا سابقا ، وهناك من يقول انه ولد في بلدة اوهريد Ohrid ، وكان والده يدعى مراد بن مصطفى ، ويعود بأصله إلى منطقة مات Mat في ألبانيا ، ولقد انتقلت أسرته من بلدة مات إلى ستروغا المجاورة ، حيث أنهى إبراهيم تيمو دراسته في المدرسة الابتدائية بالإضافة إلى صفين من المدرسة الإعدادية (الرشدية ) في ستروغا ثم غادر إلى استانبول ، ولقد تمكن بمساعدة إسماعيل طوبطاني I.Tobtani ووحيد بلوشميا Bloshimia وهما من أصدقاء والده من الوصول إلى أستاذ الجيولوجيا إبراهيم باشا وهو أيضا الباني الأصل ، حيث قام الأخير بتسجيل إبراهيم تيمو في المدرسة الإعدادية الطبية .
ثانيا تطور جمعية الاتحاد والترقي :
و تشكلت النواة الأساسية من أعضائها الأربعة في هذه الجمعية السرية ، ويرجع السبب في خروج هذه الجمعية من المدارس والكليات الحربية ، إلى القطار الذي يأتي من باريس إلى محطة ( سيركجي ) ، والتي تقع قرب المدرسة العسكرية ، حيث كانت الأفكار الغربية تصل للطلاب بشكل مباشر بسبب الاحتكاك بالأجانب ووصول الصحف والمجلات الغربية إليهم ..وبعد شهرين من تاريخ تأسيس هذه الجمعية بادر إبراهيم تيمو لعقد اجتماع سري خارج مدينة استانبول في قهوة يملكها الباني مناصر لهم يدعى ( علوش آغا ) وشارك في هذا الاجتماع اثنا عشر عضوا ، كان من بينهم ( عبد الله جودت ) ، الذي كانت علاقته مع الحكومة تأخذ طابع الملاينة أحيانا وطابع العنف أحيانا أخرى ، ولقد اشتهر على (عبد الله جودت) إلحاده وعداوته الشديدة للإسلام .
ولم تكن الجمعية متعجلة، لا في الدعاية لأفكارها، ولا في الحركة ضد السلطان،حتى إن أحمد رضا بك قد وصل إلى منصب مدير إدارة المعارف في منطقة بوصة، وسافر عام 1889م إلى باريس بحجة حضور معرض باريس الدولي، ووصل إلى هناك، وأعلن أنه لن يرجع إلى بلاده. ومكث في فرنسا حوالي ست سنوات، لم تصدر عنه حركة معارضة جديرة بالتسجيل، إلى حين أصدر جريدته (مشورات) عام 1895م..ويذكر مؤسس جمعية الاتحاد والترقي ، أنه كان بمضي أوقاته في الخارج -حتى عام 1895م- بمحاولة كسب أعضاء جدد لمنظمتهم ، لتربيتهم تربية ثورية، ويعقد الاجتماعات السرية، وقراءة الأعمال الأدبية التي ألفها أعضاء جمعية العثمانيين الجدد، مثل نامق كمال وضياء باشا وقراءة منشورات على شفقتي بك -عضو كلانتي الماسونية- وكان فاراً في أوروبا.
ونتيجة للمراسلات السرية بين أعضاء جمعية الاتحاد العثماني السرية في الداخل وفي الخارج تم الاتفاق على وحدة العمل العسكري والمدني ضد السلطان ، وعلى اعتماد اسم (جمعية الاتحاد والترقي) للجناحين المعارضين، العسكري والمدني، اللذين يعملان في إطار الجمعية..كان اسم الجمعية في الأوساط العسكرية هو (الاتحاد العثماني)،وكان أحمد رضا بك -ممثل الجناح المدني- متأثراً بأفكار الفيلسوف (أوغست كانت) وكان دستور هذا الفيلسوف هو (الانتظام والترقي) ، فأخذ أحمد رضا كلمة (الترقي) استلهاماً من دستور "كانت" واحتفظ العسكريون بمسمى (الاتحاد)، واتفق الجميع أن تكون جمعيتهم باسم (الاتحاد والترقي).
