رسائل الثورة العربية 24/6/2012
رسالة إلى أحرار مصر/مجاهد مأمون ديرانية
نشرت قبل أيام مقالة صغيرة عنوانها “انتخابات مصر: رسالة إلى سوريا”، فكتب إليّ عدد من الأصدقاء المصريين يقولون: لماذا لا تكتب عن مصر وثورة مصر؟
وجوابي أني لا أصنع ذلك لسببين، لأن في مصر جيشاً من العمالقة الكبار من المفكرين والكتّاب الذين يكتبون عن مصر وعن ثورة مصر، فإن وقفت بجوارهم بدوت قزماً ضئيلاً يستحق الشفقة! السبب الثاني هو أني انشغلت بثورة سوريا حتى باتت متابعتي لكل ما عداها ضعيفة متقطعة، فإن عرفت شيئاً عن مصر فإنها تغيب عني أشياء، ومن لا يملك المعلومات الصحيحة الكاملة لن يحسن التفكير والتقدير.
على أني لن أتهرب من هذا الطلب لأن إجابته هي أقل مساهمة أستطيع أن أشارك بها في الثورة المصرية العظيمة التي ملكت عليّ قلبي وغيّرت حياتي. نعم، هذا ما حصل، فيوم أن بدأ الأحرار في مصر ثورتهم على طاغيتها الكبير حسني مبارك تغيرت حياتي كثيراً، فصرت أصرف الساعات المتعاقبة أمام الشاشة أتابع الثورة كأني داخلها، فلا أتركها ساعة أو نحوها حتى يَحفزني حافزٌ لا يقاوَم على العودة إلى متابعتها، فهي ما أختم به ليلي إذا نمت وهي ما أبدأ به نهاري إذا استيقظت. وأذكر أني لم أكد أنام من الليل غير سُوَيعات قلقات في الليلة التي قطع النظام المصري فيها بثَّ المحطات الفضائية التي كانت تنقل الصورة من ميدان التحرير، فقد خشيت أن يرتكب المجرمون مجزرة في ظلام الليل وفي غفلة من عين الدنيا. وأحسب أن ملايين الناس شاركوني (أو أنني شاركتهم) تلك الهواجس، ولم نلتقط أنفاسنا حتى طلع الصباح واطمأننّا إلى سلامة الحشود الهائلة التي رابطت في الميدان. أما لحظة تنحي الطاغية فكانت لحظة من لحظات العمر، وكانت فرحة من أفراح الحياة الكبار.
بعد ذلك انتقل الاهتمام إلى ليبيا، ومرة أخرى فقدت نفسي وأنا أتابع الثورة العظيمة هناك، ثم بدأت الثورة السورية فنسيت كل شيء وغرقت في بحرها فلم أطفُ على سطح الدنيا منذ ذلك اليوم.
يا أيها الشعب المصري الكريم العظيم: لن أتحدث عن تفصيلات اليوم لأنكم تُلقون عليّ فيها الدروس، ولكني سأستخرج قصة من سجلات التاريخ وأرويها لكم، قصة حصلت في مصر نفسها منذ وقت غير بعيد، هي أصل المأساة وبدايتها، وكل ما كابدَته مصر من ذلك اليوم إلى اليوم هو نتيجة لها وتتمة لأحداثها الجِسام. اسمعوها يا كرام.
-1-
في يوم من الأيام قامت مجموعة من ضباط الجيش المصري بانقلاب عسكري كانت نتيجتُه سقوطَ النظام الملكي وخروج فاروق -آخر ملوك الأسرة العلوية- من مصر إلى الأبد. كان ينبغي أن تكون تلك الحادثة هي النهاية لعصر من عصور الظلم والظلام التي عاشتها مصر، ولكنها -للأسف- كانت فاتحة لعصر أكثر ظلماً وأحلك ظلاماً، عصر كئيب طويل ضاعت فيه الحرية والكرامة واعتُدي فيه على الإنسان والأوطان. فكيف كان ذلك؟ إنها قصة تستحق أن تُروى.
بدأت الحكاية في صيف عام 1952، في الثالث والعشرين من تموز (يوليو). في السادسة من صباح ذلك اليوم سمع المصريون من الإذاعة بياناً يخبرهم أن الجيش استولى على القاهرة، موضّحاً “أن حركة الجيش هي حركة الشعب وأن هدفها هو إقامة الحكم الدستوري وإلغاء الأحكام العرفية وتمكين سيادة الشعب”. تلك الحركة التي سُمّيت لاحقاً “ثورة يوليو” لم تكن في الحقيقة سوى انقلاب عسكري قامت به ضد الملك جماعةٌ من الضباط أطلقت على نفسها اسم “الضباط الأحرار”، وكانوا أقل من مئة ضابط بقليل.
