فيصل جلول
كشفت العملية الانتحارية التي استهدفت قوات الأمن عشية الاحتفالات بعيد الوحدة اليمنية في ايار/ مايو الماضي عن تخطيط واضح للمجموعات الإرهابية ينطوي على تدمير أجهزة الدولة اليمنية تدميراً جماعياً، وبالتالي تعطيل دورها المركزي في حماية المؤسسات والمجتمع؛ وإذ تنهار الدولة تحت وطأة الضربات العسكرية الانتحارية وغيرها تأمل المجموعات المذكورة في إقامة دولتها على أنقاضها في أرض اليمن على غرار دولة طالبان في أفغانستان أو دولة "طالبان" الصومال المجاورة.
والواضح أن هذه المجموعات تتعاطى مع اليمن وفق مفهوم الساحة، ما يعني رفض احترام الحدود الوطنية ورفض القوانين المحلية والدولية وعدم التمييز بين المدني والعسكري لا في المواقع المستهدفة ولا في البشر المستهدفين. ولعل طبيعة تنظيم القاعدة تتناسب مع هذه الإستراتيجية، فهو يضم عناصر متعددة القوميات والجنسيات حتى ليقال إن الرجل الثالث في الهرمية القيادية أمريكي الجنسية اعتنق الإسلام في تاريخ ما زال مجهولاً، بعبارة أخرى تتطلع هذه المجموعات إلى عالم على صورتها بلا حدود وبلا أنظمة وقوانين حداثية أو دينية مندمجة في إطار حداثي تبنيه بالعنف بعد تكفيره غير عابئة بهرمياته: جندي وضابط، مدير وموظف، فقير وغني، مواطن ملتزم كليا أو جزئيا بالواجبات الدينية... الخ.
فالنظرة الإرهابية الشمولية تستدعي طرقاً ووسائل شمولية متصلة بأهداف شمولية، لذا يبدو مسرح الاحتفالات في ساحة السبعين ملائما بالضبط لأعمالها الاستعراضية الشمولية، تماماً كتدمير القطارات في إسبانيا أو برجي التجارة العالمية.
وبخلاف الاعتقاد السائد ليس هذا النوع من الإرهاب جديداً وقاصراً على المسلمين، فهو يرث في منطقه العملي وليس في اختيار الأهداف تركة ماركسية معروفة من ستينات وسبعينات القرن الماضي حيث كانت تنظيمات مماثلة تقوم بعمليات من هذا النوع، غير عابئة بحدود الدول والأوطان، بيد أنها كانت انتقائية وطبقية وهرمية في اختيار أهدافها، فهي لم تستهدف أبدا جماعات مدنية، بل أفراداً ومجموعات عسكرية مقاتلة؛ وكانت عملياتها في خطف الطائرات تنتهي دائما بتوفير سلامة المخطوفين.
ومن بين هذه التنظيمات نذكر حركة بادر- ماينهوف في ألمانيا، والألوية الحمراء في إيطاليا، والجيش الأحمر الياباني في اليابان وجماعة كارلوس...الخ؛ والراجح أن هذه الجماعة الأخيرة هي الأكثر شبها بالإرهاب الدولي الحالي فهي تلقي المتفجرات وتقوم بأعمال الخطف والاغتيال في كل أنحاء العالم، تماما كما تفعل القاعدة اليوم.
بكلام آخر كانت تلك المجموعات أممية الطابع، أي معولمة قبل نشوء نظام العولمة الحالي، بل ربما كانت السباقة إلى ممارسة الإرهاب العالمي انطلاقاً من خلفية علمانية ماركسية، وكان رهانها شبيهاً برهان القاعدة اليوم لكنها أخفقت، ولإخفاقها قصة جديرة بأن تروى:
كانت تلك الحركات تعتقد أن القيام بعمليات إرهابية في مختلف أنحاء العالم من شأنه أن يستنهض رأياً عاماً يطيح بالأنظمة والحكومات القائمة، إلى أن تبين بالتدريج أن الإرهاب المذكور خلق ردود فعل شعبية عكسية كان لها الأثر الأكبر في تراجع هذه الظاهرة واضمحلالها من بعد في الدول الغربية، ولعل التذكير باغتيال رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق ألدو مورو يوجز أسباب فشل تلك الإستراتيجية. كانت الألوية الحمراء الإيطالية تعتقد أن خطف الدو مورو واغتياله سيؤدي إلى نهوض شعبي يسقط الحكومة الإيطالية فحدث العكس تماماً، ذلك أنه ومنذ أن علم الناس بوقوع الاغتيال اندلعت مظاهرات شعبية عارمة مستنكرة الحادث ومطالبة بمعاقبة الفاعلين، الأمر الذي حرر الحكومة من الضوابط وجعلها تشن حملة شاملة على أعضاء التنظيم أدت إلى تصفيته مرة واحدة وإلى الأبد.
فهل تواجه القاعدة والمجموعات الإرهابية المماثلة المصير نفسه طالما أنها تعتمد الاستراتيجية والوسائل نفسها؟ أغلب الظن أن مصير الإرهاب الإسلامي سيكون مشابهاً لمصير الإرهاب العلماني، فكلاهما يريد تأليب الرأي العام على الحكومات عبر الإرهاب، وكلاهما يأمل أن يطيح الإرهاب بالدولة الوطنية ويخلق فراغاً تعبئه الجماعات المذكورة أو انحيازاً شعبيا لها لدوافع دينية أو طبقية أو سياسية.
ربما تكون نهاية الإرهاب الإسلامي أقرب من العلماني لأن جماعة القاعدة تستدرج رفضاً شاملاً من الرأي العام لطروحاتها عندما تستهدف مدنيين، أو لا تعبأ بمصيرهم في عملياتها الانتحارية، أو عندما تجيز قتل مدنيين لا ذنب لهم سوى الاختلاف مع المنهج الديني الذي تعتنقه، أضف إلى ذلك أن الإرهاب في المجتمعات التقليدية، كما هي حال المجتمع اليمني، من شأنه أن يستدرج تكتلات شعبية أو قبلية عسكرية ضد القاعدة عندما يقتل أبناء القبائل خلال تمارين العرض العسكري، كما حصل في ساحة السبعين، فيصبح "دم الضحية" في رقبة الإرهابيين ومن يؤازرهم وليس في ذمة الدولة أو الجيش. وإذ يهمل الإرهابيون هذا البعد الاجتماعي في مغامرتهم فإنهم يخاطرون "بعسكرة" المجتمع ضدهم ومجابهتهم حتى الموت.
يصعب على القاعدة في اليمن وفي غيره أن تقنع الناس بأنها تريد تدمير أمريكا وإسرائيل ومن ثم تقتل أبناءهم في ساحة السبعين!! ويصعب عليها إقناع الناس بأنها تقف ضد الطواغيت في حين يسقط الأبرياء في الأسواق جراء متفجراتها وأعمالها الانتحارية، ويصعب على القاعدة تبرير قتل المسلمين الأبرياء وأحيانا على أبواب المساجد تحت راية نصرة الإسلام!!
موجز القول، إن إغراق ساحة السبعين بدماء الجنود الصغار الوافدين من الريف والأحياء الفقيرة في صنعاء يصب الماء في طاحونة التيار الراديكالي المناهض للقاعدة في اليمن ويعزز تصميم السلطة اليمنية على خوض حرب إبادة ضد القاعدة ومن يتعاطف معها وفق منطق الحرب النظامية الشاملة ضد الإرهاب الشامل.. <!--EndFragment-->
نشرت فى 3 يوليو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
276,682
ساحة النقاش