لقد تغلغلت خلايا (الاتحاد والترقي) في وحدات الجيش، وبين موظفي الدولة من المدنيين، واتحدا في العمل الموحد بعد اتفاق جناحيهما العسكري والمدني في باريس، للعمل الفعلي ضد السلطان عبد الحميد،واستطاعت الجمعية بالفعل إجبار السلطان في 24 يوليو 1908م على إعلان الدستور الذي كان قد أمر سابقاً عام 1877م بوقف العمل به..ولقد عبرت صحيفة ( مشورت ) عن أهداف الجمعية ، والتي أصبحت الصحيفة الرسمية لجمعية الاتحاد والترقي ، لقرائها ، وتعتبر هذه الأهداف هي أول عرض كامل لآراء الجمعية
وجاء بعنوان المقال باسم ( منهاجنا ) وجاء فيه :" إننا نرغب في العمل لا لخلع الأسرة الحاكمة التي نعتبرها ضرورية لحفظ النظام السليم ، ولكن لنشر فكرة التقدم التي نريد لها نصرا سليما ، ولما كان شعارنا هو النظام والترقي ، فإننا نخشى من الامتيازات التي تحصل بالعنف " ، كما جاء " إننا نطالب بالإصلاحات ولا نقصرها على هذه الولاية أو تلك ، بل نطلبها للإمبراطورية كافة ، لا لمصلحة قومية واحدة ، بل لمصلحة العثمانيين كافة سواء كانوا يهودا أو نصارى أو مسلمين "..وبعد فترة من الوقت أسست صحيفة أخرى ناطقة باسمها ، وهي صحيفة ( ميزان ) ، والذي أسسها ، (مراد بك ميزانجي) في مصر ، وأصبحت الصحيفتان ناطقتان باسم الجمعية ، والتي تعبر عن جناحيها .
وكانت الصحيفتان تدخلان إلى الأراضي العثمانية ، فأما ( مشورت ) التي يصدرها (احمد رضا ) في فرنسا ، فكانت ذات سمعة سيئة نظرا لأنها كانت تعبر عن وجهة نظر (احمد رضا ) نفسه ، ولفقدانه الكثير من أصدقائه ، وتصلبه في كثير من المواقف ، بالإضافة إلى تصورات (احمد رضا )الوضعية والمادية حيث كان من أنصار مذهب (أوغست كونت) ، وأما صحيفة (مشورات) فكانت تعبر عن آراء مراد بك .
وهذه الصحف والمجلات كانت تجد طريقها إلى الدولة العثمانية دائما وكما في السابق عن طريق دوائر البريد الأجنبية حيث كان في عاصمة الدولة كما معظم المدن الرئيسية مكاتب للبريد الأجنبي تابعة لسفارات الدول الأوروبية وقنصلياتها ، وكانت جميعها مصونة من التفتيش والمراقبة بسبب ما منحهم لهم الامتيازات الأجنبية ، وكان يتم تسليم هذه المطبوعات المختلفة إلى المجموعات السرية التي تقوم بتوزيعها سرا على عناصرها ..ولقد كان السلطان عبد الحميد يعي ذلك جيدا فيقول " هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم اسم تركيا الفتاة كانوا في الأصل ثلاثة أشخاص أو خمسة ، وهؤلاء عملوا ضدي عدة سنوات في أوروبا ، تكلموا ، خططوا ، كتبوا ، كل ذلك قبل أن يفكروا أن العمل ضدي معناه أيضا العمل ضد الوطن ، لقد كانت صحفهم التي يصدرونها تأتي خفية إلى البلاد عن طريق البريد الأجنبي ، وتوزع بواسطة الأجانب " .
ويمكن الإجمال أن جمعية الاتحاد والترقي لها جانبين :
الأول : الجانب السري الذي تتكون منه خلايا ومجموعات الاتحاد والترقي داخل الدولة العثمانية وتتبع طرق الحذر .
الثاني : الجانب العلني والذي تتكون منه خلايا مجموعات الاتحاد والترقي خارج الدولة العثمانية خصوصا في أوروبا .