كان اللواء محمد نجيب هو الواجهة التي قدمها الضباط للناس لأنه كان يحمل رتبة عالية وكانت له شعبية واسعة في الجيش المصري، ولكن من هو القائد الحقيقي للانقلاب؟ الحقيقة التي لم يعرفها أهل مصر خلال الأيام الأولى والأسابيع التالية صارت معروفة بعد ذلك لكل الدنيا، كان قائد الانقلاب ضابطاً يحمل رتبة مقدّم (بكباشي) اسمه جمال عبد الناصر.
-2-
ماذا حصل بعد ذلك؟ مساء 26/7/52 غادر الملك فاروق مصرَ بعد تنازله عن العرش، وفي اليوم التالي (27/7) كلف مجلس قيادة الثورة علي ماهر باشا (الذي كان رئيساً للوزراء ثلاث مرات أيام فاروق) بتشكيل وزارة جديدة، وألغى الرقابة على الصحف، وأعلن أن الجيش سيعود إلى ثكناته بمجرد استئناف الحياة النيابية وانتخاب رئيس للبلاد. تفاءل الناس واستبشروا بولادة عهد جديد، ولعل بعضهم هتف بتلك العبارات العاطفية التي سمعناها في الليلة التي سقط فيها حسني مبارك: “مفيش خوف تاني، مفيش ظلم تاني”. لكن الأيام التالية كانت حُبالى بالكثير، ولم تلبث أن وضعت حملها الكئيب.
منذ اليوم الأول الذي عُيّن فيه علي ماهر رئيساً للوزراء سُحبت منه السيطرة على أهم وزارتين، حيث احتكر المجلسُ العسكري (وكان اسمه “مجلس قيادة الثورة”) القرارات الخاصة بالسياسة الداخلية والخارجية، وكان يبلّغها لرئيس الوزراء عن طريق اثنين من أعضائه هما جمال سالم وأنور السادات. كانت تلك هي البداية فقط، فبعد ستة أسابيع (7/9/52) أقال المجلس العسكري وزارة علي ماهر وشكل وزارة جديدة برئاسة اللواء محمد نجيب. في ذلك اليوم بدأ حكم العسكر لمصر، وهو حكم لم ينتهِ حتى كتابة هذه الكلمات.
الشهور القليلة التالية شهدت زحفاً خفيّاً قام به ضباط من الجيش على وزارات ودوائر الدولة باسم “مراقبين”، وسرعان ما امتلأت بهم المكاتب وباتوا يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة في حكم وإدارة البلاد، وصارت السيطرة على إدارات الدولة في أيديهم، يديرونها وفقاً للتعليمات التي يتلقونها من مركز قيادة الثورة، وبالتحديد من البكباشي جمال عبد الناصر شخصياً.
ثم بدأ عبد الناصر بتكوين جهاز مخابرات أسند مهمة تكوينه وإدارته إلى عضو مجلس الثورة البكباشي زكريا محيي الدين، فبدأ بتكوين التنظيم داخل الجيش، ثم وسّعه في المجتمع المدني حتى صارت مصر كلها تعيش في ظل نظام جاسوسي محكم. وسرعان ما بدأ الناس يفقدون ثقتهم بعضهم ببعض، لأن المخابرات بدأت باستغلال الخدم والعمال وسائقي سيارات الأجرة أولاً، ثم توسعت حتى صارت تسلط الأخ على أخيه والابن على أبيه. لم يمضِ غيرُ قليل حتى اكتشف الناس أنهم قد فقدوا الحرية وفقدوا الكرامة والأمان.
-3-
بدأ المجلس العسكري (مجلس قيادة الثورة) بعد ذلك بإشاعة الخوف في قلوب الناس عن طريق افتعال بعض الحوادث واستغلالها لإظهار قوّته وجبروته. بعد الانقلاب بشهور قليلة وقعت أول حادثة مهمة، فقد اعتُقل ضابط كبير من ضباط الشرطة ووكيل وزارة سابق وأحيلا على المحكمة العسكرية بتهمة الإساءة إلى قيادة الثورة، وحُكم عليهما بالسجن خمسة عشر عاماً مع الأشغال الشاقة. بعد ذلك بأسابيع معدودة أضرب عدد من عمال مصانع النسيج في كفر الدوار، فتم تحويلهم إلى القضاء العسكري وصدر الحكم بإعدام اثنين منهم، ونُفّذ الحكم بتاريخ 7/9/1952، في بداية الأسبوع السابع من عمر الثورة!
