صالح النعامي
فجأةً ودون سابق إنذار ملأ القائم بأعمال رئيس الوزراء الإسرائيلي شاؤول موفاز الدنيا ضجيجًا بحديثه عن مبادرة جديدة تهدف إلى استئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ومن أجل أن يضفي جِدّية على مبادرته أعلن موفاز أنَّ استئناف المفاوضات سيكون على أساس حدود عام 1967، وأعلن أنَّه بصدد عقد لقاء مع رئيس السلطة محمود عباس، لكي يعرض عليه هذه المبادرة.
وقد تزامن حديث موفاز عن مبادرته مع تسريبات إسرائيلية متواترة حول تواصل اللقاءات السرية بين عضو اللجنة المركزية لحركة " فتح" صائب عريقات وإسحاق مولخو، مبعوث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
مبادرة موفاز، كصاحبها تمامًا، لا تثير الانطباع ولا يجب أن يتم التعامل معها بأي قدرٍ من الجدية. فلا حاجة للتذكير بأنَّ الإعلان عن هذه المبادرة قد جاء في خِضَمّ حدوث طفرة هائلة في المشروع الاستيطاني اليهودي في أرجاء الضفة الغربية أقدمت عليها الحكومة التي يشارك فيها موفاز زعيم حزب كاديما، ليس هذا فحسب، بل إنَّ موفاز تحديدًا حرص في الآونة الأخيرة على لعب دور رئيس في الجهود الهادفة للبحث عن صيغ قانونية تسمح بإضفاء الشرعية على المشاريع الاستيطانية التي قام المستوطنون ببنائها بدون الحصول على تصاريح من الحكومات الإسرائيلية وصدر قرار من المحكمة الإسرائيلية العليا بإزالتها.
مرامي موفاز
إن كانت الأمور على هذا النحو، فلماذا أقدم إذن موفاز على طرح مبادرته؟ لقد كانت مبادرة موفاز الميتة جزءًا من عملية تبادل أدوار بينه وبين قوى اليمين المتطرف في ائتلاف نتنياهو. فقوى اليمين المتطرف، وعلى رأسها كتلة كبيرة من نواب ووزراء حزب الليكود الحاكم، الذي يرأسه نتنياهو تصرّ بشكل فجّ على مواصلة ليس فقط المشروع الاستيطاني، بل إنّها تتعمد تمرير قوانين في الكنيست تضفي شرعية على عمليات سلب الأراضي الفلسطينية الخاصة التي سَيْطَر عليها المستوطنون بالقوة.
ومن الواضح أنَّ هذا السلوك الإسرائيلي قد أثار ردود أفعال دولية غاضبة، علاوةً على أنَّ مثل هذه الخطوة تقلص هامش المناورة أمام قادة السلطة وتحرجهم أمام الرأي العام الفلسطيني، وتحاصر عباس الذي يصرّ على مواصلة التعاون الأمني مع إسرائيل في مواجهة المقاومة بكل ثمن. فمبادرة موفاز تهدف من ناحية إلى إعطاء الانطباع للعالم بأنَّ سلوك المستوطنين الذي يتم تغطيته من قِبَل الكيان الصهيوني لا يمثِّل نهاية المطاف وأنَّ حرص إسرائيل على المفاوضات يدلِّل على أنها مستعدة لبحث كل قضايا الحلّ الدائم.
ومن الواضح أنَّ استجابة عباس للبحث في مبادرة موفاز سيعطي انطباعًا مضللاً للمجتمع الدولي بأنَّ الجانب الفلسطيني بات مقتنعًا بأنَّ هناك ما يستحق بحثه مع الإسرائيليين، وهذا سيصرف الأنظار بكل تأكيد عن الاستراتيجية الإسرائيلية الهادفة إلى حسم مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة بشكل عمليٍّ عبر مشاريع الاستيطان والتهويد، وبالتالي تؤدّي إلى تقليص الانتقادات الدولية من جانب، وتحسن مكانة الكيان الصهيوني الدولية، فضلاً عن توفير ورقة التوت لقيادة السلطة لمواصلة التعاون الأمني مع الاحتلال، لا سيما وأنَّ طاقمًا من كبار المستشرقين الصهاينة أوصى مؤخرًا نتنياهو بالحرص على عدم الإسهام في المسّ بصدقية عباس ورئيس حكومته سلام فياض أمام الرأي العام الفلسطيني.
ومما يدفع إلى عدم التعامل بجدية مع مبادرة موفاز، ليس فقط العطاءات التي أصدرتها الحكومة التي يشارك فيها ببناء آلاف الوحدات السكنية، تحديدًا بعد أن أعلن مبادرته، بل موقف نتنياهو نفسه، الذي أعلن أن مستوطنة "بيت إيل"، التي تقع شمال شرق مدينة رام الله ستكون جزءًا لا يتجزأ من إسرائيل في أية تسوية سياسية مستقبلية للصراع مع الفلسطينيين.