وكان الفكر السياسي لجمعية الاتحاد والترقي يؤكد على المفاهيم الطورانية على المستويين الداخلي والخارجي والطورانية تسمية تشير إلى وطن الأتراك الأصلي ونسبته إلى جبل توران الواقع في المنطقة الشمالية الشرقية في إيران وكان داخل حركة الاتحاد والترقي اتجاهاً قوياً يؤكد أن الترك هم من أقدم أمم الأرض وأعرقها مجداً وأسبقها إلى الحضارة، وأنهم هم والجنس المغولي واحد في الأصل، وكان شعارهم عدم التدين وإهمال الجامعة الإسلامية إلا إذا كانت تخدم القومية الطورانية، فتكون عندئذ وسيلة لاغاية وهذا يعني أن هذا الاتجاه يدعوا إلى إحياء عقائد الترك الوثنية السابقة على أسلافهم، كالوثن التركي القديم (بوزقورت) أو الذئب الأبيض -الأسود الذي صوروه على طوابع البريد ووضعوا له الأناشيد وألزما الجيش أن يصطف لإنشادها عند كل غروب، وكأنهم يحلون تحية الذئب محل الصلاة، مبالغة منهم في إقامة الشعور العرقي محل الشعور الإسلامي.
وكان تأثير اليهود على الطورانية أمر واضح وفي هذا الصدد يقول (نيازي بركس )في كتابه (المعاصرة في تركيا) : "أن لليهود الأوروبيين واليهود المحليين في الدولة العثمانية في القرنيين التاسع عشر والعشرين دوراً ضخماً في إرساء تيار القومية الطورانية فالعلماء اليهود في الغرب مثل لومالي دافيد وليون كاهون وارمينيوس فاميري تصدوا للكتابة عن أصول الفكرة القومية الطورانية " .
وقد ذكر (نيازي بركس) في كتابه السابق اسم اليهودي (موئيز كوهين) الذي وصفه (رينيه بيلو) قائلاً: "إن كوهين هو من مؤسسي الفكر القومي الطوراني في الدولة العثمانية، إن كتاب موئيز كوهين هو الكتاب المقدس للسياسة الطورانية"..وكان اليهودي (موئيز كوهين) نشطاً جداً في التعريف بحركة الاتحاد والترقي في الصحف الأوروبية، فقد كان يعرف بجانب العبرية والتركية، عدة لغات أوروبية، وبدأ هذا بمقال باللغة الفرنسية يحمل عنوان (الأتراك يبحثون عن روح قومي)..لقد أسهم (موئيز كوهين)في التخطيط للسياسة العنصرية الطورانية التي سارت عليها جمعية الاتحاد والترقي وهي السياسة التي شقت شعوب الدولة العثمانية وأوجدت بينها العداوة والبغضاء..لقد قامت جمعية الاتحاد والترقي على إثارة المشاعر القومية عند الأتراك، تحت حلم الطورانية، وقد نادت بمفاهيم جديدة مثل الوطن والدستور والحرية، وكانت هذه المفاهيم غريبة على العثمانيين، وقد ضمت في صفوفها مجموعة من الشباب المثقفين الأتراك، بالإضافة إلى يهود الدونمة وكانت الغاية منها الإطاحة بحكم عبد الحميد الثاني.
ثالثا علاقة جمعية الاتحاد والترقي بيهود الدونمة :
بعد أن قدمنا بعناية عن واقع جمعية الاتحاد والترقي ونشأتها ، وتطورها ، فإننا سنثبت بالأدلة القاطعة على علاقة هذه الجمعية بيهود الدونمة ، والتي حاول البعض نفي هذه الحقائق ، والادعاء بان جمعية الاتحاد والترقي هي جمعية خالصة ووطنية ومهمتها رفع الظلم والجور عن أهلها والمطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية ...الخ .
تعريف بيهود الدونمة : Donmeh
(الدونمه) كلمة تركية بمعنى «المرتدين»: كلمة «دونمه» مكوَّنة من كلمتين تركيتين مدغمتين «دو» بمعنى «اثنين» و«نمه» بمعنى «عقيدة» فهم أصحاب عقيدتين واحدة ظاهرة وهي الإسلام، والثانية مبطنة وهي اليهودية..ويقال إن الكلمة مشتقة من كلمة «دونماك» بمعنى «العائدين»، أي يهود المارانو الذين هاجروا من شبه جزيرة أيبيريا إلى الدولة العثمانية.
أما المفهوم السياسي لهذه الكلمة فإنه يعني اليهود المسلمين الذين لهم كيانهم الخاص، وقد أطلق المعنى الخاص بالدونمة منذ القرن السابع عشر على اليهود الذين يعيشون في المدن الإسلامية وخاصة في ولاية سلانيك وأطلق العثمانيون اسم الدونمة على اليهود لغرض بيان وتوضيح العودة من اليهودية إلى الإسلام ثم أصبح علماً على فئة من يهود الأندلس الذين لجؤوا إلى الدولة العثمانية وتظاهروا باعتناق العقيدة الإسلامية.