بعد ذلك بيومين صدر قانون تحديد الملكية الزراعية (9/9/52) الذي قيّد الحد الأقصى للمُلكية الزراعية فحجّم القوى الإقطاعية التقليدية في مصر، وبعد ثلاثة أيام (12/9/52) صدر قانون القضاء وقانون الرقابة على موظفي الدولة الذي جمع خيوط الدولة كلها -بما فيها القضاء والنيابة- في يد مجلس قيادة الثورة، وفي الليلة نفسها اعتُقل المئات من قادة الأحزاب ومن رجال فاروق، كما اعتُقل عدد كبير من كبار الإقطاعيين وأصحاب المُلكيات الزراعية الكبيرة.
بعد صدور القانون الجديد مباشرة كوّن مجلس قيادة الثورة “لجان التطهير” التي بدأت تعمل بشكل محموم في جميع مرافق الدولة ووزاراتها وإداراتها وأجهزتها، بما فيها الجيش والأمن، وصارت كلمة “التطهير” شبحاً مرعباً يطارد ملايين الناس، وبالنتيجة تم التخلص من آلاف وآلاف من كبار موظفي الدولة وضباط الجيش والشرطة.
قبل أن تنتهي تلك السنة كان الشعب المصري قد سقط تحت نفوذ العسكر وتحولت مصر كلها إلى سجن كبير! فسدت سرائر الناس وصار بعضهم جواسيس على بعض، وانتشرت عادة كتابة التقارير والتزلف إلى الضباط الذين سيطروا على مرافق الدولة وانتشروا فيها، وصار لزاماً على كل موظف يريد المحافظة على نفسه وعلى وظيفته أن يرتبط بضابط ويحرص على إرضائه بأي وسيلة. ومنذ تلك الأيام المبكرة إلى اليوم عرف المصريون أن أحدهم لا بد له من علاقة بضابط كبير لكي يعيش في أمان.
-4-
اصطدمت الدكتاتورية الوليدة بثلاثة عوائق كبرى: القضاء الذي كان مستقلاً خلال العهد الملكي السابق، والدستور الذي يكبّل أيادي الطغاة الجدد، والبرلمان الذي يمثل الحياةَ النيابية والحكمَ المدني في مصر، وهو النقيض الطبيعي للدكتاتورية العسكرية.
الضربة الأولى وجّهها العسكر إلى البرلمان. كان الهلالي باشا قد حَلّ آخر برلمان قبل ذلك بعدة أشهر في أثناء وزارته الأولى، ولكن لم تلبث أن قامت الحاجة إلى دعوته من جديد. عندما غادر الملك فاروق مصر تنازل عن العرش لابنه الطفل أحمد فؤاد، فعيّن مجلس قيادة الثورة مجلساً للوصاية على العرش، وكان الدستور المصري يُلزم الأوصياء بحلف اليمين أمام البرلمان، ومن ثَمّ فإن الإجراء الدستوري الصحيح كان دعوة آخر برلمان للاجتماع، ولكن مجلس قيادة الثورة تجاوز تلك القاعدة واستبعد دعوة البرلمان. أحد أكبر المستشارين وأكبر علماء القانون في ذلك الوقت، الدكتور وحيد رأفت، وصف ذلك التجاوز الخطير بقوله: “لقد مُزّق الدستور اليوم”. وهكذا قفز المجلس العسكري من فوق العقبة الأولى
بعد ذلك بدأت الحرب على القضاء. كانت الضربة الأولى هي إصدار قانون القضاء الجديد الذي قيّد حرية القضاة واستقلالهم (12/9/52)، ثم بدأ المجلس العسكري بتجاوز القضاء المدني وإحالة القضايا على القضاء العسكري، ثم أصدر مرسوماً (13/11/52) يمنح “حق السيادة” لقرارات القائد العام للقوات المسلحة، فصار مجلس قيادة الثورة أعلى سلطةً من القضاء. ثم جاءت الضربة الكبرى (10/12/52) عندما أذاع اللواء محمد نجيب بياناً أعلن فيه إلغاء دستور 1923، وأعلن عن تأليف لجنة لوضع دستور جديد وعن فترة انتقالية -بانتظار صدور الدستور الجديد- “تتولى فيها جميعَ السلطات الحكومةُ الحالية” (أي مجلس قيادة الثورة على الأصح، لأنه هو الذي عيّن الحكومة وهو يتحكم فيها).
