محمد شو

العالم بين يديك

 

عبد اللطيف مهنا

خسر العرب نصيراً كبيراً لقضاياهم بانهيار الاتحاد السوفييتي. بانهياره تفرَّدت الولايات المتحدة بالقطبية فاستبدت بقرار العالم، الأمر الذي لا زال العرب يكابدون تداعياته المريرة إلى يومنا هذا.

كانت مواقف السوفييت من القضايا العربية يحكمها مزيج من ركائزٍ ثلاثٍ هي: مصالح دولة عظمى، هي واحدة من قطبين كونيين ما من منازعٍ لهما، والمبادئ المستندة إلى أيديولوجيا تحكمها الرؤيا الشيوعية لعالمنا، أو صراع النفوذ بين القوتين الكونيتين العظميين في حينها.

بعد دراما الانهيار السوفييتي وبدء الحقبة اليلتسينية انحدرت المواقف الروسية إزاء القضايا الدولية بانحدار مكانة روسيا وانحسار تأثيرها في السياسة الدولية وحلَّت حقبة البيات الشتوي للدب الروسي المنهك، وطبعت السياسة الروسية براغماتية مُسفَّة فتصرَّف الكرملين بما ينطبق عليه تصرُّف عزيز قومٍ ذل. بعدها جاءت الحقبة البوتينية لتبدأ إفاقة الدب من سباته ومحاولاته استعادة الدور والمكانة الكونية البائدة. تجلى هذا روسياً في السعي الحثيث لاستيلاد عالمٍ متعدد الأقطاب، الأمر الذي سهَّله وشجَّع عليه ارهاصات تراجع المد الإمبراطوري الأمريكي وبداية العد العكسي لأفوله. لكنما المرتكزات للمواقف الروسية من قضايا عالمنا لم تعد هي المرتكزات، إذ لا مكان بات للمبادئ وما من دورٍ للأيديولوجيا، وإنما المعيار أصبح هو المصالح والمصالح أولاً وأخيراً، مع محاولاتٍ جادةٍ لتفادي العودة للحرب الباردة مرةً أخرى ما أمكنهم ذلك، وإن كان راهن العلاقات الروسية الغربية يشير إلى أنه من الصعب تفاديها في مثل هذه المرحلة الكونية الحبلى بالتحولات المتسارعة.

نرى هنا براغماتية تختلف عن براغماتية يلتسن، وهي قد تكون مفهومة ومنطقية، بل ومن حق الروس، وقد تلتقي أحياناً مع مصالح أمتنا والمنطقة في مواجهاتها مع المشاريع الغربية المعادية. من ذلك الموقف الروسي الصارم من استهداف سوريا ورفض موسكو للتدخل الخارجي في الأزمة التي تعيشها، وكذا الموقف من تهديدات الغرب لإيران وفرض المقاطعة الاقتصادية عليها بذريعة ملفها النووي.

لكن ما دامت المصالح وحدها هي المعيار، فلا ينبغي علينا انتظار عودة الروس إلى سالف عهدهم السوفييتي تجاه قضايانا، إذ لم تعد من سياسة تتحكم فيها المبادئ وترسمها الأيديولوجيا في الكرملن، ناهيك أصلاً أنه ما من سياسةٍ خيريةٍ في عالمنا هذا. وعليه، ومن هذه الزاوية فقط، يمكن النظر إلى زيارة بوتين الأخيرة إلى الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وفهم ما وراء اكتشافاته لـ"التاريخ اليهودي"..!

حاول الإسرائيليون الإفادة من الزيارة إلى أبعد حدٍ. تغنوا بكونها الزيارة الرئاسية الرسمية الأولى التي يقوم بها قيصر الكرملن لجهةٍ خارجيةٍ بعد تتويجه لفترة رئاسيةٍ ثالثةٍ. أطنبوا في الحديث عن الوشائج الثقافية والبشرية التي تربط كيانهم بالفضاء الروسى. أكثروا من الكلام عن مليون يهودي روسي هاجر إلى فلسطين المحتلة قبيل وبعيد انهيار الاتحاد السوفييتي. تحوَّل وزير الخارجية ليبرمان حارس الملهى الليلي في دنيا السوفييت سابقاً إلى مرافقٍ ودليلٍ سياحيٍ لبوتين طيلة أمد الزيارة. أخذوه معتمراً القلنسوة اليهودية إلى حائط البراق، حيث، وكما يقولون، "أدى بعض الشعائر". وقبلها قام بافتتاح نصبٍ تذكاريٍ للجنود السوفييت اليهود الذين قضوا إبان الحرب العالمية الثانية في نهاريا... أعطوا انطباعاً باحتمالات نسج تلاقٍ إستراتيجيٍ بين الطرفين بالحديث عن الخطر الأصولي الإسلامي، أو هذا العدو المشترك، الذي يتفقان حول خطورة تهديده لكلٍ منهما.

كل هذا هو المتوقع من قبل الإسرائيليين، وقد يكون غير مستغربٍ أن يأتي مثله من روس ما بعد السوفييت، لكن ربما هو غير المتوقع وحتى المستهجن بالنسبة للكثيرين أن يطلب بوتين... وقد أهداه مواطنه السابق ليبرمان كتابا بالروسية محشو بالخرافات الأثرية حول ما يدعوه الصهاينة "نفق الحائط الغربي"، أو تلكم الحفريات التي نبشوا من خلالها ما تحت المسجد الأقصى، وبالتالي طمست العديد من المواقع الأثرية العربية الإسلامية... 

أن يطلب أن يأخذوه إلى النفق، حيث يقول الإسرائيليون إنه وهو يجول فيه منبهراً قد عقب قائلاً: "هنا نشاهد كيف أن التاريخ اليهودي محفور في حجارة القدس"... من غير المتوقع بل والمستهجن أن يكتشف الرئيس الروسي "تاريخاً يهودياً" منقوشاً تحت أساسات المسجد الأقصى!

تزامن هذا مع إعلان بلدية القدس المحتلة عن حفلةٍ تهويديةٍ جديدةٍ في سياق عملية استكمال تهويد المدينة. بناء ما مجموعه 1800 وحدة سكنية في مستعمرةٍ تحاذي جنوبها. إقامة "متحفٍ ضوئيٍ بصريٍ" في موقع نبعٍ أثريٍ يعود للحقبة العربية اليبوسية قبل ثلاثة آلاف عامٍ في وادي حلوة لا يبعد عن المسجد الأقصى إلا عشرات الأمتار!!!

إبان زيارة الرئيس الروسي لفلسطين المحتلة لم يعرِّج على رام الله، اكتفى بلقاءٍ بروتوكوليٍ مع رئيس سلطتها خلال حجيجه إلى كنيسة المهد في بيت لحم المحتلة، وفعل مثلها في الأردن حيث التقى الملك وحج إلى المغطس، أو موقع تعميد السيد المسيح، ليفتتح بيتاً للحجاج الروس على أرض كان قد قدمها الملك... هناك بون شاسع بين الحاج بوتن والرئيس الروسي المنبهر بما اكتشفه على حين غرةٍ من آثار أسطوريةٍ يهوديةٍ نقشت حديثاً على حجارة القدس...

لا يلام الحاج الروسي، والأحق باللوم هم العرب أبعد خلق هذه المعمورة عن التنادي للذود عن حقوقهم ومقدساتهم ومصالحهم.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 63 مشاهدة
نشرت فى 3 يوليو 2012 بواسطة mhmadshoo

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

276,689