وقد أُطلق هذا الاسم على جماعة يهودية تركية شبتانية من اليهود المتخفين استقرت في سالونيكا وأشهرت إسلامها تشبُّهاً بشبتاي تسفي (الماشيَّح الدجال). فقد اعتقد كثيرون من أتباعه المؤمنين به أن ارتداده عن دينه واعتناقه الإسلام تلبية لأمر خفي من الرب وتنفيذ للإرادة الإلهية، فحذوا حذوه، ولكنهم ظلوا متمسكين سراً بتقاليد اليهودية. وهم يختلفون عن يهود المارانو في أنهم اعتنقوا الإسلام طواعية دون قسر، فلم تكن الدولة العثمانية تُكره أحداً على اعتناق الإسلام..وعقيدة الدونمه عقيدة حلولية غنوصية متطرفة فهم يؤمنون بألوهية شبتاي تسفي، وأنه الماشـيَّح المنتظر الذي أبطل الوصايا العـشر وغـيرها من الأوامر والنـواهي. وهم يرون أن التوراة المُتداوَلة (توراة الخلق) فارغة من المعنى وأنه أحل محلها توراة التجليات، وهي التوراة بعد أن أعاد تسفي تفسيرها..وكان مركز الجماعة في بادئ الأمر في أدرنة ثم انتقل إلى سالونيكا. ويحمل كل عضو من أعضاء الدونمه اسمين: اسم تركي مسلم وآخر عبري يُعرَف به بين أعضاء مجتمعه السري. وكانوا يعتبرون أنفسهم يهوداً، فكانوا يتدارسون التلمود مع بقية اليهود ويستفتون الحاخامات فيما يقابلهم من مشاكل، كما كانوا يحتفلون بجميع الأعياد اليهودية ويقيمون شعائرهم عدا شعيرة الكف عن العمل يوم السبت حتى لا يلفتوا النظر إلى حقيقتهم. وقد أضافوا إلى الأعياد عيداً آخر اعتبروه أقدس الأعياد على الإطلاق وهو عيد ميلاد شبتاي تسفي.
ويدفن الدونمه موتاهم في مدافن خاصة بهم، ولكن كل فريق منهم يتعبد في معبده الخاص الذي يُسمَّى «القهال» (الجماعة أو جماعة المصلين)، والذي يوجد عادةً في مركز الحي الخاص بهم مخبأً يخفيهم عن عيون الغرباء. وكانت صلواتهم وشعائرهم تُكتَب في كتب صغيرة الحجم حتى يَسهُل عليهم إخفاؤها، ولهذا لم يطلع عليها أحد حتى عام 1935. وكانت كتب الصلوات بالعبرية أصلاً، لكن اللادينو حلت محل العبرية سواء في الأدب الديني أم الدنيوي، ثم حلت التركية محل اللادينو في منتصف القرن التاسع عشر..وقد اتُهمت هذه الجماعة، أو على الأقل إحدى فرقها، بالاتجاهات الإباحية وبالانحلال الخلقي والانغماس في الجنس، وذلك بسبب تحليل الزيجات التي حرمتها الشريعة اليهودية وبسبب الحفلات التي كانوا يقيمونها ويتبادلون خلالها الزوجات (وهذا أمر شائع في أوساط الجماعات الحلولية التي تُسقط كل الحدود، بمعنى حدود الأشياء والعقاب).
وللدونمه صيغة خاصة من الوصايا العشر لا تُحرِّم الزنى، بل إنها تُحوِّل عبارة «لا تزن» إلى ما يشبه التوصية بأن يتحفظ الإنسان فقط في ارتكاب الزنى وليس أن يمتنع عنه تماماً. والموعظة الطويلة التي تركها أحد زعمائهم تحتوي على دفاع قوي عن إسقاط التحريمات الخاصة بالجنس في «توراة الخلق». وتؤكد الموسوعة اليهودي

mkhaled

أدع من أستطعت فوالله لأن يهدى الله بك رجل واحد خير لك من حمر النعم

  • Currently 98/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
33 تصويتات / 343 مشاهدة
نشرت فى 10 أغسطس 2010 بواسطة mkhaled

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

504,733