خلال سنة من حكمه ألغى مجلس قيادة الثورة الدستورَ وبطش بالحريات وحاصر الصحافة ونشر الجاسوسية بين الناس، وصار الجيش خصماً عنيفاً للديمقراطية والحريات. خلال سنة وصل الحال إلى أسوأ بكثير مما كان أيام الملك فاروق.
-5-
استمر صراع القوة -في سبيل الوصول إلى التفرد بالحكم وإلى الاستبداد الكامل- لنحو سنتين، وهو صراع أداره جمال عبد الناصر بقدر كبير من الحنكة والدهاء، فضرب القوى السياسية بعضها ببعض، وعزل بعضها عن بعض، وحاربها مشتّتةً فأسقطها واحدة بعد واحدة.
كان علي ماهر على خلاف مع أكثر الأحزاب والقوى السياسية، فاستغله جمال عبد الناصر أحسن استغلال لمهاجمتها والتضييق عليها، ثم تخلص منه هو نفسه فأقال وزارته بعد تشكيلها بستة أسابيع (7/9/52)، وعلى الفور أصدر قانون الأحزاب (10/9/52) الذي قيّدَ إنشاء الأحزاب بقيود هائلة كان من أثرها أن صارت ولادة أي حزب جديد في مصر من المستحيلات.
بعد مرور نحو نصف سنة على الانقلاب العسكري (الثورة) شعر عبد الناصر بأنه وصل إلى درجة من القوة تكفي لضرب القوى السياسية التقليدية، فأصدر قرار حل الأحزاب (16/1/53) واستثنى منه كبرى الجماعات السياسية في مصر، جماعة الإخوان المسلمين. ثم كشف القناع وأعلن عن تأجيل وعوده السابقة بتسليم الحكم إلى المدنيين وبدء الحياة البرلمانية لمدة ثلاث سنوات: “لما كانت الأحزاب بعقليتها الرجعية وطريقتها القديمة تمثل خطراً شديداً على كيان البلاد ومستقبلها فإني أعلن حل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها لصالح الشعب، ولكي تنعم البلاد بالاستقرار والإنتاج فإنني أعلن عن فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات حتى نتمكن من إقامة حكم ديمقراطي دستوري سليم”.
ثم كشف عبد الناصر آخر أوراقه فأعلن عن تشكيل حزبه السياسي الذي سمّاه “هيئة التحرير” (23/1/53)، على رأس ستة أشهر من انقلاب الضباط الأحرار. بعد خمسة أيام (28/1/53) أعاد المجلس العسكري الرقابةَ على الصحف بعدما ألغاها علي ماهر في وزارته، وبدلاً من عودتها تحت إشراف وزارة الداخلية كما كان الوضع أيام الملك فاروق عادت تحت إشراف لجنة عسكرية يرأسها البكباشي أنور السادات، وصار المراقبون على الصحف من الضباط الذين يرتبطون مباشرة بمجلس قيادة الثورة، وخلال أسابيع تحولت صحف مصر كلها إلى أبواق مهمتها النفاق ونشر ما يريده العسكر.
بعد ذلك بقليل صدر “قانون الغدر” الغريب الذي نص على ملاحقة ومعاقبة كل من ساهم في إفساد الحياة السياسية أو استغل وظيفته لتحقيق مكاسب شخصية خلال السنوات الأربع عشرة السابقة على صدوره، ففتح ذلك القانونُ المطاط البابَ على مصراعيه لإدانة واعتقال أي شخص لا يرضى عنه الضباط في طول مصر وعرضها! وأخيراً وبعد الانقلاب بأحد عشر شهراً (18/6/53) أعلن المجلس العسكري (مجلس قيادة الثورة) عن إنهاء المَلَكية وإعلان النظام الجمهوري في مصر، وسُمّي محمد نجيب رئيساً للجمهورية ورئيساً للوزراء، وعبد الناصر نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية.
-6-
استمر ضغط عبد الناصر على الإخوان طوال عام 1953، وكان الصدام بين الطرفين قد بدت بوادره الأولى في شهر الثورة الثاني عندما رفض الهضيبي، مرشد الجماعة، طلباً ملحّاً من مجلس قيادة الثورة للمشاركة في وزارة محمد نجيب. لقد أدرك الإخوان المسلمون أن الوزارة كانت دمية في يد المجلس العسكري فنأوا بأنفسهم عن المشاركة في “محرقة” سياسية لخدمة العسكر، وفي الحقيقة فإن اللواء محمد نجيب نفسه لم يكن له أي نفوذ في الحكومة، حيث كان جمال هو الرئيس الفعلي لمجلس الوزراء، وكثيراً ما كان نجيب يقع في مواقف سخيفة ويبدو كالأبله لأنه لا سلطة له على الوزارات.