فإن كانت مستوطنة "بيت إيل" التي تقع في قلب الضفة الغربية ستُضَمّ لإسرائيل في ظل أية تسوية، فعلينا أن نتصوَّر ماذا سيكون عليه الموقف الإسرائيلي من التجمعات الاستيطانية الأخرى. في الوقت ذاته، لا يمكن تجاهل الاعتبارات الشخصية التي حثّت موفاز على هذه المبادرة، فموفاز الذي تراجع عن كل تعهداته السابقة وقَبِل الانضمام لحكومة نتنياهو، بعد أن أدرك أنَّ حزبه في طريقه لتلقّي هزيمة نكراء في الانتخابات القادمة، يحاول أن يعطِي انطباعًا للرأي العام الإسرائيلي أنَّ وجوده في الحكومة يرتبط بأهداف "قومية" كبيرة، وليس مجرد خدمة مستقبله السياسي.
مبادرة بلا مرجعية
ومثل سائر المبادرات الإسرائيلية الهادفة إلى كسب الوقت والتضليل، فإنَّ مبادرة موفاز لا تستند إلى مرجعية واضحة؛ فحديثه عن أنَّ المفاوضات ستكون على أساس حدود 67، لا يعنِي أنَّ إسرائيل ستكون مستعدة للانسحاب إلى هذه الحدود، بل تعنِي أنه بإمكان الفلسطينيين أن يطالبوا بالانسحاب إلى هذه الحدود، في الوقت الذي سيكون بإمكان إسرائيل الردّ بالقول بأنها لا توافق على الانسحاب إلى هذه الحدود.
وفي الوقت ذاته، فإن إسرائيل تصرّ على أن تتم صياغة جدول أعمال أية مفاوضات لتتلاءم مع أولوياتها. فعلى سبيل المثال، يتضح من مبادرة موفاز أنَّ إسرائيل معنية أولاً وقبل كل شيء ببحث مسألة الترتيبات الأمنية؛ لأنها تدرك أنه لا يوجد طرف فلسطيني يمكن أن يوافق على حجم التنازلات التي تطلبها من أجل تحقيق الترتيبات الأمنية التي تطالب بها. هذا قبل الخوض في حجم التنازلات التي تطالب بها إسرائيل لدى طرح القضايا الرئيسية، مثل القدس والحدود والمستوطنات..الخ.
وأد المصالحة
لم يكن من قَبِيل الصدفة أن تتزامن مبادرة موفاز مع التطورات بشأن المصالحة وتوصل حركتي فتح وحماس لاتفاق يُمهِّد لتشكيل حكومة توافق. وليس سرا أنَّ هناك مصلحة استراتيجية لإسرائيل في الإبقاء على الانقسام الفلسطيني الداخلي. ومن الواضح أنَّ ممارسة الضغوط على السلطة من أجل الحيلولة دون عودتها للمصالحة ستكون أكثر تأثيرًا في حال تم استئناف المفاوضات بين الطرفين؛ لأنَّه في هذا الحالة بإمكان الأطراف الأمريكية والأوروبية الدخول على خط الضغوط.
إغراءات السلطة
للأسف أن مواقف السلطة الأخيرة، وتحديدًا الموقف الذي عبر عنه رئيسها محمود عباس يمثّل إغراءً للصهاينة لمواصلة الضغط عليه من أجل جرّه للمفاوضات الهادفة بشكل خاص إلى تحسين مكانة إسرائيل الدولية وقطع الطريق على المصالحة. فقد كان من الغريب والمستهجن أن يضع عباس شروطًا لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل، لا علاقة لها بالمفاوضات ذاتها. فعباس اشترط مؤخرًا أن تسمح إسرائيل بتوريد أسلحة خفيفة لأجهزة الأمن العاملة التابعة له في السلطة والإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين الذين اعتقلوا قبل التوقيع على أوسلو، وهؤلاء لا يتجاوز عددهم 150 معتقلاً. ومن الواضح أنه قد غاب عن هذه الموقف الشروط ذات العلاقة بالمفاوضات، مثل مطالبة السلطة بوقف الاستيطان والتهويد واعتراف إسرائيل بالمرجعية الدولية قبل الخوض في المفاوضات.
قصارى القول، ستنضمّ مبادرة موفاز إلى عشرات المبادرات الإسرائيلية التي هدفت دومًا لكسب الوقت وتضليل الرأي العام العالمي وإبقاء الانقسام الفلسطيني الداخلي.
إن الردَّ على هذه المبادرة يتمثل في التشبث بالثوابت الوطنية والإصرار على إنهاء حالة الانقسام. <!--EndFragment-->
نشرت فى 21 يونيو 2012
بواسطة mhmadshoo
عدد زيارات الموقع
276,846
ساحة النقاش