محمد شو

العالم بين يديك

فيصل جلول

ذهل صديقي الذي اتصل بمنزل روجيه غارودي لمعرفة موعد دفنه فقيل له إنه لن يدفن بل ستحرق جثته بناء على وصيته! ما يعني أن أحداً لن يصلي عليه وفق التقاليد الإسلامية، وبالتالي يكون الفيلسوف الذي اعتنق الإسلام قد فاجأ الجميع مرة أخرى بخيار جديد لا يتناسب مع الإيمان الذي أشهره عندما اعتنق الإسلام في العام 1982 في جنيف.

والراجح أن خيار دفنه لا يتناقض مع السيرة التعددية التي عاشها فيلسوفنا المتقلب بين الأديان والأيديولوجيات في مراحل مختلفة من حياته، فقد ولد لأب ملحد وأم كاثوليكية في مارسيليا جنوب فرنسا، وما أن بلغ الفتوة حتى اعتنق البروتستنتية وليس الكاثوليكية مذهب والدته، وهو لن يتوجه إلى دير مسيحي بل إلى الحزب الشيوعي الفرنسي ليصبح في العام 1933 ماركسياً متشدداً، وسينتقل من البروتستنتية إلى الكاثوليكية جامعاً ما بين الشيوعية والمسيحية بل منظّراً لدرب يصل بين التيارين، وقد أمضى عقداً بكامله من العام 1970، وحتى العام 1980، وهو يحاضر ويصدر مؤلفات تدعو إلى نوع من الكاثوليكية الاشتراكية والإنسانية.

أكبر الظن أن كاثوليكيته وافدة من صديقه الأب بيار الذي اشترك معه في مقاومة النازية ومكثا صديقين منذ العام 1950، وحتى وفاة رجل الدين الكاثوليكي الذي يتمتع بشعبية واسعة في فرنسا.

في ماركسيته كان غارودي تعددياً أيضاً، فهو يقول عن نفسه إنه كان ستالينيا من رأسه حتى أخمص قدميه، وفي مقالات كثيرة ودراسات منشورة يدافع بقوة عن ستالين ثم ينقلب عليه، ويبحث مع فيلسوف شيوعي آخر هو لويس التوسير في تحرير الماركسية اللينينة من الأثر الستاليني ويفترق عنه من بعد لينفرد بالجمع بين الماركسية والكاثوليكية ومن ثم ينظر للاشتراكية الإنسانية.

والراجح أن مجمل هذه المحاولات لم تحلق عالياً، وكان غارودي يختبر أثرها المحدود فيعمد مجدداً إلى اختبار نظريات أخرى واعتناق دين آخر، وهذا ما قاده نحو الإسلام في العام 1982، والظن الغالب أن هذا التاريخ ليس اعتباطياً، ففي هذا العام باءت آخر محاولاته السياسية بالفشل عندما خاض معركة الرئيس الراحل فرانسوا ميتران للوصول إلى قصر الإليزيه غير أن الرئيس الفائز لم يهبه الموقع السياسي الذي يستحقه فابتعد عنه وعن العمل السياسي المباشر، وفي العام نفسه كان قد صرف النظر عن "النموذج الفرنسي للاشتراكية"، وبدأ البحث عن وجهة جديدة سيعثر عليها عبر اعتناق الإسلام.

قبل النظر في تجربته الإسلامية لا بد من الإشارة إلى سيرته السياسية، فهو مقاوم سابق وقد تعرض للاعتقال من طرف النظام الفيشي الموالي للنازية ولم يفرج عنه إلا بعد أشهر من إنزال النورماندي وسيخوض لعقدين من الزمن تجربة سياسية غنية مع الحزب الشيوعي الفرنسي قادته إلى البرلمان حيث انتخب نائباً لدورتين وعضواً في مجلس الشيوخ ونائباً لرئيس الجمعية الوطنية "البرلمان"، كما عين خلال الفترة نفسها رئيساً لتحرير "دفاتر الشيوعية ومديراً لمركز الأبحاث والدراسات الماركسية" الأمر الذي جلب له لقب "كاردينال"، الشيوعية في الحزب الشيوعي الفرنسي نظراً لكاثوليكيته المعطوفة على ماركسية ستالينية ثم إنسانية ثم اشتراكية، أي خليط من المعتقدات الوسائل التي استخدمها من أجل الفوز بسلطة سياسية لن يقبض يوماً على زمامها، خصوصاً بعد أن طرد من الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1970 لأسباب تحريفية متعلقة بانتقاده للماركسية إثر الثورة الطلابية الشهيرة أو ما عرف حينه بالربيع الباريسي أو الفرنسي، وقد وسم هذه الفترة بكتاب شهير حمل عنواناً استفزازياً: هل يمكن للمرء أن يكون ماركسياً في العام 1968؟

الحقبة الإسلامية في سيرة غارودي تتسم ببعض الغموض فهو يقول إنه اعتنق الإسلام في الثامنة والعشرين من عمره أثناء حرب الجزائر حين كان مجنداً، وتعرض للأسر وكاد يقتل لولا أن قائد المعسكر الذي سجن فيه رفض قتل السجناء احتراماً للدين الإسلامي، لكن غارودي الذي انقذ الإسلام حياته لن يصبح مسلماً إلا بعد أكثر من ثلاثة عقود وبعد ان يختبر مذاهب أخرى.

في سيرته الإسلامية سيثير غارودي أيضاً عواصف من حوله لن تهدأ إلا قبيل وفاته، فقد انتهك بشجاعة وانتقام محرمات سياسية في بلاده عندما تعرض للمحرقة النازية وهاجم الصهيونية بقوة وتصدى للوبي الأقوى والأهم في فرنسا في مجالات الثقافة والسياسة والإعلام، فكان أن تعرض للعزل والمحاكمة والتهديد بالقتل، لكنه صار بطلاً في سن متقدمة في العالمين العربي والإسلامي، فقد استقبله الرئيس الإيراني محمد خاتمي، وعدد من المسؤولين العرب ودعي لإلقاء محاضرات في العديد من الجامعات ومراكز الأبحاث الإسلامية وتلقى مساعدات مالية من بعض الأثرياء العرب من أجل تغطية تكاليف المحامين والدعاوى القضائية التي رفعها ضد خصومه، أو التي أقيمت ضده، وقد انتهى الأمر بإدانته بتهمة "تحريف المحرقة" بالسجن مع وقف التنفيذ وبغرامة مالية كبيرة.

من غير المعروف بعد ما إذا كانت الجماعات المسلمة التي نعت غارودي قد عملت بوصيته الأخيرة بأن تحرق جثته لا أن تدفن على الطريقة الإسلامية، والراجح أن هذا الخبر لن يحمل المعنيين على التنصل من بيانات النعي، فهم والغالبية ممن تعاطفوا مع غارودي كانت دوافعهم سياسية أولاً وأخيراً، فقد كان عدواً لعدوهم وصوتاً عادلاً مؤيداً لقضيتهم، وهذا كافٍ للتعاطف معه وعدم التوقف عند تفاصيل سيرته المدهشة التي تمحورت حول خليط من الأديان والأيديولوجيات المجبولة بدوافع وأهداف إنسانية، ما يعني أن الراحل كان مسيحياً ومسلماً وماركسياً وإنسانياً وربما بوذياً في الآن معاً. بعبارة أخرى كان مؤمناً كما يريد لا كما تريد الأديان التي اعتنقها والأيديولجيات التي دافع عنها.

<!--EndFragment-->

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 39 مشاهدة
نشرت فى 20 يونيو 2012 بواسطة mhmadshoo

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

261,436