على أن الصدام الأكبر بين الطرفين كان ما يزال مؤجَّلاً، وقد بدأ حينما ضغط جمال عبد الناصر على الإخوان للانصهار في “هيئة التحرير”. لقد كان أمله في ضم الجماعة إلى حزبه الجديد هو أحد سببين رئيسيين دفعاه إلى تأجيل ضرب الإخوان، وكان الثاني سبباً وجيهاً للغاية: لقد كان الإخوان هم أكبر قوة سياسية في مصر في تلك الأيام، وكان عبد الناصر أكثرَ ذكاءً ودهاء من أن يضرب القوى كلها في وقت واحد، بل إنه كان أعجز من ذلك في الحقيقة.
مع بداية عام 1954 شعر عبد الناصر بأنه لم يعد بحاجة إلى الإخوان بعدما ضرب أكثر القوى السياسية في مصر، فأصدر قراراً بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها (15/1/54) وجرت اعتقالات واسعة شملت المرشد وعدداً كبيراً من قيادات الجماعة ومئات من أعضائها، كما فُصل عدد كبير من الطلاب والموظفين وضباط الجيش والشرطة بتهمة العلاقة بالجماعة، وبذلك أزاح عبد الناصر من طريقه آخرَ الخصوم الكبار واتجه إلى الضربة الأخيرة: صدر قرار عن مجلس قيادة الثورة (25/2/54) بإقالة محمد نجيب من منصبه وإعلان جمال عبد الناصر رئيساً لمجلس الوزراء.
كانت للّواء محمد نجيب شعبية هائلة، فما كاد قرار عزله يصدر عن المجلس العسكري (مجلس قيادة الثورة) حتى ثارت مصر ثورة عارمة من أدناها إلى أقصاها، وخرج الناس إلى الشوارع بأعداد هائلة، وتحركت قطع عسكرية من سلاح الفرسان فحاصرت مركز قيادة الثورة وهددت بضربه، فاضطرب المجلس العسكري اضطراباً شديداً ودب الذعر بين ضباط الثورة الكبار، حتى إن بعضهم أسرعوا بترحيل عائلاتهم من القاهرة إلى الأقاليم، ولم يجد جمال عبد الناصر بداً من الإذعان فقرر إعادة محمد نجيب إلى موقعه وأعاد له كل سلطاته، لكنه احتفظ لنفسه بمنصب الحاكم العسكري، وأعلن عن إطلاق حرية الصحافة وانتخاب جمعية تأسيسية لمراجعة الدستور.
لقد كانت تلك واحدة من فرص الزمان التي لا تتكرر في الأعوام الطوال، كانت فرصة لإسقاط مجلس قيادة الثورة لم تتكرر قط، ولو أن الثورة الشعبية استمرت ولم تُخدَع بالوعود الكاذبة لسقطت الدكتاتورية الوليدة قبل أن تتحول إلى دينصور هائل ابتلع مصر وشعب مصر لعشرات السنين.
-7-
عاد محمد نجيب إلى الحكم (3/3/54) وبدأ بالسعي إلى إجراء انتخابات حرة ودعا إلى الإسراع برجوع الجيش إلى ثكناته ووقف العمل بالأحكام العرفية. بعد يومين (5/3/54) أعلن مجلس قيادة الثورة عن إجراءات لإعادة الحياة النيابية ووعد بعقد جمعية تأسيسية قبل الاحتفال بعيد الثورة الثاني (أي قبل 23/7/54) لمناقشة مشروع الدستور الجديد وانتخاب رئيس للجمهورية، كما وعد بإلغاء الأحكام العرفية والسماح بتكوين الأحزاب ووقف الرقابة على الصحف. بعد ذلك بثلاثة أسابيع كان الملك سعود في زيارة لمصر فضغط على عبد الناصر لإطلاق الإخوان قائلاً: “أريد أن يصلّوا معي غداً صلاة الجمعة في الأزهر”. استجاب عبد الناصر وأطلق سراح معتقلي الإخوان في اليوم التالي (25/3/54)، بل إنه زار المرشد في بيته!
لقد أوشكت الثورة الشعبية المضادة أن تنتهي بالنجاح، ولكن جمال عبد الناصر كان يخطط للتحرك السريع لترسيخ الدكتاتورية. نظّم مجلس قيادة الثورة مظاهرات غوغائية في القاهرة (28/3/54) شارك فيها أعضاء هيئة التحرير وعمال من وزارة الزراعة ووزارة النقل وقوات من الحرس الوطني الذي كوّنه المجلس سابقاً، جُمعوا كلهم من الأقاليم ونقلوا إلى القاهرة بالقطارات والحافلات. انطلق الغوغاء في جميع أنحاء القاهرة يهتفون ضد الدستور والأحزاب: “لا أحزاب ولا حزبية ولا جمعية تأسيسية”، وضد الحرية وضد الديمقراطية وضد البرلمان، ورتّب الجيش بعضَ التفجيرات في جامعة القاهرة وفي بعض محطات السكة الحديدية بهدف إرهاب المدنيين… وغرقت القاهرة في الفوضى لعدة أيام.
أخيراً تدخل مجلس قيادة الثورة (29/3/54) فأصدر جمال عبد الناصر -بصفته الحاكم العسكري- قراراً يقضي بتأجيل تطبيق قرارات الخامس من آذار (مارس) لمدة ثلاث سنوات. في اليوم التالي أعيدت الرقابة على الصحف وبدأت موجات اعتقال عاتية شملت الآلاف من المعارضين والمنادين بالحرية، وفشلت وساطة الملك سعود بين نجيب وعبد الناصر فغادر مصر.
بقيت أمام عبد الناصر آخر معاركه الكبرى، معركته مع “الإخوان المسلمين”. استعَرَت ضدهم الحملةُ الصحفية على مدى شهور، ثم بدأت موجة اعتقالات هائلة في صفوفهم، ثم وقعت حادثة المنشية الشهيرة في الإسكندرية (26/10/54) فبدأت على الفور واحدةٌ من أفظع حملات البطش والاعتقال في التاريخ. خلال بضعة أسابيع اعتُقل أكثر من ستين ألفاً من الإخوان وأقربائهم وأصدقائهم وسيقوا إلى المعتقلات، وكان آخر بيان وجّهه الهضيبي إلى الإخوان قبل أن يُعتقَل جاء في آخره: “أيها الإخوان، إن من شأن الدعوات أن لا تترخّص في شيء من أصولها، فكونوا مستعدين للموت في سبيل دعوتكم، فإن من مبادئنا “الموت في سبيل الله أسمى أمانينا”. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.
بعد تسعة عشر يوماً (14/11/54) اعتُقل محمد نجيب ووُضع رهن الإقامة الجبرية، فلم يُطلَق سراحه إلا بعد ستّ عشرة سنة، بعد وفاة عبد الناصر بسنتين. قبل نهاية 1954 كانت مصر قد دخلت في النفق المظلم.
-8-
لن أقول إن ساسة ذلك العهد وأحزابه يتحملون المسؤولية لأنهم فشلوا في استشراف المستقبل وأخفقوا في ملاحظة نتائج وتبعات سيطرة ضباط الجيش على الحكم. الآن وبعد تجارب مريرة طويلة عاشتها بلدان عربية وإسلامية (وغير عربية وغير إسلامية أيضاً) بعد كل تلك التجارب المؤلمة صرنا ندرك أن العسكر إذا قبضوا على السلطة حيناً كادوا لا يتخلون عنها أبداً. ربما لم تكن هذه الحقيقة واضحة في ذلك العصر، مع أن عدداً من الناس أدركوها. روى الأستاذ أحمد أبو الفتح في كتابه عن جمال عبد الناصر: “قال لي أخي المرحوم محمد أبو الفتح بعد حركة الضباط الأحرار بعدة أيام: كنت أتمنى أن يقوم الشعب بإخراج فاروق وبذلك تعود للمصريين حريتهم وحقوقهم، أما الجيش فإنه لن يعيدها أبداً”.
نعم، لن أحمّل أحداً من قادة مصر السياسيين في ذلك الوقت مسؤولية العجز عن استشراف المستقبل، ولكني أحمّلهم مسؤولية الإخفاق في قراءة الحاضر، أعني ما كان حاضراً يجري أمام أعينهم يوماً بعد يوم، ولو أنهم أحسنوا الإدراك وأحسنوا التصرف لما سقطت مصر في هاوية الاستبداد والاستعباد. كان واضحاً منذ الأسابيع الأولى التي أعقبت انقلاب الضباط الأحرار أن المجلس العسكري (أي مجلس قيادة الثورة الذي يقوده جمال عبد الناصر) أنه يضرب القوى السياسية واحدةً بالأخرى، فاستسلموا لخطته، وسَرّ بعضَهم أن يرى خصومَه وهم يسقطون صرعى بسيف العسكر، لم يدرك أن السيف نفسه سيقطعه عما قريب.
وإذا كان لي أن أعتب على الأحزاب التقليدية فإن عتبي على الإخوان المسلمين أكبر؛ لقد ارتكب الإخوان خطأ عظيماً جسيماً عندما سكتوا وسمحوا لعبد الناصر بضرب الوفد وبقية الأحزاب. كان بينهم وبين الوفد ثأر بسبب حلّ الجماعة واعتقال الآلاف من قادتها وأعضائها أيام النقراشي، وكان بينهم وبين السعديين ثأر بسبب اغتيال المرشد الأول الشهيد حسن البنا أيام إبراهيم عبد الهادي، ولكن كان ينبغي أن يدركوا أن المعركة ليست بين حزب وحزب ولا بين قوة سياسية وقوة غيرها، إنما هي معركة بين الحرية والحكم النيابي من جهة وبين الاستبداد والحكم العسكري من جهة أخرى، وكان الصواب أن تتّحد القوى السياسية كلها لإسقاط الدكتاتورية العسكرية، وبعدها تستطيع تلك القوى أن تتبارز بسلاح عادل يتساوى في حمله الجميع: الانتخابات والتأييد الشعبي.
ثم إنني ألوم القوى السياسية كلها لأنها ضيّعت فرصة العمر ولم تنجح في استثمار الثورة الشعبية العارمة التي فجّرتها إقالةُ اللواء محمد نجيب. لقد غمرت المظاهرات الشعبية الهائلة وادي النيل كله، من شمال مصر إلى جنوب السودان، وزلزلت الأرض من تحت أقدام العسكر وارتجفت قلوبهم وبدأ بعضهم يُعدّ العدة للهرب، أما قائد المجلس والحاكم العسكري -جمال عبد الناصر- فقد استعان بأقصى ما يملكه من دهاء وحنى رأسه للعاصفة، حتى إذا هدأت وانقشعت غيومُها الداكنة انصرف إلى خصومه فاستلّهم واحداً بعد واحد وضربهم فُرادى فلم ينجُ منهم أحد. حتى ضباط سلاح الفرسان الذين خرجوا من ثكناتهم ثائرين انتصاراً لنجيب ضيّعوا الفرصة وابتلعوا الطعم، وانتهى بهم الأمر بين مسرَّح ومعتقل وقتيل.
-9-
لي ولد في الثانوية اسمه كنان، يحبّ أن يسهّل الدراسة على نفسه فيبحث أحياناً عن أسئلة السنوات السابقة ويركز دراسته عليها؛ استغربت من فعله وقلت له ذات يوم ساخراً: وهل تظن أنهم سيكررون على الطلاب الأسئلة نفسها مرتين؟ فجاءني بعد حين وقال: انظر، لقد جاءت أسئلة هذه السنة كلها من امتحان سابق كان قبل ثلاث سنوات!
قد يبدو غريباً أن تتكرر أسئلة امتحان المدرسة مرتين، وأغرب منه أن تتكرر الامتحانات المصيرية في تواريخ الشعوب، وأشدّ غرابةً أن يكرر الشعب الأخطاء نفسها حتى ليوشك أن يدخل في النفق المظلم من جديد. لقد استغرقت رحلة الخروج من النفق الأول ستين سنة، فهل تطيقون ستين سنة أخرى يا أيها المصريون الكرام؟
لن تفعلوا، لن تدخلوا النفق مرة أخرى إن شاء الله. ليس اليوم كالأمس، لئن خُدعتم فيما مضى وغرّتكم الوعود فأنتم اليوم أوعى من أن تُخدعوا بالوعود. لئن نجح الطغاة في الماضي في تقييد الحرية بقيد خفي من بعد قيد فأنتم اليوم أحرص من أن تسمحوا للقيود بأن تلتفّ على الأيدي والأعناق.
لقد انكشف الخبيء وظهر المستور، وعلم الجميع أنها ليست معركة على انتخابات تكميلية ولا على تعديلات دستورية. إنها معركة بين الحرية والاستعباد، معركة بين الحق والاستبداد، ولن يضيع الحق -إن شاء الله- ما دام أهل مصر مستعدين للتضحية وعازمين على المضيّ إلى آخر الطريق. لقد سطا العسكر فيما مضى على مصر وأهل مصر في غفلة من الزمن، لن يقبل أحرار مصر أن تتكرر المأساة من جديد.
-10-
ينبغي أن تستخلص الأجيال الحاضرةُ والأجيال الآتيةُ العِبَر من درس الماضي الأليم، وينبغي على أحرار مصر بشكل خاص أن يستوعبوا الدرس ويحسنوا التصرف في هذه الأيام الحواسم وفيما بعدها:
(1) الاستبداد ليس ضماناً لأحد ولا يعمل لخدمة أحد، لأن المستبد لا يبالي إلا بنفسه. مَن اعتمد على مستبد ليوصله إلى الحرية ليس أحسن عقلاً ولا أوفر حظاً من نعجة قالت للذئب: أخشى على صغيراتي من وحوش الطريق فأرجوك أن توصلهنّ إلى الأمان!
(2) المستبد ليس أقوى من الشعب، ولذلك فإنه لا يعتمد على القوة بقدر ما يعتمد على الدهاء. المواجهة مع المستبدين تحتاج إلى عقول كبيرة وإلى الكثير من الصبر وطول النفَس، فردّوا على الكيد بكيد وعلى المكر بمكر، ولا تكلّوا ولا تملّوا ولا تستسلموا يا أيها الأحرار.
(3) المستبد قد يملك أسلحة كثيرة، ولكنه يعلم أنها كلها لا تكاد تفيد في مواجهة الشعب الحر ما لم يستسلم الشعب نفسه في المعركة، فاستمروا في ثورتكم ولا تستسلموا -يا أحرار مصر- مهما طال الطريق ومهما كثرت التضحيات
(4) أمضى أسلحة المستبد وأشدها فتكاً هو سلاح الرعب، لذلك ترونه يستعمل كل الأساليب القذرة لإرهاب الناس، فإذا استجابوا وخافوا ساعدوه على أنفسهم بأنفسهم، وإذا نزعوا من قلوبهم الخوف لم يغلبهم أبداً. لا تسمحوا لعدوكم بأن يغلبكم بالخوف، امضوا في درب الحرية مهما تكن التهديدات ومهما تكن التضحيات.
(5) المستبدّ عدو لكل الأحرار، فلا يجوز أن يتفرق الأحرار ويشتغل بعضهم بخلاف بعض، بل ينبغي أن يرصّوا صفوفهم ويوحدوا كلمتهم حتى يقضوا على الاستبداد، وإلا فكلهم خاسرون. إذا سكتت أي جهة عن أكل غيرها اليوم فهي المأكولة غداً. لماذا لا يقرأ الناس قصة الثيران؟
(6) وعود المستبدين أوهام، فلا تثقوا بوعد مؤجَّل لأنه تسويف ومماطلة لامتصاص الغضب ولتضييع الوقت ريثما يُعدّ المستبدون الخطة البديلة للهجوم. المستبد يمرّر كيده بمكر ودهاء، فاحذروا من ابتلاع الطعم الصغير، فإن القليل مع القليل يغدو كثيراً والصغير إلى الصغير يصير كبيراً بعد حين.
(7) لا تضيّعوا اللحظة الحاضرة، فإن الفرص الكبرى لا تتكرر كثيراً. ضيّع أهل ذلك الزمان فرصةَ الثورة الشعبية بعد إقالة نجيب، وكان ينبغي أن يكملوا الثورة وصولاً إلى إسقاط الحكم العسكري، وبعدها بسنوات طويلة ترك أحفادهم ميدان التحرير قبل الأوان وقبل اكتمال النصر فاستمر العسكر في الحكم حتى اليوم. وها قد عدتم اليوم إلى الميدان، فلا تتركوه قبل تمام الانتصار.
يا أهل مصر الكرام: ثورتكم لم تنته بعد، فأكملوها. إنما كان كل ما مضى جولة، ولقد انتهت تلك الجولة على ما انتهت عليه، فابدؤوا بالجولة الثانية ثم لا تقفوا حتى تبلغوا آخر الطريق. يا أيها الأحرار الأبطال: أقسموا أنكم لن تُخدَعوا مرة أخرى، أقسموا أنكم لن تقفوا ثورتكم هذه المرة حتى يكتمل سقوط النظام القديم، كل النظام القديم، وحتى تنتصر مصر وينتصر شعب مصر على الاستبداد.
ملاحظة: كتبت هذه الرسالة خلال الأيام الثلاثة الماضية، وها أنذا أنشرها مع إعلان نتائج الانتخابات دون أن أجد حاجة إلى تغيير أي حرف فيها. أهنئ شعب مصر العظيم بهذا الإنجاز التاريخي الكبير، وأكرر وصيتي التي أودعتها هذه الرسالة: احذروا المكر والمؤامرات وأكملوا الطريق.
<!--EndFragment-->
ساحة النقاش